الحب في التراث العربي.. «ألف ليلة وليلة» حكاية بدور بنت الجوهرى مع جبير بن عمير الشيبانى

الإثنين، 03 يوليو 2017 11:06 ص
الحب في التراث العربي.. «ألف ليلة وليلة» حكاية بدور بنت الجوهرى مع جبير بن عمير الشيبانى
ألف ليلة وليلة
أعد الملف السيد عبد الفتاح

فى الليلة الخامسة والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن جبير قال لها: أعيدى البيتين فما رضيت، فأمرت التونية أن يرجموها فرجموها بالنارنج

فى الليلة السبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: قبلنا عذرك ثم نادت بعض جواريها وقالت: يا لطف اسقيه شربة بالكوز الذهب

فى الليلة الحادية والسبعين بعد الثلاثمائة  لما جلست على مائدة جبير بن عمير الشيبانى قال: مد يدك إلى طعامنا واجبر خاطرنا بأكل زادنا

 

أخطأ شاعر الحب نزار قبانى عندما قال: 

 
الحب فى الأرض بعض من تخيلنا  لو لم نجده عليها لاخترعناه 
 
ليته صنع كما صنع شاعرنا صلاح عبدالصبور الذى قال: «تاريخ الإنسان صدى خفقات القلب الملهم لا تاريخ القفازات السود وحمامات الدم». «عبدالصبور» نظر إلى الحب باعتباره قضية تأسيس حضارة وليس تلك المشاعر العابرة سريعة التلاشى كأنها فقاعة صابون. «صوت الأمة» تهدى لقرائها مقتطفات من كتب ألف ليلة وليلة، ونشوة السكران لمحمد صديق حسن خان، ومصارع العشاق لجعفر بن أحمد بن الحسين، والزهرة لأبى بكر محمد بن داود. وجميعها يؤكد على عمق القضية وجلالها.
 
ومما يحكى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرق ليلة من الليالى وتعذر عليه النوم ولم يزل ينقلب من جنب إلى جنب لشدة أرقه، فلما أعياه ذلك أحضر مسرورا، وقال: يا مسرور انظر إلى من يسلينى على هذا الأرق. فقال له: يا مولاى هل لك أن تدخل البستان الذى فى الدار وتتفرج على ما فيه من الأزهار وتنظر إلى الكواكب وحسن ترصيعها والقمر بينها مشرف على الماء؟ قال له: يا مسرور إن نفسى لا تهفو إلى شىء من ذلك. قال: يا مولاى إن فى قصرك ثلاثمائة سرية، لكل سرية مقصورة، فأنت تأمر كل واحدة منهن أن تختلى بنفسها فى مقصورتها وتدور أنت تتفرج عليهن وهن لا يدرين. قال: يا مسرور القصر قصرى، والجوارى ملكى، غير أن نفسى لا تهفو إلى شىء من ذلك. قال: يا مولاى مر العلماء والحكماء والشعراء أن يحضروا بين يديك ويفيضوا فى المباحث وينشدوا الأشعار ويقصوا عليك الأشعار ويقصوا عليك الحكايات والأخبار. قال: ما تهفو نفسى إلى شىء من ذلك. قال: يا مولاى مر العلماء والندماء والظرفاء أن يحضروا بين يديك ويتحفوك بغريب النكات. قال: يا مسرور إن نفسى ما تهفو إلى شىء من ذلك. قال: يا مولاى فاضرب عنقى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
 
 
وفى الليلة التاسعة والستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن مسرور قال للخليفة: يا مولاى فاضرب عنقى لعله يزيل أرقك ويذهب القلق عنك، فضحك الرشيد وقال: يا مسرور انظر من بالباب من الندماء. فخرج مسرور ثم عاد وقال: يا مولاى الذى على الباب على بن منصور الخليع الدمشقى. قال: فأت به. فذهب وأتى به، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فرد عليه السلام، وقال: يا ابن منصور حدثنى بشىء من أخبارك. فقال: يا أمير المؤمنين هل أحدثك بشىء رأيته عيانا أم شىء سمعت به؟ فقال أمير المؤمنين: إن كنت عاينت شيئا غريبا فحدثنا به، فإنه ليس الخبر كالعيان. قال: يا أمير المؤمنين اجل لى سمعك وقلبك. قال: يا ابن منصور هاأنا سامع لك بأذنى، ناظر لك بعينى، مصغٍ لك بقلبى. قال: يا أمير المؤمنين، إن لى كل سنة رسمًا على محمد بن سليمان الهاشمى سلطان البصرة، فمضيت إليه على عادتى، فلما وصلت إليه وجدته متهيئًا للركوب إلى الصيد والقنص، فسلمت عليه وسلم على وقال لى: يا ابن منصور اركب معنا إلى الصيد. فقلت له: يا مولاى ما لى قدرة على الركوب فأجلسنى فى دار الضيافة، وأوصى على الحجاب والنواب ففعلوا، ثم توجه إلى الصيد فأكرمونى غاية الإكرام وضيفونى أحسن الضيافة، فقلت فى نفسى: ياللعجب إن لى مدة أقدم من بغداد إلى البصرة ولم أعرف أن فى البصرة إلا من القصر إلى البستان ومتى يكون لى فرصة أنتهزها فى الفرجة على جهات البصرة مثل هذه النوبة، فأنا أقوم هذه الساعة وأتمشى وحدى لأتفرج وينهضم عنى الأكل.
 
 
 
 فلبست ثيابى وتمشيت فى جانب البصرة ومعلومك يا أمير المؤمنين أن فيها سبعين دربًا، طول كل درب سبعين فرسخًا بالعراق، فتهت فى أزقتها ولحقنى العطش، فبينما أنا ماشٍ يا أمير المؤمنين وإذا بباب كبير له حلقتان من النحاس الأصفر ومرخى عليه ستور من الديباج الأحمر، وفى جانبه مصطبتان وفوقه مكعب لدوالى العنب، وقد ظللت على ذلك الباب، فوقفت أتفرج على هذا المكان، فبينما أنا واقف سمعت صوت أنين ناشئ عن قلب حزين يقلب النغمات.
 
 
 
فقلت فى نفسى: إن كان صاحب النغمة مليحًا فقد جمع بين الملاحة وحسن الصوت، ثم دنوت من الباب وجعلت أرفع الستر قليلا قليلا، وإذا بجارية بيضاء كأنها البدر فى ليلة أربعة عشر بحاجبين مقرونين وجفنين ناعسين ونهدين كرمانتين رقيقتين أقحوانتين وفم كأنه خاتم سليمان ونضيد أسنان يلعب بعقل الناظم والناثر كما قال فيه الشاعر:
 
 
 
وبالجملة قد حازت أنواع الجمال وصارت فتنة للنساء والرجال لا يشبع من رؤية حسنها الناظر، وهى كما قال فيها الشاعر:
 
 
 
فبينما أنا أنظر إليها من خلال الستارة، وإذا هى التفتت فرأتنى واقفا على الباب، فقالت لجاريتها: انظرى من بالباب؟ فقامت الجارية وأتت إلى وقالت: يا شيخ أليس عندك حياء وعيب؟ فقلت لها: يا سيدتى أما الشيب فقد عرفناه، وأما العيب فما أظن أنى أتيت بعيب. فقالت سيدتها: وأى عيب أكثر من تهجمك على دار غيرك ونظرك إلى حريم غير حريمك؟ فقلت لها: يا سيدتى لى عذر فى ذلك. فقالت: وما عذرك؟ فقلت لها: إنى رجل غريب عطشان وقد قتلنى العطش. فقالت: قبلنا عذرك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
 
 
وفى الليلة السبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: قبلنا عذرك ثم نادت بعض جواريها وقالت: يا لطف اسقيه شربة بالكوز الذهب. فجاءتنى بكوز من الذهب الأحمر مرصع بالدر والجوهر ملآن ماء، ممزوج بالمسك الأذفر وهو مغطى بمنديل من الحرير الأخضر، فجعلت أشرب وأطيل فى شربى وأنا سارق النظر إليها، حتى طال وقوفى، ثم رددت الكوز على الجارية ووقفت، فقالت: يا شيخ امض إلى حال سبيلك. فقلت لها: يا سيدتى أنا مشغول الفكر. فقالت: فبم؟ فقلت: فى تقلب الزمان وتصرف الحدثان. قالت: يحق لك لأن الزمان ذو عجائب، ولكن ما الذى رأيته من عجائبه حتى تفكر فيه؟ فقلت لها: أفكر فى صاحب هذا الدار لأنه كان صديقى فى حال حياته. فقالت لى: ما اسمه؟ فقلت: محمد بن على الجوهرى، وكان ذا مال جزيل، فهل خلف أولادا؟ فقالت: نعم، بنتا يقال لها: بدور، وقد ورثت أمواله جميعها، فقلت لها: كأنك ابنته قالت: نعم، وضحكت ثم قالت: يا شيخ قد أطلت الخطاب فاذهب إلى حال سبيلك. فقلت لها: لا بد من الذهاب، ولكنى أرى محاسنك متغيرة، فأخبرينى بشأنك لعل الله يجعل لك على يدى فرجا. فقالت لى: يا شيخ إن كنت من أهل الأسرار كشفنا لك سرنا، فأخبرنى من أنت حتى أعرفك؟ هل أنت محل للسر أولا؟ فقلت لها: يا سيدتى إن كان قصدك أن تعلمى من أنا فأنا على بن منصور والخليع الدمشقى نديم أمير المؤمنين هارون الرشيد، فلما سمعت باسمى نزلت من على كرسيها وسلمت على وقالت لي: مرحبا بك يا ابن منصور والآن أخبرك بحالى وأستأمنك على سرى: أنا عاشقة مفارقة. فقلت: يا سيدتى أنت مليحة ولا تعشقين إلا كل مليح، فمن الذى تعشقينه؟ قالت: أعشق جبير بن عمير الشيبانى أمير بنى شيبان، وقد وصفت لى شابا لم يكن بالبصرة أحسن منه، فقلت لها: يا سيدتى هل جرى بينكما مواصلة أو مراسلة؟ قالت: نعم إلا أنه قد عشنا باللسان لا بالقلب والجنان، لأنه لم يوف بوعد ولم يحافظ لى على عهد. فقلت لها: يا سيدتى وما سبب الفراق بينكما؟ قالت: سببه أنى كنت يوما جالسة وجاريتى هذه تسرح شعرى، فلما فرغت من تسريحه جدلت ذوائبى، فأعجبها حسنى وجمالى فطأطأت على وقبلت خدى، وكان فى ذلك الوقت داخلاً على غفلة، فرأى ذلك، فلما رأى الجارية تقبل خدى ولى من وقته غضبان عازما على دوام البين.
 
 
 
ومن حين ولى معرضًا إلى الآن لم يأتنا من عنده كتاب ولا جواب يا ابن منصور. فقلت لها: فما تريدين؟ قالت: أريد أن أرسل إليه معك كتابا فإن أتيتنى بجوابه فلك عندى خمسمائة دينار، وإن لم تأتنى بجوابه فلك حق مشيك مائة دينار. فقلت لها: افعلى ما بدا لك. فقالت: سمعا وطاعة ثم نادت بعض جواريها وقالت: اأتينى بدواة وقرطاس. فأتتها بدواة وقرطاس فكتبت أبياتا، ثم بعد ذلك ختمت الكتاب وناولتنى إياه، فأخذته ومضيت إلى دار جبير بن عمير الشيبانى، فوجدته فى الصيد، فجلست أنتظره، فبينما أنا جالس وإذا به قد أقبل من الصيد، فلما رأيته، يا أمير المؤمنين، على فرسه ذهل عقلى من حسنه وجماله، فالتفت فرآنى جالسا بباب داره، فلما رآنى نزل عن جواده وأتى إلى واعتنقنى وسلم على، فخيل لى أنى اعتنقت الدنيا وما فيها، ثم دخل بى إلى داره وأجلسنى على فراشه وأمر بتقديم مائدة من الخولنج الخراسانى وقوائمها من الذهب، عليها جميع الأطعمة وأنواع اللحم من مقلى ومشوى، وما أشبه ذلك، فلما جلست على المائدة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
 
 
وفى الليلة الحادية والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن على بن منصور قال: لما جلست على مائدة جبير بن عمير الشيبانى قال: مد يدك إلى طعامنا واجبر خاطرنا بأكل زادنا. فقلت له: والله ما آكل من طعامك لقمة واحدة حتى تقضى حاجتى. قال: فما حاجتك؟ فأخرجت إليه الكتاب، فلما قرأه وفهم ما فيه مزقه ورماه فى الأرض وقال لى: يا ابن منصور مهما كان ذلك من الحوائج قضيناه، إلا هذه الحاجة التى تتعلق بصاحبة هذا الكتاب، فإن كتابها ليس له عندنا جواب. فقمت من عنده غضبان، فتعلق بأذيالى، وقال: يا ابن منصور أنا أخبرك بالذى قالته لك وإن لم أكن حاضرا معكما. فقلت: ما الذى قالته؟ قال: أما قالت لك صاحبة هذا الكتاب إن أتيتنى بجوابه فلك عندى خمسمائة دينار، وإن لم تأتنى بجوابه فلك حق مشيتك مائة دينار؟ قلت: بلى. قال: اجلس عندى اليوم وكل واشرب وتلذذ واطرب وخذ لك خمسمائة دينار. فجلست عنده وأكلت وشربت وتلذذت وطربت وسامرته، ثم قلت: يا سيدى ما فى دارك سماع؟ قال لى: إن لنا مدة نشرب من غير سماع، ثم نادى بعض جواريه وقال: يا شجرة الدر.. فأجابته جارية من مقصورتها ومعها عود من صنع الهنود ملفوف فى كيس من الإبريسم، ثم جاءت وجلست ووضعته فى حجرها وضربت عليه إحدى وعشرين طريقة ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأطربت بالنغمات، وأنشدت الجارية من شعرها، صرخ بها سيدها صرخة عظيمة ووقع مغشيا عليه، فقالت الجارية: لا آخذك الله يا شيخ، إن لنا مدة نشرب بلا سماع مخافة على سيدنا من مثل هذه الصرعة، ولكن اذهب إلى المقصورة ونم فيها، فتوجهت إلى المقصورة التى أشارت إليها ونمت فيها إلى الصباح، وإذا أنا بغلام أتانى ومعه كيس فيه خمسمائة دينار، وقال: هذا الذى وعدك به سيدى، ولكنك لا تعد إلى هذه الجارية التى أرسلتك، وكأنك ما سمعت بهذا الخبر ولا سمعنا. فقلت: سمعًا وطاعة.
 
 
 
 ثم أخذت الكيس ومضيت إلى حال سبيلى وقلت فى نفسى: إن الجارية فى انتظارى من أمس، والله لا بد أن أرجع إليها وأخبرها بما جرى بينى وبينه، لأننى إن لم أعد إليها فربما تشتمنى وتشتم كل من طلع من بلادى، فمضيت إليها فوجدتها واقفة، فلما رأتنى قالت: يا ابن منصور إنك ما قضيت لى حاجة. فقلت لها: من أعلمك بهذا؟ فقالت: يا ابن منصور إن معى مكاشفة أخرى، وهو أنك لما ناولته الورقة مزقها ورماها، وقال لك: يا ابن منصور مهما كان لك من الحوائج قضيناه لك إلا حاجة صاحبة هذه الورقة فإنها ليس لها عندى جواب، فقمت أنت من عنده مغضبا، فتعلق بأذيالك وقال: يا ابن منصور اجلس عندى اليوم فإنك ضيفى فكل واشرب وتلذذ واطرب، وخذ لك خمسمائة دينار، فجلست عنده وأكلت وشربت وتلذذت وطربت وسامرته، وغنت الجارية بالصوت الفلانى والصوت الفلانى، فوقع مغشيا عليه.
 
 
 
 وفى الليلة الثانية والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: يا ابن منصور ما تعاقب الليل والنهار على شىء إلا غيراه. ثم رفعت طرفها إلى السماء، وقالت: إلهى وسيدى ومولاى كما بليتنى بمحبة جبير بن عمير أن تبليه بمحبتى وأن تنقل المحبة من قلبى إلى قلبه.
 
 
 
 ثم إنها أعطتنى مائة دينار حق طريقى، فأخذتها ومضيت إلى سلطان البصرة فوجدته قد جاء من الصيد فأخذت رسمى منه ورجعت إلى بغداد، فلما أقبلت السنة الثانية توجهت إلى مدينة البصرة لأطلب رسمى على عادتى، ودفع السلطان إلى رسمى، ولما أردت الرجوع إلى بغداد تفكرت فى نفسى أمر الجارية بدور، وقلت مر أمر: والله لا بد أن أذهب إليها وأنظر ما جرى بينها وبين صاحبها، فجئت دارها فرأيت على بابه كنسا ورشا وخدما وحشما وغلمانا، فقلت لعل الجارية طفح الهم على قلبها فماتت ونزل فى دارها أمير من الأمراء، فتركتها ورجعت إلى دار جبير بن عمير الشيبانى فوجدت مصاطبها قد هدمت ولم أجده على باب داره. 
 
 
 
فبينما أنا أندب أهل هذه الدار بهذه الأبيات، يا أمير المؤمنين، وإذا بعبد أسود قد خرج إلى من الدار فقال: يا شيخ اسكت ثكلتك أمك ما لى أراك تندب هذه الدار بهذه الأبيات؟ فقلت له: إنى كنت أعهدها لصديق من أصدقائى. فقال: وما اسمه؟ فقلت: جبير بن عمير الشيبانى. قال: وأى شىء جرى له الحمد لله هاهو على حاله من الغنى والسعادة والملك، لكن ابتلاه بمحبة جارية يقال لها السيدة بدور وهو فى محبتها مغور من شدة الوجد والتبريح، فهو كالحجر الجلمود، والطريح، فإن جاع لا يقول لهم أطعمونى، وإن عطش لا يقول اسقونى. فقلت: استأذن لى فى الدخول عليه. فقال: يا سيدى أتدخل على من لا يفهم؟ فقلت: لا بد أن أدخل إليه على كل حال مستأذنًا، ثم عاد إلى آذنًا، فدخلت عليه فوجدته كالحجر الطريح لا يفهم بإشارة ولا بصريح، وكلمته فلم يكلمنى، فقال لى بعض أتباعه: يا سيدى إن كنت تحفظ شيئاً من الشعر فأنشده إياه وارفع صوتك به فإنه ينتبه لذلك ويخاطبك، فأنشدت هذين البيتين عليه، ووجدت عينه شاخصة إلى الباب ينتظر الجواب، فلما ناولته الورقة فتحها وقرأها وفهم معناها، فصاح صيحة عظيمة ووقع مغشيا عليه، فلما أفاق قال: يا ابن منصور هل كتبت هذه الرقعة بيدها ولمستها بأناملها؟ قلت: يا سيدى وهل الناس يكتبون بأرجلهم. فوالله يا أمير المؤمنين ما استتم كلامى أنا وإياه إلا وقد سمعنا شن خلاخلها فى الدهليز وهى داخلة، فلما رآها قام على أقدامه كأنه لم يكن به ألم قط، وعانقها عناق اللام للألف، وزالت عنه علته التى لا تنصرف.
 
 
 
 ثم جلس ولم تجلس هى، فقلت لها: يا سيدتى لأى شىء لم تجلسى. قالت: يا ابن منصور لا أجلس إلا بالشرط الذى بيننا. فقلت لها: وما ذلك الشرط الذى بينكما. قالت: إن العشاق لا يطلع أحد على أسرارهم. ثم وضعت فمها على أذنه، وقالت له كلاما سرا، فقال: سمعًا وطاعة، ثم قام جبير ووشوش بعض عبيده، فغاب العبد ساعة ثم أتى ومعه قاضٍ وشاهدان، فقام جبير وأتى بكيس فيه مائة ألف دينار، وقال: أيها القاضى اعقد عقدى على هذه الصبية بهذا المبلغ.
 
 
 
 فقال لها القاضى: قولى رضيت بذلك. فقالت: رضيت بذلك. فعقدوا العقد، ثم فتحت الكيس وملأت يدها منه وأعطت القاضى والشهود، ثم ناولته بقية الكيس، فانصرف القاضى والشهود، وقعدت أنا وإياها فى بسط وانشراح إلى أن مضى من الليل أكثره، فقلت فى نفسى إنهما عاشقان مضت عليهما مدة من الزمان وهما متهاجران، فأنا أقوم فى هذه الساعة لأنام فى مكان بعيد عنهما وأتركهما يختليان ببعضهما، ثم قمت فتعلقت بأذيالى وقالت: ما الذى حدثتك به؟ فقلت ما هو كذا وكذا، فقالت: اجلس فإذا أردنا انصرافك صرفناك. فجلست معهما إلى أن قرب الصبح، فقالت: يا ابن منصور امض إلى تلك المقصورة، لأننا فرشناها لك وهى محل نومك، فقمت ونمت إلى الصباح، فلما أصبحت جاءنى غلام بطشت وإبريق، فتوضأت وصليت الصبح، ثم جلست، فبينما أنا جالس وإذا بجبير ومحبوبته خرجا من حمام الدار وكل منهما يعصر ذوائبه، فصبحت عليهما وهنيتهما بالسلامة وجمع الشمل، ثم قلت له: الذى أوله شرط آخره رضا. فقال لى: صدقت وقد وجب لك الإكرام، ثم نادى خازنداره وقال له ائتنى بثلاثة آلاف دينار، فأتاه بكيس فيه ثلاثة آلف دينار، فقال لى: تفضل علينا بقبول. فقلت له: لا أقبله حتى تحكى سبب انتقال المحبة منها إليك بعد ذلك الصد العظيم. قال: سمعا وطاعة، اعلم أن عندنا عيدا يقال له عيد النواريز، يخرج الناس فيه وينزلون فى الزورق ويتفرجون فى البحر، فخرجت أتفرج أنا وأصحابى فرأيت زورقا فيه عشر جوارٍ كأنهن الأقمار والسيدة بدور وعودها معها فضربت عليه إحدى عشرة طريقة ثم عادت إلى الطريقة الأولى.
 
 
 
وفى الليلة الخامسة والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن جبير قال لها: أعيدى البيتين فما رضيت، فأمرت التونية أن يرجموها فرجموها بالنارنج، حتى خشيت الغرق على الزورق الذى هى فيه، ثم مضت إلى حال سبيلها، وهذا سبب انتقال المحبة من قلبها إلى قلبى. فهنأتهما بجمع الشمل، وأخذت الكيس بما فيه وتوجهت إلى بغداد. فانشرح صدر الخليفة وزال عنه ما كان يجده من الأرق وضيق الصدر.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق