شخصيات مثيرة للجدل فى الإسلام

الأربعاء، 21 يونيو 2017 12:30 م
شخصيات مثيرة للجدل فى الإسلام
شخصيات مثيرة للجدل فى الإسلام
عنتر عبد اللطيف

هى شخصيات مثيرة للجدل، نتفق أو نختلف معها، لكن لا يمكن أن نتجاهلها أو أن نتعامل معها بخفة واستهتار، بوصفها شخصيات عابرة أو هامشية، الحقيقة أن تلك الشخصيات كانت فى متن الحضارة الإسلامية، وسجل أصحابها لأنفسهم مكانة قلما يصل إليها غيرهم، هى بالجملة شخصيات تغرد خارج السرب، مثل «الحلاج» الصوفى الذى قتلوه وقد قيل عنه «إنه كان يظهر الزهد والتصوف، ويظهر الكرامات، ويخرج للناس فاكهة الشتاء فى الصيف، وفاكهة الصيف فى الشتاء، ويمد يده إلى الهواء، فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب قل هو الله أحد».
 
تظل هذه الشخصيات نبراسًا فى طريق ربما مجهول وخفى يخشى الكثيرون الخوض فيه، فهناك القطب الصوفى ابن عربى الذى قيل عنه: «إن استعداده الفطرى ونشأته فى هذه البيئة التقية واختلافه إلى تلك المدرسة الرمزية كل ذلك قد تضافر على إبراز هذه الناحية الروحية عنده فى سن مبكرة فلم يكد يختم الحلقة الثانية من عمره حتى كان قد انغمس فى أنوار الكشف والإلهام ولم يشارف العشرين حتى أعلن أنه جعل يسير فى الطريق الروحانى بخطوات واسعة ثابتة».
 
أما أبو ذر الغفارى الثائر المظلوم صاحب المواقف الخالدة فقد قيل له: «ألا تتخذ أرضًا كما اتخذ طلحة والزبير؟ فقال: وما أصنع بأن أكون أميرًا، وإنما يكفينى كل يوم شربة من ماء أو نبيذ أو لبن، وفى الجمعة قَفِيزٌ من قمح»، وهو القائل «كان قوتى على عهد رسول الله صاعًا من التمر، فلست بزائدٍ عليه حتى ألقى الله تعالى».
 
أما سلمان الفارسى فقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا آل البيت» بعد أن انتقل من ظلام المجوسية إلى نور الإسلام فى السطور التالية، نستعرض شذرات من قصص هؤلاء العظماء المثيرين للجدل. 

سلمان منا آل البيت.. من ظلام المجوسية إلى نور الإسلام
عن عبد الله بن العباس رضى الله عنهما، قال حدثنى سلمان الفارسى قال: كنت رجلاً فارسيًّا من أهل أصبهان من أهل قرية منها يقال لها جَيٌّ، وكان أبى دِهْقَانَ قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياى حتى حبسنى فى بيته كما تُحبس الجارية، واجتهدت فى المجوسية حتى كنت قطن النار الذى يوقدها لا يتركها تخبو ساعة، وكانت لأبى ضَيْعَةٌ عظيمة، قال: فشغل فى بنيان له يومًا فقال لى: يا بُنَيّ، إنى قد شغلت فى بنيانى هذا اليوم عن ضيعتى، فاذهب فأطلعها، وأمرنى فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد الضيعة فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدرى ما أمر الناس لحبس أبى إياى فى بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتنى صلاتهم، ورغبت فى أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الذى نحن عليه، فو الله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبى ولم آتها، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. قال: ثم رجعت إلى أبى وقد بعث فى طلبى وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أى بنى، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ 
 
سلمان الفارسى
 
قال: قلت: يا أبت، مررت بناس يصلون فى كنيسة لهم، فأعجبنى ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أى بنى، ليس فى ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه. قلت: كلا، والله إنه لخير من ديننا، قال: فخافنى فجعل فى رجلى قيدًا ثم حبسنى فى بيته، قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجارًا من النصارى فأخبرونى بهم. قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبرونى بقدوم تجار، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنونى بهم، فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم ألقيت الحديد من رجلى، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأُسْقُفُّ فى الكنيسة. فجئته، فقلت: إنى قد رغبت فى هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك فى كنيستك، وأتعلم منك وأصلى معك. قال: فادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه منها شيئًا اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قِلال من ذهب، وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنعو، قال: ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعطِ المساكين منها شيئًا. قالوا: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه. قالوا: فدلنا عليه. قال: فأريتهم موضعه، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، قال: فصلبوه ثم رجموه بالحجارة، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً يصلى الخمس أَرَى أنه أفضل منه، وأزهد فى الدنيا، ولا أرغب فى الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهارًا منه. قال: فأحببته حبًّا لم أحبه من قبله، فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إنى كنت معك فأحببتك حبًّا لم أحبه أحدًا من قبلك، وقد حضرتك الوفاة، فإلى من توصى بى؟ وما تأمرنى؟ قال: أى بنى، والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فَالْحَقْ به. قال: فلما مات وغَيَّبَ لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصانى عند موته أن ألحق بك وأخبرنى أنك على أمره، فقال لى: أقم عندى. قال: فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصى بى إليك وأمرنى باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصى بي؟ وما تأمرنى؟ قال: أى بنى، والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنَصِيبِينَ وهو فلان، فَالْحَقْ به. قال: فلما مات وغَيَّب، لحقت بصاحب نصيبين، فجئت فأخبرته بما جرى وما أمرنى به صاحبى، قال: فأقم عندى. فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان، إن فلانًا كان أوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بي؟ وما تأمرني؟ قال: أى بنى، والله ما أعلم أحدًا بقى على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعَمُّورِيَّةَ، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فَأْتِهِ؛ فإنه على مثل أمرنا. قال: فلما مات وغَيَّبَ لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبرى، فقال: أقم عندى. فأقمت عند رجل على هدى أصحابه وأمرهم، وكنت اكتسبت حتى كانت لى بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان، إنى كنت مع فلان فأوصى بى إلى فلان، وأوصى بى فلان إلى فلان، وأوصى بى فلان إلى فلان، وأوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى؟ وما تأمرنى؟ قال: أى بنى، والله ما أعلم أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبى مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حَرَّتَيْنِ بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فَافْعَلْ. قال: ثم مات وغَيَّبَ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بى نفر من كلب تجار، فقلت لهم: تحملونى إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتى هذه وغنيمتى هذه؟ قالوا: نعم، فأعطيتهم إياها وحملونى، حتى إذا قدموا بى وادى القرى ظلمونى فباعونى لرجلٍ من يهود، فكنت عنده ورأيت النخل، ورجوت أن يكون البلد الذى وصف لى صاحبى، ولم يَحِقْ لى فى نفسى، فبينا أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بنى قريظة فابتاعنى منه، فاحتملنى إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبى فأقمت بها، وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر، مع ما أنا فيه من شغل الرِّقِّ، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إنى لفى رأس عِذْقٍ لسيدى، أعمل فيه بعض العمل وسيدى جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال فلان: قاتلَ اللهُ بنى قَيْلَة! والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبى. قال: فلما سمعتها أخذتنى العُرَواء حتى ظننت أنى ساقط على سيدى، ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه: ماذا تقول؟ قال: فغضب سيدى فلكمنى لكمة شديدة، وقال: ما لك ولهذا؟! أقبل على عملك. قال: قلت: لا شىء، إنما أردت أن أستثبته عما قال. وقد كان شىء عندى قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغنى أنك رجل صالح معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شىء كان عندى للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم. قال: فقربته إليه، فقال رسول الله لأصحابه: «كلوا»، وأمسك يده هو فلم يأكل، قال: فقلت فى نفسى: هذه واحدة،و ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا، وتحوّل رسول الله إلى المدينة، ثم جئته به فقلت: إنى رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله منها وأمر أصحابه فأكلوا معه. قال: فقلت فى نفسى: هاتان اثنتان. قال: ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة من أصحابه عليه شَمْلَتان وهو جالس فى أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذى وصف لى صاحبى، فلما رآنى رسول الله استدبرته، عرف أنى أستثبت فى شيء وصف لى، قال: فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أُقَبِّله وأبكى.
 
الحلاج.. شهيد  العشق الإلهى! 
قصة الحلاج يرويها ابن الكامل فى كتابه «الكامل فى التاريخ» قائلاً:  «قتل الحسين بن منصور الحلاج الصوفى وأحرق، وكان ابتداء حاله أنه كان يظهر الزهد والتصوف، ويظهر الكرامات، ويخرج للناس فاكهة الشتاء فى الصيف، وفاكهة الصيف فى الشتاء، ويمد يده إلى الهواء، فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب قل هو الله أحد، ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه وما صنعوا فى بيوتهم، ويتكلم بما فى ضمائرهم فافتتن به خلق كثير، واعتقدوا فيه الحلول، والجملة فان الناس اختلفوا فيه اختلافهم فى المسيح عليه السلام، فمن قائل: إنه حل فيه جزء إلهى، ويدعى فيه الربوبية. ومن قائل: إنه ولى الله تعالى، وأن الذى يظهر منه، من جملة كرامات الصالحين، ومن قائل: إنه مشعبذ وممخرق وساحر كذاب ومتكهن، والجن تطيعه، فتأتيه بالفاكهة فى غير أوانها. وكان قدم من خراسان إلى العراق وسار إلى مكة، فأقام بها سنة فى الحجر لا يستظل تحت سقف، شتاء ولا صيفًا. وكان يصوم الدهر فإذا جاء العشاء أحضر له القوم كوز ماء، وقرصا فيشربه ويعض من القرص ثلاث عضات من جوانبها فيأكلها، ويترك الباقى، فيأخذونه ولا يأكل شيئا آخر إلى الغد آخر النهار».
 
الصوفي الحلاج
 
وكان شيخ الصوفية يومئذ بمكة عبدالله المغربى فأخذ أصحابه، ومشى إلى زيارة الحلاج فلم يجده فى الحجر وقيل له: «قد صعد إلى جبل أبى قبيس، فصعد إليه فرآه على صخرة حافيًا مكشوف الرأس والعرق يجرى منه إلى الأرض، فأخذ أصحابه، وعاد ولم يكلمه فقال: هذا يتصبر ويتقوى على قضاء الله سوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته، وعاد الحسين إلى بغداد، وأما سبب قتله فإنه نقل عنه إلى الوزير حامد بن العباس، أنه يحيى الموتى وأن الجن يخدمونه، وأنهم يحضرون عنده ما يشتهى، وأنهم قدموه على جماعة من حواشى الخليفة، وأن نصرا الحاجب قد مال إليه وغيره، فالتمس حامد الوزير من المقتدر بالله أن يسلم إليه الحلاج وأصحابه، فدفع عنه نصر الحاجب فألح الوزير، فأمر المقتدر بتسليمه إليه فأخذه، وأخذ معه إنسانًا يعرف بالشمرى وغيره قيل: إنهم يعتقدون أنه إله، فقررهم فاعترفوا أنهم قد صح عندهم، أنه إله، وأنه يحيى الموتى، وقابلوا الحلاج على ذلك، فأنكره وقال: أعوذ بالله أن أدعى الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله عز وجل، فأحضر حامد القاضى أبا عمرو، والقاضى أبا جعفر بن البهلول، وجماعة من وجوه الفقهاء، والشهود، فاستفتاهم فقالوا: لا يفى فى أمره بشىء إلا أن يصح عندنا ما يوجب قتله ولا يجوز قبول قول من يدعى عليه. ما ادعاه إلا ببينة أو قرار».
 
وكان حامد يخرج الحلاج إلى مجلسه ويستنطقه، فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة المطهرة، وطال الأمر على ذلك وحامد الوزير مجد فى أمره، وجرت له معه قصص يطول شرحها، وفى آخرها، أن الوزير رأى له كتابا حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج، ولم يمكنه أفرد من داره بيتا لا يلحقه شىء من النجاسات، ولا يدخله أحد، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله وفعل ما يفعله الحاج بمكة، ثم يجمع بين ثلاثين يتيمًا ويحمل أجود الطعام يمكنه، وأطعمهم فى ذلك البيت، وخدمهم بنفسه، فإذا فرغوا كساهم، وأعطى كل واحد منهم سبعة دراهم، فإذا فعل ذلك كان كمن حج، فلما قرئ هذا على الوزير، قال القاضى أبو عمرو للحلاج: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصرى، قال له القاضى: كذبت يا حلال الدم، قد سمعناه بمكة، وليس فيه هذا، فلما قال،: يا حلال الدم، وسمعها الوزير قال له: اكتب بهذا فدافعه أبو عمرو، فالزمه حامد، فكتب بإباحة دمه، وكتب بعده من حضر المجلس ولما سمع الحلاج ذلك قال: ما يحل لكم دمى واعتقادى الإسلام ومذهبى السنة، ولى فيها كتب موجودة فالله الله فى دمى وتفرق الناس، وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه فى قتله، وأرسل الفتاوى إليه فأذن فى قتله، فسلمه الوزير إلى صاحب الشرطة فضربه ألف سوط فما تأوه، ثم قطع يده ثم رجله ثم يده ثم رحله ثم قتل وأحرق بالنار، فلما صار رمادًا ألقى فى دجلة ونصب الرأس ببغداد، وأرسل إلى خراسان لأنه كان له بها أصحاب فأقبل بعض أصحابه يقولون: إنه لم يقتل وإنما ألقى شبهه على دابة وأنه يجىء بعد أربعين يومًا، وبعضهم يقول: لقيته على حمار بطريق النهروان، وأنه قال لهم: لا تكونوا مثل هؤلاء البقر الذين يظنون أنى ضربت وقتلت.
 
ابن عربى.. الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر
عرف الشيخ محيى الدين بن عربى، بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، هو واحد من كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مر العصور، كان أبوه على بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف. وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها، فنشأ نشأة تقية ورعة نقية من جميع الشوائب الشائبة، وهكذا درج فى جو عامر بنور التقوى، فيه سباق حر مشرق نحو الشرفات العليا للإيمان.
 
ابن عربى
 
وانتقل والده إلى أشبيلية وحاكمها إذ ذاك السلطان محمد بن سعد، وهى عاصمة من عواصم الحضارة والعلم فى الأندلس. وما كاد لسانه يبين حتى دفع به والده إلى أبى بكر بن خلف عميد الفقهاء، فقرأ عليه القرآن الكريم بالسبع فى كتاب الكافى، فما أتم العاشرة من عمره حتى كان مبرزاً فى القراءات ملهما فى المعانى والإشارات، ثم أسلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه تنقل بين البلاد واستقر أخيرًا فى دمشق طوال حياته وكان واحدًا من أعلامها حتى وفاته عام 1240 م ودفنه أعلى جبل قايسون. 
 
وقيل إنه مرض فى شبابه مرضًا شديدًا وفى أثناء شدة الحمى رأى فى المنام أنه محاط بعدد ضخم من قوى الشر، مسلحين يريدون الفتك به.و بغتة رأى شخصًا جميلًا قويًا مشرق الوجه، حمل على هذه الأرواح الشريرة ففرقها شذرًا مذرًا، ولم يبق منها أى أثر! فيسأله محيى الدين من أنت؟ فقال له أنا سورة يس، وعلى أثر هذا أستيقظ فرأى والده جالسًا إلى وسادته يتلو عند رأسه سورة يس، ثم لم يلبث أن برئ من مرضه، وألقى فى روعه أنه معد للحياة الروحية.
 
وتزوج بفتاة تعتبر مثالا فى الكمال الروحى والجمال الظاهرى وحسن الخلق، فأسهمت معه فى تصفية حياته الروحية، بل كانت أحد دوافعه إلى الإمعان فيها، وفى هذه الأثناء كان يتردد على إحدى مدارس الأندلس التى تعلم سرًا مذهب الأمبيذوقلية المحدثة المفعمة بالرموز والتأويلات والموروثة عن الفيثاغورثية والآورفيوسية والفطرية الهندية، وكان أشهر أساتذة تلك المدرسة فى ذلك القرن ابن العريف المتوفى سنة 1141م.
 
ولا شك أن استعداده الفطرى ونشأته فى هذه البيئة التقية واختلافه إلى تلك المدرسة الرمزية، قد تضافر على إبراز هذه الناحية الروحية عنده فى سن مبكرة، فلم يكد يختم الحلقة الثانية من عمره حتى كان قد انغمس فى أنوار الكشف والإلهام ولم يشارف العشرين حتى أعلن أنه جعل يسير فى الطريق الروحانى بخطوات واسعة ثابتة، وأنه بدأ يطلع على أسرار الحياة الصوفية، وأن عددًا من الخفايا الكونية قد تكشفت أمامه وأن حياته سلسلة من البحث المتواصل عما يحقق الكمال لتلك الاستعدادات الفطرية، ولم يزل عاكفًا حتى ظفر بأكبر قدر ممكن من الأسرار.
 
يقول ابن عربى: «من قال بالحلول فدينه معلول، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد فيا إخوتى وأحبائى رضى الله عنكم، يشهدكم عبده الضعيف المسكين الفقير إلى الله فى كل لحظة وطرفة يشهدكم على نفسه بعد أن أشهد الله وملائكته ومن حضره من المؤمنين وسمعه أنه يشهد قولا وعقدا أن الله إله واحد، لا ثانى له منزه عن الصاحبة والولد، مالك لا شريك له ملك لا وزير له، صانع لا مدبر معه، موجود بذاته من غير افتقار إلى موجد يوجده بل كل موجود سواء مفتقر إليه، فالعالم كله موجود به، وهو وحده متصف بالوجود لنفسه، ليس بجوهر متحيز فيقدر له مكان ولا بعرض فيستحيل إليه البقاء ولا بجسم فتكون له الجهة والتلقاء، مقدس عن الجهات والأقطار مرئى بالقلوب والأبصار». 
 
قال عنه الإمام الذهبى فى سير أعلام النبلاء: «ابن عربى العلامة صاحب التواليف الكثيرة محيى الدين أبو بكر محمد بن على بن محمد بن أحمد الطائى الحاتمى المرسى ابن العربى نزيل دمشق ذكر أنه سمع من ابن بشكوال وابن صاف وسمع بمكة من زاهر ابن رستم وبدمشق من ابن الحرستانى وببغداد وسكن الروم مدة وكان ذكيًا كثير العلم كتب الإنشاء لبعض الأمراء بالمغرب ثم تزهد وتفرد وتعبد وتوحد وسافر وتجرد واتهم وأنجد وعمل الخلوات وعلق شيئًا كثيرًا فى تصوف أهل الوحدة ومن أردأ تواليفه كتاب «الفصوص» فإن كان لا كفر فيه فما فى الدنيا كفر نسأل الله العفو والنجاة فواغوثاه بالله وقد عظمه جماعة وتكلفوا لما صدر منه ببعيد الاحتمالات.
 
 وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا أنه سمع الشيخ عز الدين ابن عبد السلام يقول عن ابن العربى شيخ سوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجًا. قلت إن كان محيى الدين رجع عن مقالاته تلك قبل الموت فقد فاز وما ذلك على الله بعزيز.
 
 توفى فى ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وست مئة، وقد أوردت عنه فى التاريخ الكبير وله شعر رائق وعلم واسع وذهن وقاد ولا ريب أن كثيرا من عباراته له تأويل إلا كتاب «الفصوص» .
 
وقال عنه ابن حجر فى لسان الميزان « محمد بن على بن محمد الحاتمى الطائى الأندلسى صاحب كتاب فصوص الحكم مات سنة ثمان وثلاثين وست مائة ورأيته قد حدث عن أبى الحسن بن هذيل بالإجازة، وروى الحديث عن جماعة ونقل رفيقنا أبو الفتح اليعمرى وكان متثبتًا.
 
 قال سمعت الإمام تقى الدين بن دقيق العيد يقول: سمعت شيخنا أبا محمد بن عبد السلام السلمى يقول: وجرى ذكر أبى عبد الله بن العربى الطائى فقال: هو شيخ سوء شيعى كذاب فقلت له: وكذاب أيضا قال: نعم، قلت: نقله لى بحروفه بن رافع من خط أبى الفتح وما عندى أن محيى الدين ما تعمد كذبا لكن آثرت فيه تلك الخلوات والجوع فسادا وخيالا وطرف جنون، وصنف التصانيف فى تصوف الفلاسفة، وأهل الوحدة فقال أشياء منكرة عدتها طائفة من العلماء مروقا وزندقة وعدتها طائفة من العلماء من إشارات العارفين ورموز السالكين وعدتها طائفة من متشابه القول وأن ظاهرها كفر وضلال وباطنها حق وعرفان وأنه صحيح فى نفسه كبير القدر.
 
 وآخرون يقولون قد قال هذا الباطل والضلال فمن الذى قال إنه مات عليه فالظاهر عندهم من حاله أنه رجع وتاب إلى الله فإنه كان عالما بالآثار والسنن قوى المشاركة فى العلوم وقولى أنا فيه ٌنه يجوز أن يكون من أولياء الله الذين اجتذبهم الحق إلى جنابه عند الموت وختم لهم بالحسنى.
 
 

أبو ذر الغفارى.. الثائر المظلوم صاحب المواقف الخالدة

ينتقل الزاهد الورع، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إلى جوار ربه تاركًا خلفه فراغًا هائلاً، ويبايع المسلمون عثمان بن عفان، وتستمر الفتوحات، وتتدفق الأموال من البلاد المفتوحة، فارس والروم ومصر، وظهرت بين العرب طبقات غنية كنزت الأموال، وبنت القصور، وعاشت عيشة الأمراء، كما ظهرت بجانبهم طبقات فقيرة، لا تجد ما تقتات به، خرج أبو ذر إلى معاقل السلطة والثروة يغزوها بمعارضته معقلاً معقلاً، وأصبح فى أيام معدودات الراية التى التفَّتْ حولها الجماهير والكادحون، وكان إذا نزل بأرض ردد قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35]. ولقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة هناك بالشام، حيث معاوية بن أبى سفيان، يحكم أرضًا من أكثر بلاد الإسلام خصوبة وخيرًا- حسب موقع قصة الإسلام- ويستشعر معاوية الخطر، وتفزعه كلمات الثائر الجليل، ولكنه يعرف قدره، فلا يقربه بسوء، ويكتب من فوره للخليفة عثمان بن عفان، ويكتب عثمان لأبى ذر يستدعيه إلى المدينة، ويجرى بينهما حوار طويل، ينتهى بأن يقول له أبو ذر: «لا حاجة لى فى دنياكم»، وطلب أبو ذر من عثمان أن يسمح له بالخروج إلى «الرَّبَذَة»، فأذن له. 

 

أتى أبا ذر وفدٌ من الكوفة وهو فى الرَّبَذَة، يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد عثمان بن عفان، فزجرهم بكلمات حاسمة قائلاً: «والله لو أن عثمان صلبنى على أطول خشبة، أو جبل لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خيرٌ لى، ولو سيَّرنى ما بين الأفق إلى الأفق، لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لى، ولو ردنى إلى منزلى لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خيرٌ لى». وهكذا أدرك ما تنطوى عليه الفتنة المسلحة من وبال وخطر؛ فتحاشاها
 
عن صدقة بن أبى عمران بن حطان، قال: أتيت أبا ذَرّ فوجدته فى المسجد مختبئًا بكساء أسود وحده، فقلت: يا أبا ذَرّ، ما هذه الوحدة؟
 
فقال: سمعت رسول الله يقول: «الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة، وإملاء الخير خير من السكوت، والسكوت خير من إملاء الشر». 
 
وروى البخارى بسنده عن أبى ذر قال: سألت النبى، أى العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله وجهاد فى سبيله». قلت: فأى الرقاب أفضل؟ قال: «أعلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها». قلت: فإن لم أفعل. قال: «تعين صانعًا (أى تعين صاحب مهنة على مهنته، أو أى عامل على عمله) أو تصنع لأخرق». 
 
(ومعنى تصنع لأخرق أى ترشده وتوجهه أو تعمل له العمل الذى لا يقدر عليه). 
 
قلت: فإن لم أفعل. قال: «تدع الناس من الشر؛ فإنها صدقة تصدق بها على نفسك».
 
وعن أبى ذر، عن النبى قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم». قال: فقرأها رسول الله ثلاثا مرارًا، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: «المُسْبِل، (أى المسبل إزاره ) والمنَّان، (أى الذى لا يفعل شيئًا إلا بالمنّ) والمُنْفِق سلعته بالحلف الكاذب».
 
منذ أسلم أبو ذر أصبح من الدعاة إلى الله، فدعا أباه وأمه وأهله وقبيلته، ولما أسلم أبو ذر قال: انطلق النبى وأبو بكر وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابًا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت، فقال رسول الله: «إنى قد وجهت إلى أرض ذات نخل -ولا أحسبها إلا يثرب- فهل أنت مبلغ عنى قومك؛ لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم». قال: فانطلقت حتى أتيت أخى أنيسًا، قال: فقال لى: ما صنعت؟ قال: قلت: إنى أسلمت وصدقت. قال: فما بى رغبة عن دينك، فإنى قد أسلمت وصدقت. ثم أتينا أُمَّنا فقالت: ما بى رغبة عن دينكما، فإنى قد أسلمت وصدقت. فتحملنا حتى أتينا قومنا غفارًا. قال: فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله المدينة، وكان يؤمِّهم خُفاف بن إيماء بن رَحَضَة الغفارى، وكان سيِّدهم يومئذ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله أسلمنا. قال: فقدم رسول الله فأسلم بقيتهم. قال: وجاءت «أسلم» فقالوا: يا رسول الله، إخواننا، نُسلم على الذى أسلموا عليه. فقال رسول الله: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله». 
 
قيل لأبى ذرٍّ: ألا تتخذ أرضًا كما اتخذ طلحة والزبير؟ فقال: «وما أصنع بأن أكون أميرًا، وإنما يكفينى كل يوم شربة من ماء أو نبيذ أو لبن، وفى الجمعة قَفِيزٌ من قمح». وعن أبى ذر قال: «كان قوتى على عهد رسول الله صاعًا من التمر، فلست بزائدٍ عليه حتى ألقى الله تعالى». صدق اللهجة: قال أبو ذَرّ: قال لى رسول الله: «ما تقلّ الغبراء ولا تظل الخضراء على ذى لهجة أصدق وأوفى من أبى ذَرّ، شبيه عيسى ابن مريم». قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: يا نبى الله، أفنعرف ذلك له؟ قال: «نعم، فاعرفوا له». حرص أبى ذر الغفارى على الجهاد رغم الصعوبات: عن عبد الله بن مسعود قال: لما سار رسول الله إلى تبوك، جعل لا يزال يتخلف الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول: «دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه». حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره. فقال رسول الله: «دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه». فتلوَّم أبو ذَرّ على بعيره فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره فخرج يتبع رسول الله ماشيًا، ونزل رسول الله فى بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشى على الطريق. فقال رسول الله: «كن أبا ذَرّ». فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو -والله- أبو ذَرّ. فقال رسول الله: «رحم الله أبا ذَرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده». 
 
بعض المواقف من حياة أبى ذر الغفارى مع الرسول 
ولد أبو ذر فى قبيلة غفار بين مكة والمدينة، وقد اشتهرت هذه القبيلة بالسطو، وقطع الطريق على المسافرين والتجار وأخذ أموالهم بالقوة، وكان أبو ذَرّ رجلاً يصيب الطريق، وكان شجاعًا يقطع الطريق وحده، ويُغير على الناس فى عماية الصبح على ظهر فرسه أو على قدميه كأنه السبع، فيطرق الحى ويأخذ ما يأخذ. ومع هذا كان أبو ذَرّ ممن تألّه «أخذ أبو بكر بيدى فقال: يا أبا ذر. فقلت: لبيك يا أبا بكر. فقال: هل كنت تأله فى جاهليتك؟ قلت: نعم، لقد رأيتنى أقوم عند الشمس (أى عند شروقها)، فلا أزال مصليًا حتى يؤذينى حرّها، فأخرّ كأنى خفاء. فقال لى: فأين كنت توجَّه؟ قلت: لا أدرى إلا حيث وجهنى الله، حتى أدخل الله علىّ الإسلام». فى الجاهلية، وكان يقول: لا إله إلا الله، ولا يعبد الأصنام.
 
 النور يسرى إلى قلب أبى ذَر وقبيلته:
 عن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال: قال أبو ذر كنت رجلاً من غفار، فبلغنا أن رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبى، فقلت لأخى: انطلق إلى هذا الرجل كلِّمه وَأْتنى بخبره. فانطلق فلقيه، ثم رجع فقلت: ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير، وينهى عن الشر. فقلت له: لم تشفنى من الخبر. فأخذت جرابًا وعصًا، ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون فى المسجد. قال: فمر بى عليٌّ فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت: نعم. قال: فانطلق إلى المنزل. قال: فانطلقت معه لا يسألنى عن شىء ولا أخبره، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرنى عنه بشىء. قال: فمر بى علىٌّ فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله بعد؟ قال: قلت: لا. قال: انطلق معى. قال: فقال: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمت علىَّ أخبرتك. قال: فإنى أفعل. قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبى، فأرسلت أخى ليكلمه فرجع ولم يشفنى من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال له: أما إنك قد رشدت، هذا وجهى إليه فاتبعنى، ادخل حيث أدخل، فإنى إن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأنى أصلح نعلى، وامضِ أنت. فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبى، فقلت له: اعرض علىَّ الإسلام. فعرضه فأسلمت مكانى، فقال لى: «يا أبا ذَرّ، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل». فقلت: والذى بعثك بالحق لأصرخَنَّ بها بين أظهرهم. فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا فضُربت لأموت، فأدركنى العباس فأكب علىَّ، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم! تقتلون رجلاً من غفار، ومتجركم وممركم على غفار. فأقلعوا عنى، فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فصُنع بى مثل ما صنع بالأمس، وأدركنى العباس فأكبّ علىَّ، وقال مثل مقالته بالأمس.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق