كان الإمام أحمد الرفاعى متواضعا فى نفسه، خافضا جناحه لإخوانه غير مترفع وغير متكبر عليهم
أحمد الرفاعى الفقيه الشافعى الأشعرى الصوفى، الذى عاش فى الفترة من «512 - 578» هـ، الملقب بـ «أبى العلمين» و«شيخ الطرائق» و«الشيخ الكبير» و«أستاذ الجماعة». إليه تنتسب الطريقة الرفاعية من الصوفية، وهو أحد أقطاب الصوفية المشهورين. أما نسب سيدى أحمد الكبير الرفاعى، فهو ابن السيدة فاطمة الأنصارية، التى تتصل من جهة أمها السيدة رابعة بنت السيد عبدالله الطاهر، إلى الإمام الحسين بن الإمام على بن أبى طالب. وهو صاحب الطريقة الرفاعية بشارتها السوداء التى ترمز إلى الحقائق الغيبية الذاتية الإلهية. ولد الرفاعى فى قرية حسن بالبطائح «من واسط بالعراق» سنة 512 هجرية، وينسب إلى بنى رفاعة - قبيلة من العرب - وسكن أم عبيدة بأرض البطائح إلى أن مات بها رحمه الله تعالى.
درس القرآن العظيم وأتم حفظه وترتيله على يد الشيخ الورع المقرئ الشيخ عبدالسميع الحربونى، وكان له من العمر سبع سنين، وفى هذه السنة توفى أبوه فى بغداد وكفله خاله الباز الأشهب الشيخ منصور البطائحى، الذى أدخله على الإمام العلامة الفقيه المقرئ المفسر المحدث الواعظ الصوفى الكبير الشأن، الشيخ أبى الفضل على الواسطى، فتولى أمره وقام بتربيته وتأديبه وتعليمه.. فبرع بالعلوم النقلية والعقلية وأحرز قصب السبق على أقرانه.
وكان يلازم درس خاله الشيخ أبى بكر شيخ وقته وسلطان علماء زمانه، كما كان يتردد على حلقة خاله الشيخ منصور ويتلقى بعض العلوم عن الشيخ عبدالملك الحربونى.. واستغرق أوقاته بجمع المعارف الدينية.. وقد أفاض الله عليه من لدنه علمًا خاصًا حتى رجع مشايخه إليه وتأدب مؤدبوه بين يديه.
وفى العشرين من عمره أجازه شيخه الشيخ أبوالفضل على محدث واسط وشيخها، إجازة عامة بجميع علوم الشريعة والطريقة، وألبسه خرقته المباركة وأعظم شأنه ولقبه: أبا العلمين «الظاهر والباطن» وانعقد عليه فى حياة مشايخه الإجماع واتفقت كلمتهم على عظم شأنه ورفعة قدره.
وقد أسس الطريقة الرفاعية.. وكان يقول لمريديه من «تمشيخ عليكم فتتلمذوا له ومن مد يده إليكم لتقبلوها فقبلوا رجله، ومن تقدم عليكم فقدموه وكونوا آخر شعرة فى الذنب.. فإن الضربة أول ما تقع فى الرأس».
وكان الرفاعى شافعى المذهب قرأ كتاب التنبيه للشيخ أبى إسحق الشيرازى وما تصدر قط فى مجلس ولا جلس على شىء إلا تواضعًا.. وكان لا يتكلم إلا يسيرًا ويقول أمرت بالسكوت.
وقد توفى الرفاعى ظهر يوم الخميس الثانى عشر من شهر جمادى الأولى سنة 570هـ، وكان يومًا مشهودًا، وكانت آخر جملة قالها «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله». ودفن فى قبر الشيخ يحيى البخارى بأم عبيدة بالعراق.
أما عن نسبة ومولده فهو السيد أحمد أبوالعباس بن على بن يحيى بن ثابت بن حازم على أبى الفوارس بن أحمد المرتضى بن على بن الحسن الأصغر المعروف برفاعة بن مهدى المكى أبورفاعة بن أبى القاسم محمد بن الحسن القاسم المُكنى بأبى موسى بن الحسين عبدالرحمن لقبه الرضى المحدث بن أحمد الصالح الأكبر بن موسى الثانى بن إبراهيم المُرتضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين على الأصغر بن الحسين بن على بن أبى طالب.
نشأ الإمام أحمد الرفاعى منذ طفولته نشأة علمية وأخذ فى الانكباب على العلوم الشرعية، فقد درس القرآن العظيم وترتيله على الشيخ عبدالسميع الحربونى فى قريته وله من العمر سبع سنين، وانتقل مع خاله ووالدته وإخوته إلى بلدة «نهر دفلى» من قرى واسط فى العراق وأدخله خاله على الإمام الفقيه الشيخ أبى الفضل على الواسطى وكان مقرئًا ومحدثًا وواعظًا عالى الشأن. فتولى هذا الإمام أمره وقام بتربيته وتأديبه وتعليمه، فجدَّ السيد أحمد الرفاعى فى الدرس والتحصيل للعلوم الشرعية حتى برع فى العلوم النقلية والعقلية، وأحرز قصب السبق على أقرانه، وكان الإمام أحمد الرفاعى يلازم دروس العلم ومجالس العلماء، فقد كان يلازم درس خاله الشيخ أبى بكر سلطان علماء زمانه كما كان يتردد على حلقة خاله الشيخ منصور البطائحى، وتلقى بعض العلوم على الشيخ عبدالملك الحربونى وحفظ عنه كتاب «التنبيه» فى الفقه الشافعى للإمام أبى إسحق الشيرازى وقام بشرحه شرحًا عظيمًا، وأمضى أوقاته فى تحصيل العلوم الشرعية على أنواعها، وشمَّر للطاعة وجَدَّ فى العبادة حتى صار عالمًا وفقيهًا شافعيًا وعالمًا ربانيًا رجع مشايخه إليه وتأدب مؤدبوه بين يديه. وكان الشيخ الجليل أبوالفضل على محدث واسط وشيخها قد أجاز الإمام أحمد الرفاعى وهو فى العشرين من عمره إجازة عامة بكل علوم الشريعة والطريقة وأعظم شأنه ولقبه بـ أبى العلمين، أى الظاهر والباطن.
دأب الإمام الرفاعى كغيره من العلماء العاملين فى تعليم الناس أمور دينهم وجَدَّ فى الوعظ والإرشاد وعقد حلق العلم حتى كان نبراسًا يستضىء به الناس فيما ينفعهم، وكان لا يفتر عن تعليم الناس هدى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأسرار القرآن العظيم.
وفى رسالة «سواد العينين فى مناقب أبى العلمين» للإمام الرافعى قال: أخبرنى الفقيه العالم الكبير بغية الصالحين قال: كنت فى «أم عبيدة» زائرا عند السيد أحمد الرفاعى فى رواقه وحوله من الزائرين أكثر من مائة ألف إنسان منهم الأمراء والعلماء والشيوخ والعامة، وقد احتفل بإطعامهم وحسن البشر لهم كلٌّ على حاله، وكان يصعد الكرسى بعد الظهر، فيعظ الناس، والناس حلقًا حلقًا حوله، فصعد الكرسى بعد ظهر خميس وفى مجلسه وعاظ واسط، وجم كثير من علماء العراق وأكابر القوم، فبادر القومَ بأسئلة من التفسير وآخرون بأسئلة من الحديث، وجماعة من الفقه، وجماعة من الأصول، وجماعة من علوم أخرى، فأجاب على مائتى سؤال من علوم شتى ولم يتغير حاله حال الجواب، ولا ظهر عليه أثر الحدة، فأخذتنى الحيرة من سائليه، فقمت وقلت: أما كفاكم هذا؟ والله لو سألتموه عن كل علم دُوّن لأجابكم بإذن الله بلا تكلف، فتبسم وقال: «دعهم أبا زكريا يسألوننى قبل أن يفقدونى، فإن الدنيا زوال، والله محول الأحوال»، فبكى الناس وتلاطم المجلس بأهله وعلا الضجيج، ومات فى المجلس خمس رجال وأسلم من الصابئين ثمانية آلاف رجل أو أكثر وتاب أربعون ألف رجل.
كان الإمام أحمد الرفاعى يأمر فى مجلس وعظه بالتزام حدود الشرع، ويحذر الناس من أهل الشطح والغلو ويقول: «هؤلاء قطاع الطريق فاحذروهم» وكان يكره أصحاب القول بالحلول والوحدة المطلقة الذين يقولون إن الله تعالى يحل بالعالم ويقول: «هؤلاء قوم أخذتهم البدعة من سروجهم، إياكم ومجالستهم» وكان يأمر باتباع هدى الشريعة والسير على طريقة المصطفى ويقول: «اتبع ولا تبتدع، فإن اتبعت بلغت النجاة وصرت من أهل السلامة، وإن ابتدعت هلكت».
كان الإمام أحمد الرفاعى متواضعًا فى نفسه، خافضًا جناحه لإخوانه غير مترفع وغير متكبر عليهم، وروى عنه أنه قال: «سلكت كل الطرق الموصلة فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الافتقار والذل والانكسار، فقيل له: يا سيدى فكيف يكون؟ قال: تعظم أمر الله، وتشفق على خلق الله، وتقتدى سنة سيدك رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وكان الإمام الرفاعى يخدم نفسه، ويخصف نعله، ويجمع الحطب بنفسه ويشده بحبل ويحمله إلى بيوت الأرامل والمساكين وأصحاب الحاجات، ويقضى حاجات المحتاجين، ويقدم للعميان نعالهم، ويقودهم إذا لقى منهم أناسًا إلى محل مطلوبهم، وكان يمشى إلى المجذومين والزمنى ويغسل ثيابهم ويحمل لهم الطعام، ويأكل معهم ويجالسهم ويسألهم الدعاء، وكان يعود المرضى ولو سمع بمريض فى قرية ولو على بعد يمضى إليه ويعوده، وكان شفيقًا على خلق الله يرأف باليتيم، ويبكى لحال الفقراء ويفرح لفرحهم، وكان يتواضع كل التواضع للفقراء.
وقد قال مشايخ أهل عصره: كل ما حصل للرفاعى من المقامات إنما هو من كثرة شفقته على الخلق وذل نفسه. وكان أحمد الرفاعى يعظّم العلماء والفقهاء ويأمر بتعظيمهم واحترامهم ويقول: هؤلاء أركان الأمة وقادتها.
كان أحمد الرفاعى متجردًا من الدنيا، ولم يدخر أموالها، بل كان لا يجمع بين لبس قميص وقميص لا فى صيف ولا فى شتاء، مع أن ريع أملاكه كان أكثر من ريع أملاك الأمراء، وكان كل ما يحصل منها ينفقه فى سبيل الله على الفقراء والسالكين والواردين إليه، وكان يقول: الزهد أساس الأحوال المرضية والمقامات السنية. وكان يقول: طريقى دين بلا بدعة، وعمل بلا كسل، ونية بلا فساد، وصدق بلا كذب، وحال بلا رياء.
من أشهر هذه الكرامات تقبيله يد النبى محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أنكر وقوعها أناس عدة وأثبت وقوعها آخرون مثل الحافظ السيوطى، والمحدث المناوى، والإمام الشعرانى وغيرهم من العلماء، يقول الإمام عز الدين الفاروقى فى كتابه «إرشاد المسلمين»: أخبرنى أبى الحافظ محى الدين أبوإسحق عن أبيه الشيخ عمر الفاروقى أنه قال: كنت مع وشيخنا السيد أحمد الكبير الرفاعى الحسينى عام حجه الأول وذلك سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وقد دخل المدينة يوم دخوله القوافل إليها قوافل الزوار من الشام والعراق واليمن والمغرب والحجاز وبلاد العجم وقد زادوا على تسعين ألفًا، فلما أشرف على المدينة المنورة ترجل عن مطيته ومشى حافيًا إلى أن وصل الحرم الشريف المحمدى ولا يزال حتى وقف تجاه الحجرة العطرة النبوية فقال: السلام عليك يا جدى، فقال رسول الله له: «وعليك السلام يا ولدى»، سمع كلامه الشريف كل من فى الحرم النبوى، فتواجد لهذه المنحة العظيمة والنعمة الكبرى وحنَّ وأنَّ وبكى وجثا على ركبتيه مرتعدا ثم قام وقال:
فى حالة البعد روحى كنت أرسلها تقبل الأرض عنى وهى نائبتى.. وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كى تحظى بها شفتى.
فمدَّ له رسول الله يده الشريفة النورانية من قبره الأزهر الكريم فقبلها والناس ينظرون، وقد كان فى الحرم الشريف الألوف حين خروج اليد الطاهرة المحمدية، وكان من أكابر العصر فيمن حضر الشيخ حياة بن قيس الحرانى، والشيخ عدى بن مسافر، والشيخ عقيل المنبجى، وهؤلاء لبسوا خرقة السيد أحمد وعنهم فى ذلك اليوم واندرجوا بسلك أتباعه، وكان فيمن حضر الشيخ أحمد الزاهر الأنصارى، والشيخ شرف الدين بن عبدالسميع الهاشمى العباسى، وخلائق كلهم تبركوا وتشرفوا برؤيا اليد المحمدية ببركته رضى الله عنه، وبايعوه هم ومن حضر على المشيخة عليهم وعلى أتباعهم رحمهم الله.
للرفاعى مؤلفات كثيرة أكثرها فقد فى موقعة التتار، ومما وصل إلينا من كتبه: حالة أهل الحقيقة مع الله. والصراط المستقيم. وكتاب الحكم شرح التنبيه «فقه شافعى». والبرهان المؤيد، ومعانى بسم الله الرحمن الرحيم. وتفسير سورة القدر. والبهجة. والنظام الخاص لأهل الاختصاص. والمجالس الأحمدية. والطريق إلى الله.
كثُر تلاميذ الرفاعى فى حياته وبعد مماته حتى قال ابن المهذب فى كتابه «عجائب واسط»: بلغ عدد خلفاء السيد أحمد الرفاعى وخلفائهم مائة وثمانين ألفًا حال حياته، ومن عظيم فضل الله على السيد أحمد الرفاعى أنه لم يكن فى بلاد المسلمين مدينة أو بليدة أو قطر تخلو زواياه وربوعه من تلامذته ومحبيه العارفين المرضيين. ومن الذين ينتمون إليه: الشيخ الحافظ عز الدين الفاروقى، والشيخ أحمد البدوى، والعارف بالله أبوالحسن الشاذلى والشيخ نجم الدين الأصفهانى شيخ الإمام إبراهيم الدسوقى والشيخ أحمد علوان المالكى، والحافظ جلال الدين السيوطى، والشيخ عقيل المنبجى، والشيخ على الخواص.
قال عنه القاضى أبوشجاع الشافعى صاحب المتن المشهـور فى الفقه الشافعى، ذكر الإمام الرافعى ما نصه: حدثنى الشيخ الإمام أبوشجاع الشافعى فيما رواه قائلا: كان السيد أحمد الرفاعى علمًا شامخًا، وجبلا راسخًا، وعالمًا جليلا، محدثًا فقيهًا، مفسرًا ذا روايات عاليات، وإجازات رفيعات، قارئًا مجودًا، حافطًا مُجيدًا، حُجة رحلة، متمكنًا فى الدين.. أعلم أهل عصره بكتاب الله وسنة رسوله، وأعملهم بها، بحرًا من بحار الشرع، سيفًا من سيوف الله، وارثًا أخلاق جده رسول الله.
قال عنه الشيخ عبدالوهاب الشعرانى: هو الغوث الأكبر والقطب الأشهر أحد أركان الطريق وأئمة العارفين الذين اجتمعت الأمة على إمامتهم واعتقادهم.