قراءة في رواية دافو للأديبة نهى جميل الحاج

الجمعة، 19 مايو 2017 07:24 م
قراءة في رواية دافو للأديبة نهى جميل الحاج
رواية دافو

دافو رواية نبوئية للأديبة نهى جميل الحاج، تتكلم عن ارتباك الجماعات الإنسانية في ظل كارثة كبرى، وافتقاد تلك الجماعات عندما تتجلى لهم الكارثة المريعة بكل تداعياتها، افتقادهم للدولة التي كانت دائمًا كيانًا وصيًا ومتعجرفًا يقوم بالإملاء والحراسة في آن واحد. يجرب هؤلاء للمرة الأولى، وبين أنياب الطبيعة القاسية، وبعد أن أفقدت الدولة الجماهير منذ سنين طويلة كثيرًا من مواهبهم الدفينة التي صاروا لا يعرفونها، وقلَّصت من إمكانياتهم في تحديد المصير، وجعلتهم غير مؤهلين للحرية المطلقة، يجدون أنفسهم يمضون في ارتباك شديد بحثًا عن الملاذات الآمنة معتمدين على أنفسهم، حاملين معهم ما يمكن حمله، في أجواء يختلط فيها بطريقة بديعة شكل النزوح العصري بالنزوح التراثي كأنما خلخلت الأزمة الشديدة معنى الزمن، ينزحون بلا أية تأكيدات من أي نوع، وبغير نشرة أخبار، وبغير بيانات، وبغير حتى اعتذار؛ أشبه ما يكونون بكائنات وجدت نفسها حرة في الخلاء القاحل بعد أن انقلبت عربة السيرك التي كانت تحملها، فصار لديها رعب شديد من عدم وجود أي فقرة منظمة.
 
يقول الناقد الأدبي محمود توفيق إننا أمام قرية نوبية وادعة، عرف أهلها من العمدة العجوز أنهم سيتعرضون للتشتت من جديد: لن نبقى يا قوم، النهر الصاعد للشمال قد جف، القرى جاعت، نفد الزاد، وكل الأخبار تؤكد حتمية الرحيل، فشلت المفاوضات الأخيرة واحتجز السد الأصم ما تبقى من الماء الصاعد إلينا، أغلقت الحبشة عيون سدها، ولم يتبق سوى الماء العطن، فلم المكوث وسط هذا الموت الحتمي؟ 
 
بعد أن جمعوا أشياءهم على عجل، زاروا المقابر وترحموا على أمواتهم، وسقوا الصبار المزروع عند شواهد القبور، هذه صورة جميلة وغير عابرة على الإطلاق!
 
يمكن للقارئ من كلمات الرجل النوبي الطاعن في السن أن يعرف الجريمة بجلاء، التي يكون فيها النيل، للمصريين عامة، هو الجثمان، من خلال هذا العمل الروائي الذي له روح كارثة توراتية محيطة، والذي لا أعرف غيره حتى الآن يتناول هاجس نضوب النيل بعد السد الأثيوبي؛ ولكن نبوءة الخراب القاتمة هذه، تنبعث من الجغرافيا النوبية، والذاكرة النوبية الجريحة، وهذه هي إحدى المناطق المثيرة للإعجاب في روح الرواية: ذلك الاضطراب العاطفي المثير تجاه النيل، فالنيل هنا قادم من السنين والأسطورة، وليس مجرد وصيف سياحي وديع، إنه يستطيع أن يضمر شيئًا ما للقابعين بالقرب من ضفافه، هو النيل الذي لا غناء عنه، وهو النيل الوحْش الذي أغرق النوبة ببيوتها ونخيلها، إنه باطش عندما غمر الأرض، وباطش الآن عندما جف.
 
النقطة الثانية التي تثير الإعجاب، هي أنه في شدة تلك الأزمة، يزداد التمسك بالأصل، ويزداد الشوق للأرض الأولى، فهذه القرية نفسها التي طال مكوثهم فيها، هي ليست النوبة الحقيقية، فكان من الجميل والإنساني، والمنطقي أيضًا، في ظل هذا الشتات الجديد، أن يتفجر الحنين للنوبة الغارقة أكثر من الحنين لملاذ جديد غريب، وهذا يشبه النزعة الأصولية عند جميع الأمم العريقة في مواجهة هزائم الدنيا المتتالية. 
 
لا أريد أن أطيل في ذكر جماليات العمل الأسمر الذي تشم فيه رغم وطأته روائح التمور والرياحين، وتسمع ضحك الصبيان وهم يلعبون؛ لأترك الفرصة للقارئ أن ينزح فيه مع أبطاله بغير توجيهات مني كما مضى أبطاله بغير توجيهات، وسيكتشف كم هو إنساني هذا العمل، بقدر ما هو نوبي، ويمكن له أن يشعر بكل الجروح التي به كما لو كانت على ظهره.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق