سلطة الصحافة وصحافة السلطة
الإثنين، 17 يوليو 2017 02:44 م
موقف الحكم في كل العهود من الصحافة واحد، مع اختلاف قبضة اليد، قوية وأخرى غشيمة وثالثة ذكية، وقبضة تسمح ببعض الحريات نتيجة الظروف، هكذا يرى الكاتب الصحفي الكبير محمد العزبي علاقة السلطة بالصحافة في مصر، وفي حضرة بعض الذكريات في كتابه الأخير «الصحافة والحكم»، الصادر في أكتوبر 2015 عن سلسلة كتاب الجمهورية، يشير العزبي إلى أنه كان يتحسس قلمه كلما لاح في الأفق حبس صحفي، فيخال سن القلم وقد انقصف، ويخشى أن ترتعش يده، مع أنه لم يكن معارضاً يتجاوز الحدود، أو مشاغباً تطيش كلماته، أو في قلبه هوى، هكذا يحكي أحد رواد صاحبة الجلالة المصرية، ممن عاشوا معها مسيرة علاقتها بالسلطة عبر عدة عهود، وفي مواجهة حكام تنوعت بالفعل أشكال قبضات أياديهم على حرية الصحافة، ولكنهم اتفقوا على ضرورة أن تبقى قبضتهم قوية هناك.
من العزبي إلى أنيس منصور، تولى الراحل الكبير رئاسة تحرير مجلة (الجيل) في مطلع الخمسينيات، وكانت تصدر في ذلك الوقت عن مؤسسة أخبار اليوم، وقتها استقبل رسالة بمجرد تعيينه من العملاق مصطفى أمين قال فيها: "عزيزي أنيس، إنني أعرف أكثر من غيري ما هو منصب رئيس التحرير، إنه أكبر خازوق في دنيا الصحافة".. تضحك قبل أن تتأمل رسالة مصطفى أمين، فتشعر وكأن الرجل رحمة الله عليه، كان يقرأ مستقبل صدامه الشهير مع السلطة بعدها بسنوات قليلة، الحكي يطول عن علاقة الصحافة بالسلطة، فنستخلص من التاريخ أن هذه العلاقة لابد وأن تكون وتتواصل شائكة، وإلا فقدنا سلطة الصحافة لصالح صحافة السلطة.
أعود بكم من التاريخ إلى الحاضر، وأفتح معكم دستور جمهورية مصر العربية الحالي، دستور 2014، فنجده يمكن بقوة لحرية الصحافة التي تستمد منها سلطتها، فيمنحها بالتبعية الحماية الدستورية، وذلك من خلال مادتين، المادة 70: "حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي، وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظمه القانون، وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعي والمرئي والصحف الإلكترونية".. والمادة 71: "يحظر بأي وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها، ويجوز استثناءً فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فيحدد عقوباتها القانون".
لماذا الحماية الدستورية لحرية الصحافة؟.. لإنها إحدى أهم أدوات الرقابة الشعبية في مواجهة سلطات الدولة الثلاثة، التنفيذية والتشريعية والقضائية، أو هكذا يجب أن تكون، ومن هنا تستمد قوتها وتستحق موقع السلطة الرابعة، فإذا تابعنا أداء الصحافة المصرية الراهن في مجمله، فلا نجد إلا أن رقابة الشعب (سلطة الصحافة) تتراجع بقوة في مواجهة موالاة الدولة (صحافة السلطة)، ورغم أنه من المفترض أن القيود جميعها قد تحطم في السنوات الستة الماضية، إلا أن إثبات حسن السير والسلوك في بلاط صاحبة الجلالة لا يزال يتقدم على المهنية، وحرية الصحافة تكاد لا تكون في الحسبان، وإن وجدت سلطتها، فلا توجد إلا بمنطق أسد علي وعلى الدولة ومؤسساتها نعامة، وكل هذا لا يصب بأي حال من الأحوال، لا في مصلحة الشعب، ولا بالقطع في مصلحة الدولة أو أي من مؤسساتها.
وأختم معكم بمشهد آخر طريف عن علاقة السلطة بالصحافة، ولكن من أحدث ما صدر في هذا الملف، كتاب (الملك والكتابة)، لصاحبه الكاتب الصحفي محمد توفيق، المهتم دائماً بسيرة المهنة وأهلها، والصادر حديثاً عن دار دلتا للنشر والتوزيع، فيحكي ضمن ما يحكي في كتابه، أن الكاتب الساخر الكبير محمود السعدني، كان قد توجه في أربعينيات القرن الماضي بصحبة صديقه رسام الكاريكاتير الشهير طوغان، إلى زيارة صديقه المبدع رائد الفن الشعبي زكريا الحجاوي في منزله، فلما دخلا بيت الحجاوي، فوجئا بضيف لم يتعرفا عليه من قبل، فسأل السعدني مضيفهم الحجاوي: "مش تعرفنا على ضيفك؟".. فأجاب الحجاوي: "هذا الشخص سيحكم مصر في يوم من الأيام".. فعلق السعدني ضاحكاً بسخريته الشهيرة: "ده حيحكم مصر؟!.. ده شكله مخبر!!".. بعدها قامت ثورة يوليو، واكتشف الجميع أن من التقوه في منزل الحجاوي أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبعد رحيل جمال عبد الناصر، صار من كان يجلس معهم يوماً في منزل زكريا الحجاوي سيادة الرئيس محمد أنور السادات.