رحيل ادوار الخراط يكتب نهاية "عام الأحزان الثقافية"

الإثنين، 07 ديسمبر 2015 07:20 ص
رحيل ادوار الخراط يكتب نهاية "عام الأحزان الثقافية"
الأديب إدوار الخراط

حل اليوم الأول من الشهر الأخير في عام 2015 ليحمل النبأ الحزين عن رحيل المبدع المصري ادوار الخراط ، وهذا العام الذي يستعد للرحيل يحق وصفه "بعام الأحزان الثقافية" ، بعد ان شهد رحيل ثلة من كبار المثقفين والمبدعين المصريين والعرب مثل سليمان فياض وجمال الغيطاني وخليل كلفت وفاطمة المرنيسي.

واذ تتوالى الطروحات والمقالات في الصحف حول ادوار الخراط صاحب اكثر من 50 كتابا من بينها المجموعة القصصية :"حيطان عالية" وروايات" رامة والتنين" و"الزمن الآخر" و"يقين العطش" ، فإن الموت يبقى قضية مركزية في ابداعات وأفكار وحوارات المثقفين في كل مكان وزمان.

وإذا كان الكاتب المصري الكبير محفوظ عبد الرحمن أطال الله عمره قد قال مؤخرا في سياق مقابلة صحفية: "عشت اكثر مما أرغب وانتظر الموت" ، بل وذهب الى أن "أجمل لحظة في الحياة هي الموت" ، معتبرا أن "التفكير في الموت وانتظاره" لا يعني أبدا أنه متشائم ، فقضايا الموت حاضرة في الوجود الابداعي لكتاب كبار في الغرب أيضا.

وفي كتاب جديد صدر بالانجليزية بعنوان : "تاريخ مختصر للموت" يقول المؤلف ويليام سبيلمان إن ادراكنا لقضية الموت والموتى يؤطر ثقافتنا ، فيما يتوقف طويلا عند اللحظة الأولى الموغلة في عمق التاريخ التي ادرك فيها الإنسان معنى الموت والعلاقة بين الحي والميت.

ولا جدال أن القضية تختلف باختلاف ظروف كل شخص في هذه الحياة الدنيا ، فهناك من قد تدفعه معطيات حياته للترحيب بالموت ودخول القبر في أسرع وقت ممكن ، وهناك من تفزعه كلمة الموت وترهبه مسألة الذهاب للقبر.

وكما هي العادة في هذا النوع من الكتب ، فإن هذا الكتاب الجديد يطرح أسئلة لا تجد اجابات شافية ، فيما عمد المؤلف سبيلمان لتكثيف بحثه في قضية الموت التي تحير آلإنسان منذ أن وجد نفسه في الأرض.

والكتاب يتناول الموت كظاهرة طبيعية واشكالية تنطوي على عنف احيانا ، كما يبحث في الجوانب النفسية والاجتماعية والفلسفية والدينية والروحانية للموت في شتى أنحاء العالم ومنذ كهوف العصر الحجري القديم حتى عصر الحداثة وما بعد الحداثة.

بطبع الحال يسرد المؤلف في كتابه الجديد الكثير من المعلومات عن المقابر وطرق الدفن وسبل مواجهة الإنسان لغائلة الموت ومحاربة الأمراض والأوبئة ، فيما ينقل عن الفيلسوف الأسباني ميجويل دي اونامونو ملاحظة دالة وهي أن الإنسان استخدم الحجارة في بناء المقابر والأضرحة قبل أن يستخدمها في بناء المنازل وملاحظة أخرى للفيلسوف الألماني هيجل فحواها أن المقابر كانت اولى تجليات فن العمارة.

وكما يلاحظ ويليام سبيلمان فحتى الإنسان الأولي في مبتدأ التاريخ الإنساني لم يتعامل أبدا مع الإنسان الميت كمجرد جيفة ، فيما يتجول عبر الثقافات المختلفة ومواقفها من الموت.

وكان محفوظ عبد الرحمن قد ذكر في مقابلة مع جريدة " الشروق" القاهرية انه طلب من أاسرته عدم إقامة سرادق عزاء له لأنه لا يود أن تكون لحظة وداعه "مسألة تقليدية"، او أن يتسبب في اجهاد الناس لكن اسرته رفضت هذا الطلب تماما.

وأضاف هذا المبدع المصري الكبير في عالم الدراما التلفزيونية والمسرح: "الشيء المدهش انني رغم أن فكرة الموت لا تخيفني لكنني أخاف أن افقد الناس ، وأصعب شيء في حياتي حينما أتلقى خبر وفاة أحد المقربين لي" ، معيدا للأذهان أن تلقيه خبر وفاة الكاتب أسامة أنور عكاشة الذي قضى في الثامن والعشرين من مايو عام 2010 وهو من اصدقائه المقربين كان "أمرا مروعا" بالنسبة له.

ولئن كان الكاتب الروائي الراحل جمال الغيطاني قد توج في شهر يونيو الماضي بأهم جائزة ثقافية مصرية في الآداب وهي "جائزة النيل"، فإن ادوار الخراط حصل عليها للمفارقة في العام الماضي تتويجا لرحلة ابداعية ثرية.

فادوار الخراط الذي ولد في في السادس عشر من مارس عام 1926 بالإسكندرية هام في "ترابها الزعفران" ، وهو أيضا صاحب "بنات اسكندرية" بكل الحروف النابضة بحب المدينة الحلم وعروس البحر المتوسط والتي كان له ان يوارى ثراها.

وعند المفكر اللبناني علي حرب والذي تجلى "منظوره التفكيكي" في كتاب اصدره مؤخرا بعنوان "المصالح والمصائر" فان الكائن الإنساني المحدود بحكم "الموت" يسعى لتحقيق مبدأ الإحساس بقيمة الحياة بوصفها مكانا للمغامرة والإبداع عبر البحث عما هو خفي والكشف عما هو مجهول وغريب ولعلها ايضا وسيلته في البحث عن الخلود و"الامتداد في الزمن والجماعة الإنسانية".

وعن عمر يناهز 75 عاما رحلت مؤخرا في المغرب مثقفة كبيرة هي الكاتبة وعالمة الاجتماع المرموقة فاطمة المرنيسي التي وصفها بعض المثقفين العرب "بشهرزاد البحث الاجتماعي في العالم العربي"، فيما عرفت بنضالها الفكري دفاعا عن حقوق النساء وإن كانت بعض أفكارها الجريئة في هذا السياق قد أثارت جدلا واسعا ومساجلات حادة من المحيط الى الخليج.

وفيما وجهت انتقادات لاذعة للنظرة الغربية النمطية للمرأة العربية رأت الراحلة فاطمة المرنيسي أن المرأة في الغرب المعاصر أيضا تعاني من الاستلاب و"العبودية المستترة"، وسعت كعلم من أعلام "السوسيولوجيا العربية" وباحثة أصيلة جمعت ما بين الكتابة النظرية والعمل الميداني للتذكير باسهامات أصيلة للحضارة العربية - الاسلامية على صعيد قضايا تحرير المرأة.

وبهاء الكلمة يجمع بين الراحلين ادوار الخراط وفاطمة المرنيسي وجمال الغيطاني وسليمان فياض الذي قضى في شهر فبراير الماضي وبقدر تنوع وغنى وخصوبة كتاباته وابداعاته يحق وصفه بأنه علامة أصيلة في التاريخ الثقافي المصري.

كما تدخل بعض كتابات سليمان فياض "المجاور العظيم واحد مبدعي زمن القصة والرواية المصرية" في مجال التاريخ الثقافي والمقاومة بالمعنى الشامل وولع مواجهة القبح والتخلف مع انحياز باسل لجماهير شعبه المصري وامته العربية.

والسيرة الذاتية لسليمان فياض بابداعاتها القصصية والروائية ومشاريعها اللغوية تكشف عن طرف من ظاهرة ثقافية مصرية أصيلة يمكن وصفها "بجدل المعممين والمطربشين" ، فسليمان فياض طالب العلم في الأزهر الشريف هو ذاته المثقف الطليعي واحد دعاة الدولة المدنية الديمقراطية في مصر.

وبدأ سليمان فياض مسيرته الابداعية بكتابة القصة القصرة واصدر مجموعات قصصية من بينها :"عطشان ياصبايا" عام 1961 ، و"بعدنا الطوفان" عام 1968 ، و"ذات العيون العسلية" عام 1992 ، بينما ترجمت روايته "أصوات" الصادرة عام 1972 الى عدة لغات ، وكان بأعماله القصصية والروائية في قلب "زمن القصة والرواية في مصر والعالم العربي".

انه صاحب "أحزان حزيران"، و"العيون"، و"وفاة عامل مطبعة"ن و"الصورة والظل"، و"زمن الصمت والضباب" الذي سيبقى دوما نجما هاديا في سماء الابداع والثقافة المصرية والعربية مثله مثل ادوار الخراط وجمال الغيطاني صاحب الرؤية الصوفية التي تمزج الأدب بالفلسفة.

وهكذا تعاطى المبدع الراحل جمال الغيطاني مع اسئلة الحياة والموت ، فيما اعتبر أن الرحيل عن الحياة الدنيا مفتتح لبدء جديد وسكة مغايرة ، فجمال الغيطاني الذي تأثر أيما تأثر بالموروث الثقافي الثري لأعلام المتصوفة واجترح لغة اقطاب التصوف وفي مقدمتهم النفري وابن عربي وجلال الدين الرومي كان "صاحب موقف صوفي حيال الموت" ولعل عمله الثقافي الابداعي الكبير "التجليات" من اهم اعماله التي تحوي تبصراته وتأملاته في رحلة المسير والمصير الإنساني.

وبروحه الإيمانية استقر في وجدان الغيطاني قول الحق:" وماتدري نفس ماذا تكسب غدا وماتدري نفس بأي ارض تموت" بينما بدا صاحب جائزة النيل في الآداب مشغولا في كتاباته الأخيرة بفكرة "الوداع" كما يتجلي في "دفتر الدفاتر" الذي تضمن عنوانين دالين:" في وداع اشياء" و"في وداع اماكن".

وكان المبدع الكبير وصاحب مقولة: "جئنا الى الدنيا وسنمضي عنها وسنترك آخرين يأملون في قدوم الأيام السعيدة" قد انتقل في صباح الثامن عشر من شهر اكتوبر الماضي " للرفيق الأعلى بعد معاناة مع المرض استمرت عدة أشهر.

ولئن كان جمال الغيطاني قد ذكر في "التجليات" انه ودع والدته في "يوم سبت" ورحل والده "يوم ثلاثاء"، متسائلا عن اليوم الذي سيكون مختتمه في الحياة الدنيا فقد قضى كتابه أن يكون رحيله "يوم أحد" ، وان يجيب هذا اليوم عن تساؤلات مشبعة بنظرته الفلسفية الصوفية وبلاغة الشجن مثل: "أمي ودعت ابي وانا اعيش وداعها فمن سيسعى في اثري ؟ من سيشيعني.. وعلى اي مشهد سأغمض مقلتي الى الأبد" ؟ّ!

والموت قضية فلسفية مثيرة للجدل فيما الفيلسوف اليوناني افلاطون - صاحب مقولة خلود الروح الإنسانية - هو الذي اعتبر أن روح الإنسان سجينة الجسد وان هذه الروح التي لاتموت انما تتحرر بموت الجسد غير انه اعتقد أن الروح تحلق بعد موت الجسد وقد تطرت من كل الذكريات في نهر النسيان وهي فكرة يراها ويليام سبيلمان مريحة لأحياء كثر.

أما الفيلسوف اليوناني ابيقور فكان صادما في تناوله لقضية الموت عندما ذهب الى أن "الموت هو الموت" وفي ذلك اتفق معه الفيلسوف والشاعر الروماني لوكريتيوس ، وهي فكرة يؤيدها بعض كبار المثقفين المعاصرين في الغرب مثل عالم البيولوجيا البريطاني ريشارد دوكنز و العالم الأمريكي ستيفن جاي جولد الذي قضي عام 2002 وكان متخصصا فيما يعرف بنظرية التطور حيث يذهب هذا الفريق الى أن الذرات تذهب عند الموت للطبيعة التي جاءت منها ولا تعود منها ابدا.

وهذه الفكرة العدمية يراها سبيلمان في كتابه الجديد مضادة لأغلب ما يعتقده البشر من حياة بعد الموت ناهيك عن الأديان التي منحت واقعة الموت معنى مخالفا تماما لهذه العدمية فيما لايغفل مؤلف هذا الكتاب اتجاه البعض" لعيش الحياة كما هي بغموضها وجمالها دون شغل البال كثيرا بقضية الموت".

لكن ما يدخل في جوهر القضية أن الكثير من البشر كما يقول مؤلف هذا الكتاب الجديد يريدون لأنفسهم نوعا من الخلود والاستمرارية على نحو او اخر وليس كل إنسان على استعداد لقبول فكرة الرحيل من الدنيا وترك مكانه في الحياة لآخرين او التسليم بمقولة أن الموت مسألة جوهرية للحياة.

ويرى فيليب اريس المؤرخ الأكثر انشغالا واشتغالا على فكرة الموت في القرن العشرين ، وأن الإنسان في الغرب بدأ يتحول بتفكيره من موت الآخر الى موت الذات في عصر النهضة .

واذا كان الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش الذي قضي في شهر اغسطس عام 2008 أوصى بأن يدفن في مدينة رام الله وتكتب على قبره عبارته الشعرية : "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" ، فهل يعشق الموت حقا مباغتة من يعانقون الحياة وتجريد أحبابهم من أحلامهم؟!

صحيح أن أحدا من الموتى لم يعد ليخبرنا بالحقيقة كما قال محمود درويش تماما كما أن الموت لا يستأذن أحدا أيا كان قبل أن يحول أسماء تضج بالحياة لأسماء صامتة بين جدران المثوى الأخير على الأرض لكنها باقية في قلوب المحبين الذين استبد بهم الشوق للحظة لقاء جديد.

وجمال الغيطاني صاحب كتاب " أوراق شاب عاش منذ الف عام" هو الذي تساءل ايضا في سفر تجلياته :"اي موقف سيبرق من الماضي بينما العتمة تهوي علي ؟" وكان مهموما بفكرة الفراق وتأثر كثيرا لرحيل والدته غير انه وجد ترياقه في معينه الصوفي الذي شكل نظرته للموت في الحياة الدنيا "كبداية لطريق جديد وسكة مغايرة".

انه "مفهوم الدورات" الصوفي الذي انتج تجليات ثقافية وفنية متعددة مثل "رقصة المولوية" والدوران الذي يرمز لحركة الكون حول الخالق العظيم والإقرار بوحدانيته وانها رحلة استعادة الوجوه الحبيبة التي رحلت الى الله فيما الذكريات تضمد جرح الفقد وأحزانه حتى اللقاء الموعود..فوداعا لمبدعين كبار في نهاية عام الأحزان الثقافية..وداعا ادوار الخراط وجمال الغيطاني وسليمان فياض..ووداعا فاطمة المرنيسي.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق