الحب في التراث العربي.. العين والأذن أصل الهوى.. واللسان يديم العشق
الإثنين، 03 يوليو 2017 11:00 صأعد الملف السيد عبد الفتاح
تقصير المحبوب عن مواصلة محبّه وتراخيه عن إظهاره على كل ما له فى قلبه إنَّما يتولَّدان عن وقوع الثقَّة به
الفرقان بين الفراق والهجران الَّذى يعظم عندى أمر الهجر إنَّما هو منسبة ما بينه وبين الغدر
العقل عند الهوَى أسيرٌ والشَّوق عليهما أميرٌ
قال جالينوس: العشق من فعل النفس، وهى كامنة فى الدماغ والقلب والكبد، وفى الدماغ ثلاثة مساكن: التَّخييل، وهو فى مقدم الرأس، والفكر وهو فى وسطه، والذِّكر وهو فى مؤخره، وليس يكمل لأحدٍ اسم عاشق إلا حتى إذا فارق من يعشقه لم يخلُ من تخييله وفكره وذكره وقلبه وكبده، فيمتنع عن الطعام والشراب باشتغال الكبد، ومن النوم باشتغال الدماغ والتَّخييل والذِّكر له والفكر فيه، فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به، فمتى لم يشتغل به وقت الفراق لم يكن عاشقاً، فإذا لقيه خلت هذه المساكن. ولعمرى لقد أحسن فيما وصف واحتجَّ لما قال فانتصف غير أنه ذكر حال العشق وحده وترك ذكر أحوال ما قبله وأحوال ما بعده، وذلك أنَّ الأحوال الّتى تتولد عن السماع والنظر مختلفة فى باب العظم والصِّغر، ولها مراتب، فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان، ثمَّ يقوى فيصير مودَّة، والمودَّة سبب الإرادة، فمن ودَّ إنسانا ودَّ أن يكون له خلاًّ، ومن ودَّ غرضا ودَّ أن يكون له مُلكًا، ثمَّ تقوى المودَّة فتصير محبَّة، والمحبَّة سبب للطاعة.
وفى ذلك يقول محمد الوراق:
تعصِى الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حبَّهُ... هذا محالٌ فى القياسِ بديعُ
لو كانَ حبُّكَ صادقاً لأَطعتَهُ... إنَّ المحبَّ لمنْ أحبَّ مُطيعُ
ثمَّ تقوى المحبَّة فتصير خُلَّة، والخلَّة بين الآدميين أن تكون محبَّة أحدهما قد تمكَّنت من صاحبه حتَّى أسقطت السرائر بينه وبينه، فصار متخلِّلاً لسرائره ومطَّلعاً على ضمائره.
وفى هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:
فلا تهجرْ أخاكَ بغيرِ ذنبٍ... فإنَّ الهجرَ مفتاحُ السُّلوِّ
إذا كتمَ الخليلُ أخاهُ سرّاً... فما فضلُ الصَّديقِ علَى العدوِّ
ويقال إنَّ الخلَّة بين الآدميين مأخوذة من تخلُّل المودَّة بين اللَّحم والعظم واختلاطهما بالمخ والدم، وهذا المعنى غير مخالف للأول، بل هو أوضح سبب له، لأن من حلَّ من النفس هذا المحل لم يستبدَّ عنه بأمر ولم يستظهر عليه بسرّ.
وقد أنشدنا لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فى هذا النحو:
تغلغلَ حبُّ عَثمةَ فى فؤادِى... فباديهِ معَ الخافِى يسيرُ
تغلغلَ حيثُ لمْ يبلغْ شرابٌ... ولا حزنٌ ولمْ يبلغْ سرورُ
ثمَّ تقوى الخلَّة فتوجب الهوَى والهوَى اسم لانحطاط المحب فى مَحابِّ المحبوب وفى التوصُّل إليه بغير تمالك ولا ترتيب.
أنشدنا أبوالعباس أحمد بن يحيى:
وإنَّ امرءاً يهوِى إليكِ ودونهُ... منَ الأرضِ مَوْماةٌ وبيداءُ خَيْفقُ
لمحقوقةٌ أنْ تستجيبى لصوتهِ... وأنْ تعلَمِى أنَّ المعينَ موفَّقُ
ثمَّ تقوى الحال فيصير عشقًا، والعاشق يمنعه من سرعة الانحطاط فى هوى معشوقه إشفاقه عليه وضنُّه به حتَّى إنَّ إبقاءه عليه ليدعوه إلى مخالفته وترك الإقبال عليه، فمن النَّاس من يتوهَّم لهذه العلَّة أنَّ الهوَى أتمُّ من العشق وليس الأمر كذلك، ثمَّ يزداد العشق فيصير تتْيِيمًا وهو أن تصير حال المعشوق مستوفية للعاشق، فلا يكون فيه معها فضل لغيرها، ولا يزيد بقياسه شيئا إلاَّ وجدته متكاملاً فيها.
وفى مثل هذا المعنى يقول أبوالشيص:
وقفَ الهوَى بِى حيثُ أنتِ فليسَ لِى... مُتأخَّرٌ عنهُ ولا مُتقدَّمُ
أجدُ الملامةَ فى هواكِ لذيذةً... حبّاً لذكركِ فليلُمْنِى اللُّوَّمُ
أشبهتِ أعدائِى فصرتُ أُحبُّهمْ... إذ كانَ حظِّى منكِ حظِّى منهمُ
وأَهنتِنِى فأهنتُ نفسِى جاهداً... ما مَنْ يهونُ عليكِ ممَّنْ أُكرمُ
ولو لم يقل أبوالشيص فى عمره، بل لو لم يقل أحد من أهل عصره غير هذه الأربعةِ الأبيات لكانوا مقصرين، وإذا كانت كل خواطر العشَّاق فيما يتمنَّاه واقعة ممَّن يهواه على الأمر الَّذى يرضاه، فهذه فى المشاكلة الطبيعية الَّتى لا يفنيها مرُّ الزَّمان ولا تزول إلاَّ بزوال الإنسان، وإذا صحَّ هذا المذهب لم يعجب من أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلَّة أوْ خلَّتين، فإذا زالت العلَّة زال الهوَى، فلا يزال المرابط متنقِّلاً إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه، فحينئذ يرضاه فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه.
من تداوى بدائه لم يصل إلى شفائه
ذكرنا أنَّ أصل الهوَى يتولَّد من النَّظر والسَّماع، ثمَّ ينمى حالاً بعد حالٍ، فإذا كان النظر الصَّاحى إلى الصُّورة الَّتى يستحسنها طرفه مؤكّداً للمنظور إليه المحبَّة فى قلبه، كان نظر المحبّ بعد تمكُّن المحبَّة له أحرى أن يغلبه على لبّه ويزيده كربًا على كربه، ألا ترى أنَّ من حمَّ يومين متواليين كان ألمه فى الثانى من اليومين إذا تساوى مقدار الحمَّيين أصعب إليه من أوّل اليومين.
وفى مثل ذلك يقول حبيب بن أوس الطائى:
بَعثْنَ الهوَى فى قلبِ من ليسَ هائماً... فقلْ فى فؤادٍ رُعنهُ وهو هائمُ
وقال غيلان بن عقبة فى نحو ذلك:
خليليَّ لمَّا خفتُ أنْ تستفزَّنى... أحاديثُ نفسى بالهوى واهتمامُها
تداويتُ من ميٍّ بتكليمةٍ لها... فما زاد إلاَّ ضعفَ شوقى كلامُها
التَّذلُّلُ للحبيبِ مِن شيمِ الأديبِ
ذكرنا أن تقصير المحبوب عن مواصلة محبّه وتراخيه عن إظهاره على كل ما له فى قلبه إنَّما يتولَّدان عن وقوع الثقَّة به، فربَّما جهل المحبُّ على نفسه فتوهَّم أنَّ ذلك داخل فى باب الخيانة والغدر، فكافى عليه بالانحراف والهجر فيجنى على نفسه ما لا يتلافاه العذر ولا يقاومه الصبر، والحازم من صبر على مضاضة التَّدلُّل، والتمس العزَّ فى استشعار التَّذلُّل، فحينئذ يتمكَّن من وداد محبوبه ويظفر من هواه بمطلوبه.
قال الحسن بن هانئ:
يا كثيرَ النَّوحِ فى الدِّمنِ... لا عليها بلْ على السَّكنِ
سُنَّةُ العشَّاقِ واحدةٌ... فإذا أحببتَ فاسْتَكنِ
وقال أبو الوليد عبيد الطائى:
منِّيَ وصلٌ ومنكَ هجرُ... وفىَّ ذلٌّ وفيكَ كِبرُ
عذَّبنى حبُّكَ المُعنِّى... وغرَّنى منكَ ما يغرُّ
قدْ كنتُ حرّاً وأنتَ عبدٌ... فصرتُ عبداً وأنتَ حرُّ
يا ظالماً لى بغيرِ جرمٍ... إليكَ مِنْ ظُلمكَ المفرُّ
أنتَ نَعيمى وأنتَ بؤسِى... وقدْ يسوءُ الَّذى يسرُّ
وقال أبو تمام الطائى:
ظنِّى بهِ حسَنٌ لولا تجنِّيهِ... وأنَّهُ ليسَ يرعَى عهدَ حُبِّيهِ
عمَّتْ محاسنهُ عنِّى إساءتَهُ... حتَّى لقدْ حسُنتْ عندِى مساويهِ
تاهتْ علَى صورةِ الأشياءِ صورتهُ... حتَّى إذا خضعتْ تاهتْ علَى التِّيهِ
لمْ تجتمعْ فرقُ الحُسنِ الَّتى افترقتْ... عنْ يوسفِ الحسنِ حتَّى استجمعتْ فيهِ
وقال آخر:
مُستقبلٌ بالَّذى يهوَى وإنْ كثرتْ... منهُ الإساءةُ معذورٌ بما صنعَا
فى وجههِ شافعٌ يمحُو إساءتَهُ... منَ القلوبِ وجيهٌ حيثُ ما شفعَا
وأنشدنى بعض إخواننا:
يا مَنْ أراهُ أحقَّ بِى منِّى... إنْ غبتُ عنكَ فلمْ تغبْ عنِّى
أغفلْتَنِى لمَّا اعتللتُ ولمْ... يكُ ذاكَ منكَ يدورُ فى ظنِّى
وأمرُّ ما ذاقَ امرؤٌ فهِمٌ... ما جاءهُ مِن موضعِ الأمنِ
كنْ كيفَ شئتَ فما منَحْتُكَهُ... صفوٌ بلا كدرٍ ولا منِّ
وهؤلاء كلُّهم ومن جرى فى هذا القول مجراهم إنَّما يتضاجرون على خلاَّنهم لثقلهم إيَّاهم عن عاداتهم ومنعهم إيَّاهم ما استعبدوه من مواصلاتهم لتغلُّب الحيرة على قلوبهم، يحسبون أنَّ انحرافهم عن أحبابهم أقلُّ أذًى عليهم من الصبر لهم على محبَّاتهم، ولو قد أنفذوا ما عزموا عليه من الفراق والهجر لشاهدوا ما يضطرُّهم إلى الرُّجوع بالصِّغر والتَّوسل إلى الصَّفح بالعذر ما لم يسمع الَّذى يقول:
مزحتَ بالهجرِ ولا علمَ لى... أنَّكَ مُشتاقٌ إلى الهجرِ
فلا يضقْ عفوُكَ عن تائبٍ... تضيقُ عنهُ سعةُ العُذرِ
ما خ ُلق الفراق إلاَّ لتعذيب العشَّاق
أما الفراق فمستغنٍ ببشاعة اسمه عن الإغراق فى وصفه.
ولقد أحسن حبيب بن أوس الطائى فى قوله:
أخٌ لى لَوُ اعطيتُ المُنى باسمِ فقدهِ... بلا فقدهِ كانتْ بهِ ثمناً بخسَا
فلو أنَّ نفسِى ألفُ نفسٍ لما انثنتْ... يدُ البينِ أو تُودِى بآخرها نفسَا
وقد اختلف العشاق فى التفصيل والفراق، فمن أهل الهوى من يُعظم شأن الهجر على شأن النَّوى وينشد محتجّاً لذلك:
وأنقذَها مِنْ غمرةِ الموتِ أنَّه... صدودُ فراقٍ لا صدودُ تعمُّدِ
فأجرَى لها الإشفاقُ دمعاً مورَّداً... من الدَّمِ يجرِى فوقَ خدٍّ مورَّدِ
وأكثر أهل هذا الشأن يُغلبون شأن النَّوى على شأن الهجر بل يغلِّبونه على كل مكروه من الأمر غير الخيانة والغدر.
ولقد أحسن أبو تمام حبيب بن أوس الطائى حيث يقول:
وكانَ عزيزاً أنَّ بينى وبينكمْ... حجاباً فقدْ أصبحتُ منكمْ علَى شهرِ
وأبكاهُما للعينِ واللهِ إنَّنى... أُحاذرُ أنْ لا نلتقى آخرَ الدَّهرِ
وكمْ دونَنا مِنْ مهمهٍ مُتنازحٍ... ومن جبلٍ وعرٍ ومن بلدٍ قفرِ
وما زلتُ أرضى مِنْ خليلِى بهجرهِ... فأحسبُ أنْ لا داءَ أدوَى منَ الهجرِ
إلى أنْ رمانا دهرُنا بتفرُّقٍ... فأيقنتُ أنَّ البينَ قاصمةُ الظَّهرِ
ونحن نقول الآن الفرقان بين الفراق والهجران الَّذى يعظم عندى أمر الهجر إنَّما هو منسبة ما بينه وبين الغدر، لأنَّ الهجر إذا خرج عن أن يكون عقاباً على ذنبٍ أو تذلُّلاً بإظهار تجنٍّ أو عتب أو مراقبة لواشٍ أو مللاً من العذل فلا معذر له غير الغدر والخيانة وترك المقام للهوى بحق الرعاية، فهذا أصعب أسباب الهجر، ومما ينقص من صعوبته ويكفُّ من عاديته أنَّه إذا جرى هذا المجرى لحق المقصود به ضربٌ من الغيظ لقبح ما صنع به عن غير سبب موجب له وليس شخص المحبوب بناء عن نظره، فيتمالك عنه من إزعاج الشوق بفكره ما يذهب بغيظه ويُلين من قلبه ومع الفراق زوال ذلك كله، لأن غيبة الشخص عن الناظر مزيلة لكل غيظ، وغافرة لكل ذنب، وذاهبة بكل عجب، يتداخل المحبوب والمحب، فالنفوس تذل للفراق وتنقاد معه لدواعى الإشفاق والاشتياق فهذا مقدار ما يتسهّل لنا من وصفهما ويجوز أن نقطع به من الحكم بينهما.
وقال أبو تمام:
لو كانَ فى البينِ إذْ بانوا لهمْ دعَةٌ... لكانَ بينهمُ منْ أعظمِ الخطرِ
فكيفَ والبينُ موصولٌ بهِ تعبٌ... يكلِّفُ البيدَ فى الإدلاجِ والبُكرِ
لو أنَّ ما تبتلينى الحادثاتُ بهِ... يكونُ بالماءِ لم يُشربْ من الكدرِ
لو كانَ بالعيسِ ما بى يومَ رحلتهمْ... أعيَتْ علَى السَّائقِ الحادى فلم تسرِ
كأنَّ أيدى مطاياهُمْ إذا وخدَتْ... يقعْنَ فى حُرِّ وجهى أوْ علَى بصري
مَنْ لم يقعْ لهُ الهوَى باكتسابٍ لم ينزجرْ بالعتابِ
العلَّة فى ذلك أنَّ المعاتبة إنَّما هى توقيف على مواضع المصلحة وتبين لما فى الحال الَّتى بقى عليها المعاتب من المنقصة فمن كان أصل هواه اختياراً لنفسه فتبيَّن موضع النَّقص فى اختياره رجع إلى قول عذَّاله ومن وقع هواه مضطراً بغلبة إلى الانقياد لإلفه لم يعلق العذل بسمعه لأنَّ العذل يأتيه من غير جهته والشَّيءُ لا يوجب زواله إلاَّ ضدُّ ما أوجب ثباته فكما أنَّ الهوَى الاختياريَّ يضادُّه التَّوقيف على مواضع الحال فيوجب على صاحبه أن يختار إزالته فكذلك الهوَى الاضطراريُّ لا يزايله إلاَّ اضطرارٌ يضادُّه والهوَى الاختياريُّ أيضاً على ضعفه لا تمحوه ضروريَّته ولا تعارض فى تركه لأنَّها تجيء من غير جهته وهو لا يزول إلاَّ بزوال الجهة الَّتى أوجبته إذْ محالٌ أن يكون شيءٌ علَّةً لشيءٍ فيزول المعلول والعلَّة قائمةٌ.
ولقد أحسن عمر بن ضبيعة الرقاشى حيث يقول:
قضَى اللهُ حبَّ المالكيَّةِ فاصطبرْ... عليهِ فقدْ تجرِى الأُمورُ علَى قدرِ
ألا فليقلْ مَنْ شاءَ ما شاءَ إنَّما... يُلامُ الفتَى فيما استطاعَ منَ الأمرِ
وللبحترى فى نحو ذلك:
للحبِّ عهدٌ فى فؤادِى لمْ يخنْ... منه السُّلوُّ وذمَّةٌ لمْ تخفرِ
لا أبتغِى بدلاً بسُلمَى خُلَّةً... فلتقتربْ بالوصلِ أوْ فلتهجرِ
من كثُرت لحظاته دامت حسراته
قال بعض الحكماء ربَّ حربٍ جُنيت من لفظة وربَّ عشق غُرس من لحظة وقال العتبى أبو الغصن الأعرابى قال: خرجت حاجّاً فلما مررت بقباء تداعى النَّاس ألماً وقالوا قد أقبلت الصقيل فنظرت وإذا جارية كأن وجهها سيف صقيل فلما رميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها فقلت يرحمكِ الله إنا سفرٌ وفينا أجرٌ فأمتعينا بوجهكِ فانصاعت وأنا أرى الضحك فى عينيها وهى تقول:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفكَ رائداً ... لقلبكَ يوماً أتبعتكَ المناظرُ
رأيتَ الذى لا تأكلهُ أنتَ قادرٌ ... عليه ولا عنْ بعضهِ أنتَ صابرُ
وأنشدنى أبو العباس أحمد بن يحيى النحوى لامرأةٍ من الأعراب:
أرَى الحرَّ لا يفنَى ولمْ يفنهِ الأُلى ... أُحينوا وقدْ كانوا علَى سالفِ الدَّهرِ
وكلهمُ قدْ خالهُ فى فؤادهِ ... بأجمعهِ يحكونَ ذلكَ فى الشِّعرِ
وما الحبُّ إلاَّ سمعُ أُذنٍ ونظرةٌ ... ووجبةُ قلبٍ عن حديثٍ وعنْ ذكرِ
ولوْ كانَ شيءٌ غيرهُ فنيَ الهوَى ... وأبلاهُ مَن يهوى ولوْ كانَ مِن صخرِ
وقال آخر:
تعرَّضنَ مرمى الصَّيدِ ثمَّ رَمينا ... منَ النَّبلِ لا بالطَّائشاتِ الخواطفِ
ضعائفٌ يقتلنَ الرِّجالَ بلا دمٍ ... فيا عجباً للقاتلاتِ الضَّعائفِ
وللعينِ ملهًى فى التلادِ ولمْ يقدْ ... هوَى النَّفس شيئاً كاقتيادِ الطَّرائفِ
وقال جرير بن عطية:
إنَّ العيونَ التى فى طرفِها مرضٌ ... قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا
يصرعنَ ذا اللُّبِّ حتَّى لا حراكَ بهِ ... وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانا
وقال العديل بن الفرج العجلي:
يأخذنَ زينتهنَّ أحسنَ ما ترَى ... فإذا عطِلنَ فهنَّ غيرُ عواطلِ
وإذا جلينَ خدودهنَّ أرَيْننا ... حدقَ المها وأخذنَ نبلَ القاتلِ
فرَمَيْنا لا يستترنَ بجُنَّةٍ ... إلاَّ الصِّبى وعلمنَ أينَ مَقاتلي
يلبسنَ أرديةَ الوقارِ لأهلِها ... ويجرُّ باطلهنَّ حبلَ الباطلِ
وقال عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومي:
سَمْعى وطرفى حليفَا أعلَى جسدي ... فكيفَ أصبرُ عنْ سمعى وعنْ بصري
لوْ طاوَعانى علَى أنْ لا أُطاوعَها ... إذاً لقضَّيتُ مِن أوطارِها وطَري
وقال يزيد بن سويد الضبعي:
بيضٌ أوانسُ يلتاطُ العبيرُ بها ... كفَّ الفواحشَ عنها الأُنسُ والخفرُ
ميلُ السَّوالفِ غيدٌ لا يزالُ لها ... منَ القلوبِ إذا لاقينَها جزرُ
وأنشدنى بعض الكلابيين:
يا مَن بدائعُ حسنِ صورتهِ ... تَثنى إليهِ أعنَّةَ الحدقِ
لى منكَ ما للنَّاسِ كلّهمِ ... نظرٌ وتسليمٌ علَى الطُّرقِ
لكنَّهمْ سعدُوا بأمنهمِ ... وشقيتُ حينَ أراكَ بالفرقِ
وقال آخر:
دعا قلبهُ يوماً هوًى فأجابهُ ... فؤادٌ إذا يلقَى المِراضَ مريضُ
بمُستأنِساتٍ بالحديثِ كأنَّها ... تهلُّلُ مزنٍ برقهنَّ وميضُ
وأنشدنى أحمد بن أبى طاهر:
طربتُ إلى حوراءَ آلفةِ الخِدرِ ... هيَ البدرُ أوْ إنْ قلتَ أكملُ مِنْ بدرِ
تُراسلُنى باللَّحظِ عندَ لقائها ... فتخلسُ قلبى عندَ ذلكَ مِنْ صدرى.