حاتم العبد يكتب: تعدد الزوجات بين الرخصة والحق
الخميس، 18 مايو 2017 03:47 م
بادئ ذي بدء، أعلم ما ستجلبه عليّ تلك المقالة من سخط وغضب وتطاول ولربما إلى نعتي بإنكار ما هو ثابت من الدين بالضرورة، وما إلى ذلك من صنوف هجوم ألفتها، واعتدت عليها، بل إن مثل هذا هجوم يدفعني للاستمرار في التفتيش في المسكوت عنه، وإسقاط أقنعة الخوف، وخلع عباءة التجهيل، إلا أني قد عاهدت نفسي، بعدما عاهدني قلمي على ألّا يسطر إِلَّا عن قناعة، وعلى هادفيّة كلِم، وتنويريّة رسالة، وأؤكد أنني لست بعالم دين ولا أدعيه، ولست متخصصًا في العلوم الشرعية، لكنّ الموضوع محل البحث، وهو اجتماعي ديني قانوني، لا يتطلب البتّة مُتخصصًا أو فقيهًا في المواد الشرعية. تأطيرًا للمسألة، وسدًا لباب الطعن بالباطل في هدف ومرمى المقالة، وإيضاحًا للأمور، أقول معاذ الله أن أُنكر أنا أو غيري حِل تعدد الزوجات، فهو ثابت بالقرآن والسنة والإجماع وكافة المصادر الشرعية، فحِل التعدد مسألة لا يتناطح فيها كبشين، وهي ليست موضوعنا اليوم، لكن السؤال المطروح، والباحث عن إجابة هو: هل تعدد الزوجات حق أم رخصة؟
حِل الإفطار في نهار رمضان حال السفر والمشقة غير المُطاقة شرع الله، لكن اختلف العلماء بين جوازه ووجوبه، ولم ينازع أحدًا قط شرعيته. كذلك الحال بالنسبة لتعدد الزوجات، الاتفاق على أنه من الشرع، لكن دعونا ننظر للأمور بنظرة أخرى، نظرة تتحلل من تأثير المجتمع الذكوري، نظرة تنتصر هدف التشريع وحكمة التنزيل وإلى إنسانية المرأة، نظرة بالعقل لا بالشهوة. وأود التأكيد على أنه يؤلمني أيّما ألم، نسبة المطلقات والأرامل واللاتي لم يتزوجن بعد في مصرنا الحبيبة، وأود لو رأيت جميع الشباب والشابات، في بيت الزوجية ناعمين بطيب العيش وبصفو العلاقة وبغلظة الميثاق.
آفة مجتمعنا العربي ومصر في القلب منه هو الخلط البيّن بين ما هو حق وما هو رخصة، اليوم وإذ أتناول مع حضراتكم موضوع اجتماعي بامتياز لعلّ الخُطوة الأولى لفهم وتأصيل الموضوع تكْمن في معرفة الفرق بين الحق والرخصة، وبعيدًا عن نظريات فقهية ودراسات متخصصة، وببساطة يمكننا القول بأنّ الحق لا يتوقف على إقرار أحد به أو إجازته من قبل هيئة أو مؤسسة، فهو لصيق بصاحبه، أما الرخصة فهي على العكس من ذلك، تتطلب شروطًا ينبغي استيفائها، وإقرارًا من قبل جهة ما، مؤسسة كانت أم هيئة.
ولنضرب مثال للحق، بالحق في الميراث، فمن لحظة وفاة المُتوفى، يثبت الحق في الميراث لورثته الشرعيين، وما إعلام الوراثة إلّا إجراءًا كاشفًا للحق غير مُنشئًا له، فهو يثبت حتى للجنين في بطن أمه، مُتحللًا من أيّة شروط، أمّا رخصة القيادة، فهي تتطلب شروطًا وتستلزم إجراءات معينة، ويكون القرار الصادر بمنحها لمستحقها بمثابة قرار مُنشئ لها وشرعية للتمتع بها، أي أنّ على راغبي الحصول عليها اتباع تلك الإجراءات واحترام مقتضياتها. في التوصيف الصحيح والتكييف القانوني لتعدد الزوجات، هل هو رخصة أم حق؟ إذا ما قلنا بأنّه حق، فلا نبحث عن شروط وجب استيفائها وأحكام وجب احترامها، فهذه وتلك لا يغيرنّ من الأمر شيئًا، وإذا ما قلنا برخصة التعدد، لاختلف الأمر، ولانقلب رأسا على عقب، ووجب التدقيق في توافر الشروط، والإمعان في اجتماعها، حتى تمنح لمستحقها، وتُحجب عن غير المستحق.
بالنظر إلى تعدد الزوجات، نجد أن الشرع قد أحاطه بسياج من الشروط وجملة من الأحكام، لعلّ أهمها هو الضرورة، وموافقة الزوجة الأولى والعدل والنظر إلى العواقب المترتبة عليه. ولعلّ من الأهمية بمكان الإشارة إلى منع الرسول صلى الله عليه وسلم عليّ ابن أبي طالب من الزواج على فاطمة ابنته وقال: )وإِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا(، وهو التعدد وزواج عليّ كرم الله وجهه من أخرى.
المؤيدين والمقتنعين بأن التعدد هو حق، فقط يقرأونفقط جزءًا من الآية الكريمة من سورة النساء (مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، بمعزل عن سبب نزولها وحتى بمعزل عن كامل الآية(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِىالْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَأَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا)، أما من يَرَوْن الترخيص في التعدد فهم على العكس من ذلك تمامًا، إذ لا يجتزؤوا من الآية الكريمة، ولا يحرفون الكلم، ويتفكروا ويتمعنوا في حكمة نزولها.
وثيق الصِّلة بالتكييف القانوني للتعدد، هو معرفة إذا ما كان هو القاعدة أم الاستثناء، ودون الخوض في عميق الاستدلال، يكفي أن نذكر أن سبب النزول جاء عقب غزوة أحد واستشهاد عدد كبير من المسلمين الأوائل، وترمّل زوجاتهم وتيتيم أطفالهم (الضرورة)، فجاء القرآن معالجًا لتلك الحالة الاستثنائية، بإباحة الزواج من أربع سيدات، لكنه أتى مشروطًا بالعدل وأردف الشرع أن الرجال لن يعدلوالقوله تعالى «وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ».
ولعلني أتساءل مع آخرين، هل جاء إقرار تعدد الزوجات تهذيبًا لما درجت عليه الجاهلية من تعدد غير مشروط، وانتصارًا إلى كفالة اليتيم وتحصين الأرملة، أم أنه أتى لإقرار شهوة ومتعة جسدية؟ ثم للقائلين بالحق في التعدد، ألم تضع الشريعة الإسلامية قيدًا عامًا في استعمال الحق وهو عدم التعسف والإسراف في استعماله؟ أليس الزواج من دون ضرورة ولا داعٍ نوع من أنواع التعسف، بفرض تسليمنا بتفسير التعدد بكونه حق وليس رخصة.
لك أن ترى في التعدد حقًّا طليقًا من كل قيد أو شرط وقاعدة في أصل الزواج، ولَك أن ترى فيه رخصة، مشروطة ومُقيدة ومُثقلة بالأعباء ومحملة بالواجبات واستثناءًا في أصل الزواج، ولي أن أبديت برأيي، وأدليت بدلوي، والله من وراء القصد.