مطلقية النسبي ونسبيّة المُطلق
الخميس، 25 مايو 2017 11:51 م
دعا جورج صديق طفولته محمد لتناول وجبة الغذاء في أحد المطاعم وذلك عقب تسلمه مرتب الشهر، وقبيل أن يصعد الجنيه المركب المخروق ليعبر بحر هائجه هي أمواجه، عاتية هي رياحه، بعد أن ظنّ أن بمكنته العوم. جلسا الصديقان وقدِم أحد العاملين لأخذ الطلب وقام بوضع رقم (6) على الطاولة، مرّت ساعة كاملة والصديقان اللذان يتضورا جوعًا لم يشعرا بالوقت وذلك لتسامرهما وانشغالهما بالحديث عن مستقبل البلاد والعباد، إِلَّا أن الجوع ألحّ عليهما من جديد، الأمر الذي دعا محمد لأن يقوم بنفسه ليستطلع الأمر ويقف على سبب تأخر الطلب، سيما وأن الزبائن الآخرين ممن قدِموا بعدهما شرعوا بالأكل بالفعل.
تحدث محمد مع أحد المسؤولين في المطعم فأخبره أن طلبه جاهز منذ قرابة الساعة لكن بالبحث عن رقم الطلب تبيّن أنه غير موجود، فظنّ العاملين بالمطعم أن صاحب الطلب اضطر لمغادرته، لكن هذا ما نفاه محمد، قائلًا عصافير بطننا "بتصوصو"، ليأتي معه المسؤول إلى حيث يجلسا، ويلمح بعينيه رقم تسعة (9) حيث كان آتيًا من زاوية تسمح له بقراءة رقم ستة، تسعة، ويقول له الطلب للتربيذة رقم ستة وحضرتك رقم تسعة ليشاهد محمد فيجد بالفعل أن الرقم هو تسعة، ليسّر جورج من مثل هذا موقف، وليتدخل شارحًا لصديقه وللمسؤول بأن كلاكما محق وكلاكما على جادّة الصواب ولكن من وجهة نظر كلا منكما فقط. فالمسؤول الذي قرأ الرقم تسعة لأنه رآها من زاويته وطرفه، ومحمد وجورج نفسه اللذان قرآه ستة لأنهم في مواجهة الرقم مباشرة، ولكن كلا منهما يملك الحقيقة النسبيّة، ولولا تدخل جورج الذي فطن لسوء التفاهم القائم بين مُطلقيّة كل طرف لصارت مشكلة كبيرة ومعضلة عظيمة
يحمل عنوان هذه المقالة عنوان لكتاب لي كتبته أوائل عام ٢٠٠٦ ويصدر نهاية هذا العام إن شاء الله، ولعلّ تساؤل من زميل وصديق عزيز عن دفاعي عن فصيل سياسي معارض لفكر وفلسفة الراحل المرحوم فرج فوده، وفِي نفس الوقت دفاعي عن فرج فوده نفسه، ظنًا منه بتناقضيّة وتضاديّة موقفي، هو ما حدا بي لأن أسطر وجيزًا له، أيضًا ما تموج به الفضائيات وما تزخر به صفحات الجرائد وما تتنافس فيه مواقع الانقطاع الاجتماعي (التواصل سابقًا)، من فتنة التكفير، وإقصاء لنعمة التفكير، ومن عصبية ممقوتة، وتشرنج بغيض، وتقوقع مذموم، وعزلة فرقوية، كل ذلك دفعني لكتابة هذه المقالة.
الدين الإسلامي من جانبه أمر بعدم الانشغال بأمور الغير، وَحَرَّم الغيبة والنميمة والتجسس، وأكدّ الرسول الكريم في حديث صحيح أنّ من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، تلك القاعدة العامة وجب على المسلم الاهتداء بها، والعمل بمقتضياتها، سواء في الحياة الخاصة أو العامة
ولعلنا نجد تطبيقًا لتلك القاعدة في الفقه الإسلامي، والمقولة الشهيرة للإمام الشافعي رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، في هذا القول، انتصر الإمام لرأيه في مسألة ما وإن لم يصل بها لدرجة المطلقيّة، وفِي ذات الوقت أقام وزنًا وأفرد احترامًا وأظهر تقديرًا لرأي غيره الخطأ المُحتمِل صوابًا.
وثيق صلة بمطلقيّة النسبي احترام حرية الآخر في اختياراته، من مسلك ومأكل ومخبر وأسلوب حياة، إن لم تقْنع بهذا وذاك، فذاك حقك، لكن عليك ألا تنسى أنه صواب وحقيقة من وجهة نظر الغير.
بحُسن فهمنا لمُطلقيّة النسبي ونسبيّة المُطلق، سوف ننعم برغد العيش، وبصفو العلاقة، وبقبول الآخر، ومن احترام اختياراته، ومن تبادل لهذا الاحترام. فبتطببق هذا المبدأ، والذي من مقتضياته أن مرد العدالة القياس على النفس، أن تحترم عقيدة الآخر، تلك العقيدة الثابت صحتها في جانبه ومُعتقده، والغير ثابت في طرفك مُعتقدك، كذلك الحال، فحقك عليه أن يحترم حريتك في اختيار عقيدتك الثابت صحتها من جانبك، وغير الثابت صحتها من جانبه.
وباحترام تلك العلاقة التبادلية وبالتنفيذ الأمين لها نُصلح من شأن أحوال مجتمعاتنا، ونُبعد خطر التطرّف الفكري، ونقضي على شبح الإرهاب، ونبني حاضرًا متسامحًا، ومستقبلًا آمنًا لأولادنا المبدأ حرية الاختيار والانتقاء من مسلك وتجربة وعادات وتقاليد الآخرين، فمتى ثبت نسبيّة الغير في جانبك، يكون بمكنتك اعتناق فكرة من أفكاره والإعراض عن الأخريات، أيضًا يحق لك أن تطبق مبدأ من مبادئه من دون الباقين، أي أنه يحق لك أن تشكل باقة الزهور من بساتين الآخرين ووفق ظروفك مع ضمان احترام المجتمع لك ولخياراتك ومطلقياتك والتي تبقى للمجتمع نسبية.
بقى لك أيها القارئ الكريم أن تطبّق تلك القاعدة، فمطلق هذا الكلام لي ونسبيته لك، لك أن تقْنع به، ولَك أن ترضى بجزئه، ولَك أن تعْرض عن مُجمله، ولي أن يُحترم هذا الكلِم، وأُحاج به على نفسي، ويستشهد به على.