الماكرونية الفرنسية
السبت، 13 مايو 2017 05:36 م
(١)
ليس غريبًا أن يحتلّ الخبز الفرنسي الصدارة العالمية، فهو مُنتج من القمح الفرنسي المُتسنّم أقماح العالم، فهو خير من خير.
يتصدر القمح الفرنسي ريادة أقماح العالم وذلك لعوامل ثلاثة: كون بذوره من النوع عالي الجودة، غزير الإنتاج، وكون التربة الفرنسية من الخصوبة بمكان، ما يجعلها الحاضنة الأمينة على البذور عالية الجودة، ثم يأتي العامل الثالث المتمثّل في المناخ المناسب المواتي لاستنبات القمح، إذا غاب أحد تلك العناصر، فقدَ القمح الفرنسي مزيّته وريادته العالمية. فلن يأتي استنبات بذور القمح الفرنسي بالإنتاج المرجو في تربة غير خصبة، أو في مناخٍ غير ملائم، فجودة البذور وخصوبة التربة ومناسبة المناخ هي سر سحر القمح الفرنسي. فإذا ما أردنا أن نزرع قمحًا فعلينا أولًا حُسن اختيار البذور، واستنباتها في تربة خصبة مُعدّة لذلك، وثالثًا مناسبة التوقيت، فعلينا اختيار بداية الشتاء لزرعها وليس بداية الصيف، إذا ما فعلنا ذلك لحصلنا على محصول وافر من القمح الممتاز.
(٢)
يظن البعض أنّ الستار قد أُسدِل على الانتخابات الفرنسية الاستثنائية، فريديّة النوع، انتخابات التمرد واللاتوقع، لكن ذلك القول قد جانبه الصواب، وحاد عن جادّة الحقيقة، ذلك أن التجربة الماكرونية سوف تتطور- إن لم يكن قد حدث ذلك بالفعل - إلى ظاهرة، ستجتاح أوروبا ولربما الولايات المتحدة الأمريكية ولربما العالم بأسره يومًا ما. يوم الأحد المقبل سوف يتسلم الرئيس الشاب، المارد المتمرد مهام منصبه رسميًّا، كأصغر رئيس لفرنسا منذ نابليون بونابارت، بعد أن استقال من رئاسة حركته الوليدة، ذلك أن الدستور الفرنسي يجبر الرئيس على الاستقالة من منصبه الحزبي ليكون رئيسًا لكل الفرنسيين. لكن التساؤل الحالّ والمُلح هو كيف يمكننا تفسير تلك الظاهرة وكيفيّة الاستفادة منها؟
(٣)
ثمّة عوامل ثلاثة مكّنت ماكرون من التربّع على العرش النابليوني، وقطْن قصر الإليزيه، وتغيير قواعد اللعبة، وجبر جميع الساسة بالطواف به، وأن يخطبوا ودّه، يحمل كل عامل من تلك العوامل عناصر نجاح داخلية، أي أن منظومة النجاح هنا مركبة، فهي اختيار من اختيار، منها ما هو منتسب إليه، ومنها ما هو معزو لفرنسا كدولة، ومنها أخيرًا ما هو منتمي للمجتمع المدني الفرنسي. العامل الأولهو الخصائص التي تفردّ بها ماكرون(البذور عالية الجودة)، بينما يتمثّل العامل الثاني في تلك البيئة السياسية والحياة الديمقراطية التي ينْعم بها الشعب الفرنسي، بما تفرضه تلك البيئة من قبول نتائج اللعبة الديمقراطية أيّا ما كانت، بما فيها وصول شاب ذو طموح غير مسقوف إلى قمة السلطة(التربة الخصبة)، بينما يتمثّل العامل الثالث في طبيعة الشعب الفرنسي، من اعتداله ووسطيته، وبغضه للتشدد والتعصب،وهذا الحب منقطع النظير من الفرنسيين لبلدهم، بما فيه حتمية النزول على إرادة الشعب، وحياديّة أجهزة ومؤسسات الدولة، حتى أنك لا تسمع كلمة تزوير، لا من مؤيّد ولا من معارض (المناخ المواتي الملائم).
أيضًا يُعزى تفسير الظاهرة الماكرونية إلى وعي الشباب الفرنسي وحضوره في المشهد السياسي، وصموده أمام صعود اليمين المتطرف وعلو صوته، وأيضًا خشية تكرار ما حدث في إنجلترا، حينما غاب الشباب عن الاستفتاء فخرجت إنجلترا من الاتحاد الأوروبي، أو استنساخ التجربة الأمريكية، حينما تقاعس الشباب عن التصويت، فتقلّد ترامب السلطة في غفوة منهم. فالشباب الفرنسي قد وعوا الدرس جيدًا، وأغلقوا منافذ العبث بمستقبله، وأوصدوا الطريق على من يريد مساسًا بمكتسباتهم، وعبثًا بمقدراتهم، ناهيكم عن انتماء ماكرون لشريحتهم العُمرية.
خصوبة التربة الفرنسية واعتدال مناخها، نحى بالفرنسيين منحى الاعتدال ونبذ التطرّف، أيضًا وكما ذكرنا سابقًا من أنّ الأنانية السياسية هي من قضت على طموحات الحزبين الكبيرين التقليديين في الوصول إلى السلطة.
(٤)
كان لزيارة ماكرون للجزائر في شهر فبراير الماضي، وللخطاب التصالحي المسؤول، جلّ الأثر في حصول مرشحة اليمين المتطرف مارين لوپن على ١١ مليون صوت في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، ذلك أن توقيت الزيارة، ومفردات الخطاب، قد اختيروا بعناية فائقة، ولا يخفى على أحد باعثيتهم، مما أثار حفيظة البعض، وألقى بهم في أحضان التطرف، على الرغم من كل ذلك، فقد تعامل ماكرون كرجل دولة، وأقبر وإلى الأبد تاريخ الاستعمار الفرنسي، بأن اعترف بمسؤولية بلاده عن الحرب وتوابعها، إِلَّا أنه دعا لتخطي تلك المرحلة، وطيّ صفحتها من أجل مصلحة البلدين، سيّما وأن جيله لم يعش آذار تلك الحرب، وتطلع للعمل المشترك سَوِيًّا. كان لتلك الزيارة فضل في حشد الناخب ذو الأصول العربية والأفريقية في صفه، وأيضًا هناك من صوّت له فقط من أجل الحفاظ على مبادئ الجمهورية الفرنسية.
(٥)
استطرادًا لما سلف بيانه، واستكمالًا لدراسة الظاهرة الماكرونية، كيف يتسنّى لنا نحن العرب والمصريين بالأخصّ الاستفادة من تلك الظاهرة؟ إذا ما سلّمنا بأن جمعيّة العوامل الثلاثة هي سر نجاح الظاهرة الماكرونية، فيجب علينا استصلاح الأرض البور، الجافّة سياسيًّا، وإعدادها وتهيئتها لاستنبات المواهب السياسية، واحتضان الكوادر الشبابية، وتلك مسؤولية مجتمعيّة، مسؤولية دولة ومواطن ومجتمع مدني في آنٍ واحد. فهي بداءةً مسؤولية دولة تتطلّع لدور ريادي، تشْخص أبصارها لتسنّم المنطقة، بإيمانها بأن السبيل الوحيد للرفعة والتطور هو الديمقراطية، وإحقاق الحقوق، وفرض العدل والقانون، كما أنها ثانيًا مسؤولية مواطن حر أبيّ، رغم قصر ذات اليد وفقرها، فإنه لا يُساوم على حقوقه، ولا يُفاوض على حريته، ولا يُنازع في مكتسباته.
وبما أنّ المواطن هو العامل المشترك والعنصر الفاعل في تلك الثلاثية فهنا تتعاظم مسؤوليته، وتتضاعف مجهوداته، تجاه نفسه ووطنه.لا نريد لطائر الحرية أن يبقى حبيس قفص الصوالح الشخصية والشللية والحسابات الآثمة، والنظرة الضيقة، والعين التي لا ترى غير أقدام الجسد، نريده طليقًا من كل قيد، مغردًا في كل حدب، محلقًا في كل صوب، لا نريده البتة مهيض الجناح، كليم الفؤاد، نريد تحررًا مسؤولًا نحو بناء دولة مدنية عصرية، يكون فيها المواطن هو السيّد والحاكم هو الخادم.
خصوبة التربة (البيئة السياسية الصحيّة)، والمناخ المناسب (الوعي المجتمعي وحضوره، حياديّة أجهزة الدولة ووطنيتها) والبذور عالية الجودة (العنصر البشري وإعداده)، هذا هو الدرس المستفاد من الظاهرة الماكرونية، لمن يع!
(٦)
تشهد العلاقات الاقتصادية المصرية الفرنسية رواجًا غير مسبوق، خاصة على المستوى العسكري، ومن خلال حضوري المؤتمر الدولي لتنمية العلاقات المصرية الفرنسية في الأول من ديسمبر ٢٠١٥، لمست من ماكرون - وزير الاقتصاد وقتئذ- توجهًا ورغبةً نحو تنمية تلك العلاقات، باعتباره اقتصادي التكوين والتخصص، ليس فحسب على مستوى التعاون العسكري ولكن على كافة المستويات. وشاهدت رجال أعمال مصريين كبار يمْرقون بأعينهم نحو السوق الفرنسي، ولعل أبرزهم سميح ساويرس، ونفس الشئ من الجانب الفرنسي، سيّما شركة توتال. إذن فالفرصة سانحة للاستثمار بين الجانبين، لكن ثمّة نقاط وجب أخذها في الاعتبار، تلك النقاط ستكون موضع مقال قادم...
يُتبع...