«التضامن» تشترط على المشردين وجود سكن لمساعدتهم.. «صوت الأمة» بين دراويش الشوارع.. عقول تاهت فى قسوة الحياة
الثلاثاء، 23 مايو 2017 12:00 متحقيق هناء قنديل - تصوير هشام سيد
يبدو أن سلسلة البحث عمن لجأوا إلى الشارع ليقضوا ما بقى لهم من حياة بين أحضانه، لن تنتهى قريبًا، فبعدما فجّرت «صوت الأمة»، قضية سيدات الشوارع المشردات، اللاتى لم يجدن الرحمة فى قلوب الأهل والأبناء؛ فاتجهن إلى ملكوت الله هائمات على أعتاب المساجد، ووسط الميادين، مفترشات الأرصفة، ومداخل العمارات، وجدنا أنفسنا أمام صنف جديد ممن احتموا بالسماء العارية، وهم دراويش الشوارع، أى الرجال الذين لم يعد لهم مأوى، وتخلى عنهم الأحباء والأقارب، وقست عليهم الحياة؛ قتلت فى وجدانهم الشعور بالدفء الأسرى، حنان من أنفقوا عمرهم من أجل أن يجعلوا منهم أبناء قادرين على مواجهة الحياة.
أسفل الكبارى يعيشون، ومن صناديق القمامة يأكلون، ومن صنابير المياه بالحدائق العامة يشربون. هذا هو ملخص حياتهم اليومى، بعد أن فقدوا أهليتهم، وفقد عدد منهم معها عقولهم، يعيشون على باب الله، هاربين من قسوة الحياة.. اقتربنا منهم، لنلقى الضوء على حياتهم، دون أن نخاف انفعالاتهم، أو نتوجس من ردود أفعالهم، فوجدنا أنفسنا ندخل دنيا لم نكن نتوقع وجودها بين ظهرانينا فى بلد تحض تقاليده على التكافل والتراحم والحب.
عم سمير.. ضحى به أبناؤه ولم يرحمه المرض فلجأ لـ«أم العواجز»
الأب المظلوم: عيالى قلوبهم حجر وربنا يجعل خلفتهم زيهم
عربية خبطتنى دمرت رجلى ومحدش بيسأل عنى
على مقربة من مسجد السيدة زينب، التى تشتهر بين البسطاء بلقب «أم العواجز»، يجلس رجل ستينى، تبدو عليه علامات المرض، وتفصح حالته عن إصابة قوية، لم يعالج منها، فقد تورمت رجلاه بشدة، وامتلأت بالجروح، والكدمات التى تقيحت من أشعة الشمس.
وقال عم سمير: «أبنائى تخلوا عنى، ورمونى بعدما ربيتهم، وخليتهم رجالة، فاضطررت لترك موطنى فى بنى سويف، والحضور إلى هنا لعلى أجد من يعطف على».
وأضاف: «أصبحت تحت رحمة المرض، والجروح تنهش جسدى، ولا أجد من يعالجنى، رغم أننى ربيت أولادى الثلاثة، وشغالين مقاولين مسلح، إلا أنهم رمونى، وإن شاء الله خلفتهم تطلع زيهم».
وتابع: «ورق إثبات شخصيتى راح منى، وبطاقتى، ولما روحت أطلب معاش من وزارة التضامن، قالوا لى لازم إثبات شخصية، وسكن عشان نعمل لك بحث حالة، وحتى لما رحت المستشفى عشان يعالجونى رفضوا، ورمونى، لحد ما رجلى راحت، وأنا مش عايز غير معاش، وربنا يجيب لى حقى من أولادى وأمهم اللى حرضتهم يرمونى كده».
سعيد «أبوكرتونة».. ثمانينى يجبره أبناؤه على التسول لشراء المخدرات
رغم بُعد المسافة، فإن الظروف واحدة، هذا ما تأكدنا منه، عندما وجدنا ذلك الرجل الذى تجاوز الثمانين، قابعًا على مدخل مزلقان ناهيا بالجيزة، الذى يبعد عن ميدان السيدة زينب حيث عم سمير، بحوالى 9 كيلومترات، ومع ذلك فإن أوجه الشبه بينهما كبيرة جدًا.
وجدناه مختبئًا داخل كرتونة كبيرة الحجم، وقال لـ«صوت الأمة»: «أنا عايز فلوس، لأن أولادى يجبرونى على التسول؛ من أجل إحضار النقود التى ينفقونها على المخدرات» رافضًا تصويره قبل الحصول على «اللى فى القسمة»، مؤكدًا أنه يتعرض لضرب مبرح من أبنائه، إذا رفض منحهم المال، أو رفض التسول من أجلهم».
وإلى جوار أبو كرتونة يجلس رجل آخر مصاب بداء الفيل، تجاوز عمره الـ60 سنة، وإلى جواره «جميلات»، وهى سيدة من سيدات الشوارع، التى قصت لنا حكايته، وكيف أنه لا يتكلم مع أحد، ولا يجد من يعطف عليه، بعدما تركه أبناؤه تحت رحمة الشارع.
لغز عمر ومحمود.. حاجة تحير
عمر جاء من الصعيد للإقامة على رصيف الأزهر بسبب مشاكل الأهل
محمود مش عايز من الدنيا حاجة ومش فاكر أى حد
يرفض الحديث عن ماضيه ويؤكد أنه لا يعرف من الدنيا إلا أن اسمه عمر، وحضر من الصعيد قبل 6 سنوات، أما الأسباب، أو حتى البلد التى جاء منها فلا يعرف عنها شيئًا.
وأضاف لـ«صوت الأمة»، يظنون أننى متسول، وهذا غير صحيح، فكل ما فى الأمر أننى إنسان بلا مأوى أو عمل، لذا أجلس هنا، حتى أجد من يحن على بالطعام، والشراب.
ويقول: «المشاكل مع أهلى هى اللى جابتنى هنا؛ لأنه مبقاش ينفع أعيش معاهم، أما هنا فأقضى يومى إما على القهوة بين الأهالى الذين يرحبون بى، أو وحدى على فرشتى».
المناقشة مع عمر، جعلتنا نعرف أنه ملم بالأحداث، وتلقى قدرًا من التعليم، فهو يجيد قراءة الجرائد، ويعلم بالتطورات السياسية، وخلع مبارك فى ثورة يناير، وما حدث بعدها حتى مجيء الرئيس السيسى».
أما «محمود»، فيجلس بين الكلاب الضالة، ويهوى معاونة عمال هيئة تجميل القاهرة، فى رى الحديقة الوسطى بالحسين.
سألناه عن تفاصيل حياته؟ فأكد أنه لا يعرف شيئًا، ولا يذكر أحدًا، ولا يريد من الدنيا أى شيء، فقط يطالب الجميع بأن يتركوه وشأنه دون تدخل.
ويرتدى محمود ملابس رثة، ثقيلة لا تناسب حرارة الجو المحيط، وفى يده اليسرى جرح ملفوف بشاش يوحى بخطورته، ووجدنا أحد الباعة يحاول النصب عليه، وإقناعه بشراء جورب، للاستيلاء على ما معه من نقود مستغلا حالة التوهان التى يعيشها محمود.
يعيش فى الشارع بعد طرده من شقته لعدم دفع الإيجار
عم إبراهيم: صرفت اللى حيلتى عشان أركب مفصل لرجلي
حكاية عم إبراهيم تؤكد أن الفقير فى هذا البلد لن يجد الحياة، إذا أصيب بالمرض، ويقول: «أصبت بكسر فى الساق أقعدنى عن العمل، لأننى كنت أرزقيًا، أعمل باليومية، وصرفت كل اللى حيلتى عشان أركب مفصل، لكن بعدها صرت عاجزًا عن العمل، فتم طردى من السكن، فتركتنى زوجتى، وبناتى تزوجن بعرقى وتعبى، ورفضت أن ينفق على زوج ابنتى، فسبتهم، وجيت قعدت هنا فى الحسين».
وتتكرر مأساة وزارة التضامن مع عم إبراهيم أيضًا الذى لم يشفع له وصوله إلى السبعين، وقال له موظفو الوزارة، عندما طلب الانضمام إلى معاش تكافل وكرامة، لازم يكون عندك شقة عشان نعملك بحث، ويرد عم إبراهيم: «إذا كنت مش لاقى آكل هجيب شقة منين؟».
وفجأة ينخرط الرجل فى البكاء، قائلا: «التليفون اللى كان معايا ضاع، وضاعت معاه أرقام بناتى، ومابقتش أعرف عنهم حاجة، ولا أحد يهتم بى».
وأضاف: «كل ما أطلبه من الحياة الآن، هو سكن بحمام، على أمل استعادة حياتى مرة أخرى».
ويقول على، وهو أربعينى يستتر أسفل عدد من البطانيات فى شارع قصر العينى، خلف محطة الأتوبيس فى أول الشارع: «اعتدت هذه المضايقات، وصرت أتحملها، وأسامح من يضايقنى، وفى مرة هاجمنى مجهولون، وأخذوا كل ما معى، وحتى بطاقتى الشخصية أيضًا».
وأضاف: «فى المقابل أيضًا أجد إحسانًا من عدد آخر من الأهالى، فكثيرًا ما أستيقظ لأجد إلى جوارى وجبة إفطار، وضعها أحد المارة، ولم يشأ أن يوقظنى».
دنيا الشارع تحكمها القسوة وتغيب عنها الدولة
تؤكد الأرقام أن الشارع المصرى، يمثل دنيا كاملة، لعدد غير قليل من أبناء هذا الوطن، الذى غابت عنه الحكومة، وصارت بلا تأثير يذكر على حياة من يعيشون فيه.
وتشير الإحصاءات إلى أن هناك نحو 7 ملايين مصرى مصابون بأمراض عقلية ونفسية، يعيشون فى الشارع وأن 17 ٪ من المصريين عرضة للانضمام إليهم.
وتشير مصادر المعلومات إلى وجود أكثر من 12 ألف مريض نفسيًا يجوبون شوارع القاهرة وحدها، بينما يعيش 14 ٪ من الفقراء مشردون بلا مأوى.
يرى الدكتور محمد سيد أحمد، أستاذ علم الاجتماع أن غياب الدولة، عن تنظيم حياة الفقراء، ومنحهم الحد الأدنى من الإعانة على تحمل مشاق الحياة، يعمق المأساة الإنسانية لهذه الفئة، لاسيما فى ظل تضاعف أعدادها يوميًا، على خلفية الظرف الاقتصادى القاسى الذى نعيشه حاليًا.
وأضاف: «كيف تطلب الوزارة من مشرد أن يكون له سكن؛ من أجل أن يتمتع بحقه فى معاش تكافل وكرامة؟!».