من رحـيـق اللغة «شوقى ورمضان ولى»
الأربعاء، 26 يوليو 2017 10:00 ص
هذا المقال من إعداد صديقنا المنوفى الخبير اللغوى الأستاذ الأحمدى الشلبى، وباعتباره شاعرا فهو متيم بالشعراء وخصوصا بشعر أمير الشعراء أحمد شوقى، وشاعر النيل حافظ إبراهيم ومن كان على شاكلتهما.
هذا المقال يبين سرعة بديهة أمير الشعراء، فضلا عن بلاغته وقدرته الكبيرة على الصياغة، ووصف حتى الأشياء التى قد لا يعرف لها مذاقاً.
يقول الأستاذ الشلبى: «من الطرائف التى رواها إمام الدعاة، الإمام محمد متولى الشعراوى - غفر الله له ولنا - أنه اصطحب أحد أبناء بلدته دقادوس، وهو الشاعر البياضى، لزيارة أمير الشعراء أحمد شوقى، فسأله أمير الشعراء هل تحفظ شيئا من شعرى، فقال له الإمام - وكان فتى يافعا- : أحفظه كله، فقد كان والدى يعطينى ريالا على كل قصيدة أحفظها لك، ولكن لى عتاب بدافع الغيرة الإسلامية، فقال له شوقى وما دافع عتابك، فقال الإمام قصيدة قلت فيها:
رمضان ولى هاتها يا ساقى *** مشتاقة تسعى إلى مشتاق
فقال له شوقى أو تحفظ القرآن ؟ فأجاب الإمام..نعم أحفظ القرآن كاملا، فقال له شوقى اقرأ خواتيم سورة الشعراء. فقرأ الشعراوى حتى وصل إلى قوله تعالى «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» فقال له شوقى هذا ردى عليك، فليس كل ما يقوله الشاعر يفعله، ففطن الشعراوى لمقصد أمير الشعراء واتصرف مبتسما راضيا.
والمدقق فى تلك القصيدة يجد أن شوقى بعد المطلع النُواسى الخمرى وتمنيه انتهاء شهر الصيام الفضيل حتى يمن عليه العيد بالإطلاق من الصيام؛ متعللا وراجيا عفو الله وغفرانه للذنوب فقد ضاق من قيود الطاعة؛ وقد جاوبته الخمر شوقا بشوق؛ فقد ضحكت سرورا به ؛فلونها الأحمر القانى أو الأصفر؛ شهيان كالحسان كل له مذاقه؛ ثم يطلب من صاحبه أو ساقيه أن يسقيه دهاقا أى كأسا مملوءة، حتى يغيب عما يلاقيه فى وطنه، والرمزية بادية وواضحة بلا عناء فى الأبيات.
رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقى *** مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ
ما كانَ أَكثَرَهُ عَلى أُلّافِها *** وَأَقَلَّهُ فى طاعَةِ الخَلّاقِ
اللَهُ غَفّارُ الذُنوبِ جَميعِها *** إِن كانَ ثَمَّ مِنَ الذُنوبِ بَواقي
بِالأَمسِ قَد كُنّا سَجينَى طاعَةٍ *** وَاليَومَ مَنَّ العيدُ بِالإِطلاقِ
ضَحِكَت إِلَيَّ مِنَ السُرورِ وَلَم تَزَل *** بِنتُ الكُرومِ كَريمَةَ الأَعراقِ
ويقينى أن شوقى لو كان بيننا الآن لجذب إليه زق الخمر إليه واتكأ. وشرب حتى الثمالة؛ حقيقة لا رمزا ولتمزق فؤاده الوطنى واشتعلت أحرفه وأبياته، والتاعت قصائده هما وغما وكمدا؛ ولجاوبه الوطنيون شجوا بشجو ؛ ولوعة بلوعة.
ثم تأتى لحظة التنوير فى القصيدة. فشوقى - رحمه الله وغفر له ولنا جميعا - أراد ان يحتسى الخمر؛ رمزا ؛ ليغيب عن الوعى عما يحدث بوطنه الغالى الحبيب من نفاق؛ فكأس الهموم أشد وطأة على نفسه الممزقة بهموم وطنه ؛ فحال وطنه أضناه وأبكاه حزنا وإشفاقا عليه؛
هاتِ اِسقِنيها غَيرَ ذاتِ عَواقِبٍ *** حَتّى نُراعَ لِصَيحَةِ الصَفّاقِ
صِرفاً مُسَلَّطَةَ الشُعاعِ كَأَنَّما *** مِن وَجنَتَيكَ تُدارُ وَالأَحداقِ
حَمراءَ أَو صَفراءَ إِنَّ كَريمَها ***كَالغيدِ كُلُّ مَليحَةٍ بِمَذاقِ
وَحَذارِ مِن دَمِها الزَكِيِّ تُريقُهُ *** يَكفيكَ يا قاسى دَمُ العُشّاقِ
لا تَسقِنى إِلّا دِهاقاً إِنَّنى *** أُسقى بِكَأسٍ فى الهُمومِ دِهاقِ
فَلَعَلَّ سُلطانَ المُدامَةِ مُخرِجى *** مِن عالَمٍ لَم يَحوِ غَيرَ نِفاقِ
والعيد والسعد والفرح عند شوقى؛ حينما يرى وطنه فى أمة شماء محلقة فى سماء المجد والعلياء؛ يحوطه القيم النبيلة والأخلاق الراقية؛ فلا عيد له إلا بذلك، ويذهب شوقى إلى أن الكرام من أبناء وطنه؛ذهبوا وتركوه وحيدا يعانى ويقاسى فى قوم بلا أخلاق بلا مبادئ بلا وطنية. ثم يتساءل شوقى فى مرارة وألم وحسرة ؛ متعجبا من خذلان أبناء وطنه لبعضهم البعض؛ ثم يقال أننا أصحاب حضارة؛ وماض عريق؟! إن هذه النفس الملتاعة الممتازة الوطنية والقومية العربية والإسلامية الفياضة بحب الوطن والرثاء لحاله وتمزقه.
وَطَنى أَسِفتُ عَلَيكَ فى عيدِ المَلا *** وَبَكَيتُ مِن وَجدٍ وَمِن إِشفاقِ
لا عيدَ لى حَتّى أَراكَ بِأُمَّةٍ *** شَمّاءَ راوِيَةٍ مِنَ الأَخلاقِ
ذَهَبَ الكِرامُ الجامِعونَ لِأَمرِهِم *** وَبَقيتُ فى خَلَفٍ بِغَيرِ خَلاقِ
أَيَظَلُّ بَعضُهُمُ لِبَعضٍ خاذِلاً *** وَيُقالُ شَعبٌ فى الحَضارَةِ راقي
فالله – سبحانه وتعالى – إذا أراد الشقاء لأمة جعل الهداة بها دعاة شقاق وتمزق. رحمك الله يا أمير الشعراء وغفر لك وللمسلمين؛ فقد لمست بل نكأت الجرح الغائر الدامى الذى ينخر فى جسد وعظام الأمة بصورة يعجز عنها المعاصرون؛ وكأنه زرقاء اليمامة.
ثم يقدم شوقى الترياق الناجع؛ والشفاء من أمراض الأمة التى ألفت التمزق والتشرذم؛فى سادية يحسدنا عليها الأعداء وننفذ بأيدينا ما عجزوا عنه.
وَإِذا أَرادَ اللَهُ إِشقاءَ القُرى *** جَعَلَ الهُداةَ بِها دُعاةَ شِقاقِ
العيدُ بَينَ يَدَيكَ يا اِبنَ مُحَمَّدٍ *** نَثَرَ السُعودَ حُلىً عَلى الآفاقِ
ثم راح شوقى يمتدح الخديو ويهنئه بقدوم عيد الفطرالمبارك الذى نثر السعودوالبهجة على الآفاق؛ فالعيد هناء وسعد للفقراء؛ فهو يمثل لهم وقتا للأرزاق من عطايا وزكاة وفرج عليهم من بركات الله.
والمنعم سبحانه وتعالى يجزل العطاء لخلقه حيث يتلاقى الأجران ؛ أجر الصيام وأجرالإنفاق والزكاة والصدقات.
وَأَتى يُقَبِّلُ راحَتَيكَ وَيَرتَجى *** أَن لايَفوتَكُما الزَمانَ تَلاقِ
قابَلتُهُ بِسُعودِ وَجهِكَ وَالسَنا *** فَاِزدادَ مِن يُمنٍ وَمِن إِشراقِ
فَاِهنَأ بِطالِعِهِ السَعيدِ يَزينُهُ *** عيدُ الفَقيرِ وَلَيلَةُ الأَرزاقِ
يَتَنَزَّلُ الأَجرانِ فى صُبحَيهِما *** جَزلَينِ عَن صَومٍ وَعَن إِنفاقِ
ثم ينتقل بنا شوقى فى رشاقة وتصوير بيانى معجز؛ فيقر أنه يترفع عن القتال والعنف إلا قتال البؤس والحرمان والعوز الشديد؛ ويرى شوقى أن أمراض العالمين وسمومه القاتلة كثيرة ؛ والشفاء منها لا يكون إلا بالتعاون والتآذر، فالدنيا فرقت بين بنيها وأهلها واستبدت فوقهم وعليهم؛ وديدنها العقوق وعدم البر ببنيها.
إِنّى أُجِلُّ عَنِ القِتالِ سَرائِرى *** إِلّا قِتالَ البُؤسِ وَالإِملاقِ
وَأَرى سُمومَ العالَمينَ كَثيرَةً *** وَأَرى التَعاوُنَ أَنجَعَ التِرياقِ
قَسَمَت بَنيها وَاِستَبَدَّت فَوقَهُم *** دُنيا تَعُقُّ لَئيمَةُ الميثاقِ
وَاللَهُ أَتعَبَها وَضَلَّلَ كَيدَها *** مِن راحَتَيكَ بِوابِلٍ غَيداقِ
ثم يواصل شوقى مدحه للخديوى مؤكدا أن الله قد أتعب كيد الدنيا وجعله فى تضليل من كرم حباه الله للخديوى فقد راح الخديوى يضمد ويأسو جراح البائسين ويعطى المحتاجين ويحفظ الأنفاس فى الأرماق الباقية منها، وهذا خاص يراد به العام.
فالكرام بلغوا المجد حينما جروا له وسعوا إليه مهرولين أما أنت فقد حزته بسرعة البراق ؛حتى أنهم رأوا غبارك عند السهاوالسُّها كوكب صغير خفى الضوء فى بنات نعش الكبرى أو الصغرى. فكيف لهم اللحاق به وهو النجم السامق بسماء المجد؛ ويقول للخديوى إن كل أحلام البلاد ومناها أن تبقى لها حتى يدوم عزها ومجدها؛فلقد سبقت كل الناس مهنئا بالعيد؛ وكيف لا وأنا الشاعر المتفرد فى معانيه سباق إلى كل سؤدد؛ فأنا محافظ على ودادك ورضاك وولائى هو أنفس ما أقتنيه وأحوزه؛ فالقلوب وأنت تسكن صميمها أرسلت إليك تهانيها من أعماقا؛ ثم أضفى على نفسه صفات الكرم الطائى بشعره الرخيم الذى هز ونبه به أبا إسحق الموصلى المغنى الخاص لهارون الرشيد.
يَأسو جِراحَ اليائِسينَ مِنَ الوَرى *** وَيُساعِدُ الأَنفاسَ فى الأَرماقِ
بَلَغَ الكِرامُ المَجدَ حينَ جَرَوا لَهُ *** بِسَوابِقٍ وَبَلَغتَهُ بِبُراقِ
وَرَأَوا غُبارَكَ فى السُها وَتَراكَضوا *** مَن لِلنُجومِ وَمَن لَهُم بِلَحاقِ
مَولايَ طِلبَةُ مِصرَ أَن تَبقى لَها *** فَإِذا بَقيتَ فَكُلُّ خَيرٍ باقِ
سَبَقَ القَريضُ إِلَيكَ كُلَّ مُهَنِّئٍ *** مِن شاعِرٍ مُتَفَرِّدٍ سَبّاقِ
لَم يَدَّخِر إِلّا رِضاكَ وَلا اِقتَنى *** إِلّا وَلاءَكَ أَنفَسَ الأَعلاقِ
إِنَّ القُلوبَ وَأَنتَ مِلءُ صَميمِها *** بَعَثَت تَهانيها مِنَ الأَعماقِ
وَأَنا الفَتى الطائِيُّ فيكَ وَهَذِهِ *** كَلِمى هَزَزتُ بِها أَبا إِسحاقِ
إنتهى مقال الرجل وقد أمتعنا بشعر أمير الشعراء وسرعة بديهته.
ولربما لو كان أمير الشعراء – رحمه الله تعالى - حياً فى وقتنا هذا لقال شعرا مخالفا فى أم الكبائر. ولكن معظم استهلالات الشعراء كلاما فقط.
وبالله التوفيق