سياسة كيسنجر في "احتواء الصين" لا تصلح مع روسيا
الثلاثاء، 04 يوليو 2017 02:03 ص
يعتقد البعض أن "الثعلب العجوز"، كما يطلقون على وزير الخارجية الأمريكية الأسبق وكاهن السياسة الأمريكية هنري كيسنجر، يرغب في أخر عمره أن يلعب مع روسيا لعبته الكبيرة التي سبق أن لعبها مع الصين في منتصف السبعينات من القرن الماضي، والتي حملت اسم "سياسة احتواء الصين"، فقد بدا اهتمام كيسنجر بروسيا وبالرئيس بوتين واضحا من زياراته المتكررة لروسيا ولقاءاته الخاصة والمغلقة مع الرئيس بوتين، والتي عادة لا يعلن للصحفيين عما دار فيها، وذلك كما حدث في لقائهما الأخير الخميس 29 يونيو في الكرملين، ولهذا يتردد في الأوساط السياسية والإعلامية في موسكو أحاديث حول مهام وساطة يقوم بها كيسنجر بين البيت الأبيض والكرملين من أجل تحسين العلاقات بين موسكو وواشنطن، لكن المحللين يرون أن مهمة الوساطة لا تحتاج لشخصية بمستوى وسمعة وخبرة هنري كيسنجر، وأن الأمر يحمل مشروع جديد من إبداعات كيسنجر لشكل العلاقة والتعامل بين موسكو وواشنطن، ولهذا يتردد الحديث حول "سياسة احتواء الصين" التي اشتهر بها كيسنجر في عهد الرئيس نيكسون في منتصف سبعينات القرن الماضي، والتي كانت تهدف لعزل الصين عن الاتحاد السوفييتي مقابل فتح الأسواق العالمية لمنتجاتها الصناعية الكبيرة والهائلة، والتي كانت دون المستوى في الأسواق العالمية آنذاك، مما دفع الصين لقبول سياسات كيسنجر، لكنها عدلت عنها تماماً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد أن اكتشفت أن الأسواق العالمية المفتوحة لها أشبه بالأغلال التي تقيدها وتجبرها على قبول سياسات واشنطن رغما عنها، وعادت الصين تتحالف مع روسيا ضد الولايات المتحدة، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وانطلاق الحملة الأمريكية على الإرهاب.
البعض يرى أن سياسة الاحتواء هذه لا تصلح مع روسيا التي تفوق طموحاتها الاستراتيجية والسياسية طموحاتها الاقتصادية، والتي لا تملك الانتاج الصناعي الضخم الذي تملكه الصين، والتي ليست لديها طموحات كبيرة للأسواق العالمية مثل الصين، فروسيا لا تستطيع أن تتخلى عن طموحاتها لأن تصبح قوة عظمى عالمية لها مكانتها ومصالحها التي يجب على الجميع احترامها، ولا يهمها في ذلك أن تكون قوة اقتصادية كبيرة مثل الصين واليابان وألمانيا اللاتي امتلكن أقوى الاقتصادات العالمية لكنهن افتقدن الفاعلية السياسية الدولية وظللن تابعين للولايات المتحدة التي تمتلك النفوذ القوي على الأسواق العالمية، ولهذا اضطر العملاق الاقتصادي الصيني أن يحتمي خلف روسيا سياسيا حتى لا تضيع مصالحه ولا يخضع للابتزاز الأمريكي، بينما روسيا التي لم تكن يوماً ما عملاق اقتصادي، اكتسبت صفة الدولة العظمى والقطب العالمي الثاني بفضل قوتها العسكرية والنووية، ولا ننسى أن الاتحاد السوفييتي انتصر على النازي في الحرب العالمية والاقتصاد السوفييتي منها تماماً والشعب السوفييتي يعاني المجاعات، ولم ينهض الاقتصاد السوفييتي بعد الحرب، لكنه أصبح إحدى القوتين العظمتين واقتسم النفوذ العالمي مع الولايات المتحدة، وذلك بفضل قوته العسكرية وطموحاته الاستراتيجية العالمية، بل ساعده ضعف انتاجه الصناعي على التحرر من قيود الأسواق العالمية التي تكبلت بها الصين بعد سياسة الاحتواء الأمريكية التي ابتدعها كيسنجر في منتصف السبعينات، ولهذا نرى روسيا تهتم كثيراً بتطوير قوتها العسكرية والنووية، وتتدخل في كافة القضايا المشتعلة على الساحة الدولية وبقوة وفاعلية تفوق كثيرا تدخلات واشنطن والغرب، ولهذا فإن البعض يعتقد أن هنري كيسنجر يحمل مشروع أخر أكثر أهمية وملائمة للأوضاع التي تمر بها الولايات المتحدة على الساحة الدولية الأن، والتي تعكس تراجعاً واضحاً في مكانتها ونفوذها، ولهذا يرى البعض أن كيسنجر يسعى للتقارب بين موسكو وواشنطن وعدم تصعيد الخلافات بينهما، لأن ذلك ليس من مصلحة الولايات المتحدة في ظل الظروف العالمية الحالية، وكيسنجر يعي جيداً أن الولايات المتحدة لن تستطيع أن تكبح جماح روسيا القوية ولن تستطيع إعاقة صعود روسيا كقوة عظمى عالمية سوف تنجذب لها الدول الأخرى، لكن كيسنجر لا يريد أن يكون صعود روسيا على حساب انهيار أمريكا، ولا يرى أن الحل في تصعيد الخلافات والصدام، بل الحل في التقارب والتفاهم والتنسيق بين البلدين، وهو الأمر الذي تقبله موسكو تماماً، ويبقى أن تقبله واشنطن، ويرى كيسنجر، كما صرح من قبل، أن تولي ترامب الرئاسة يعطي فرصة كبيرة لتحقيق هذا الهدف، بحكم إعجاب ترامب المعلن بروسيا وبالرئيس بوتين.
وها هو، بعد أن أكد البيت الأبيض أن أول لقاء للرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين سيعقد بعد أسبوع خلال قمة العشرين، يستقبل بوتين في الكرملين هنري كيسنجر.
ومن اللافت أن ترامب بدوره اجتمع مع كيسنجر فور لقائه مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في البيت الأبيض في أوائل مايو الماضي، إذ بدأ المحللون يتحدثون آنذاك عن دور وساطة محتمل قد يلعبه كيسنجر في تحسين العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة.
وأوضح الكرملين، في بيان مقتضب مساء الخميس 29 يونيو، أن اللقاء بين بوتين وكيسنجر جاء خلال زيارة الأخير لموسكو للمشاركة في مؤتمر "قراءات بريماكوف"، المكرس لذكرى وزير الخارجية ورئيس الوزراء الروسي الراحل يفغيني بريماكوف.
وسبق لوسائل إعلام أمريكية أن تحدثت عن مشروع "صفقة مع روسيا" يعده كيسنجر بطلب من الرئيس الأمريكي ترامب قبيل لقائه المنتظر مع بوتين على هامش قمة العشرين في هامبورغ الألمانية يومي 7 و8 يوليو.
وقد رفض الكرملين، كالعادة، الكشف عن تفاصيل اللقاء بين الرئيس بوتين وهنري كيسنجر، ونفى دميتري بيسكوف، الناطق الصحفي باسم الرئيس الروسي أن يكون كيسنجر يحاول لعب دور الوساطة بين الرئيسين الروسي والأمريكي. وقال بيسكوف إنه لن يكشف عن تفاصيل اللقاء بين بوتين وكيسنجر، قائلا: "حمل هذا اللقاء طابعا خاصا تماما. ويزور السيد كيسنجر موسكو للمشاركة في مؤتمر "قراءات بريماكوف".
بدوره تحدث كيسنجر خلال مشاركته في المؤتمر المذكور عن فرصة مهمة أمام الرئيسين بوتين وترامب لتحسين العلاقات الثنائية، وذلك أثناء لقائهما المنتظر على هامش قمة العشرين في هامبورغ نهاية الأسبوع المقبل.
وأوضح قائلا: "أعتقد أن الدولتين حاليا تتحملان المسؤولية، وأمامهما فرصة لتحقيق تقدم، ليس في تحسين العلاقات الثنائية فحسب، بل وفي تحسين الوضع عبر العالم عن طريق بذل جهود مشتركة".
وذكر كيسنجر بأن التوتر بين روسيا والولايات المتحدة ليس بالجديد، إذ سبق للعلاقات الثنائية أن شهدت مثل هذه المراحل المتوترة أكثر من مرة، وتم تجاوزها كل مرة.
الملاحظ أن كيسنجر قال أن "موسكو وواشنطن تتحملان معاً المسئولية"، وهذا اعتراف منه "غير مسبوق" بأن روسيا ند وخصم منافس للولايات المتحدة، وهو الشيء الذي لم يكن له وجود في سياسة "احتواء الصين" حيث كانت واشنطن تتعامل مع الصين على أنها دولة فقيرة من دول العالم الثالث ليس لها دور فعال على الساحة الدولية وتحتاج مساعدة أمريكا لتدخل بمنتجاتها إلى الأسواق العالمية.