رسالة حب مفتوحة تصل وتُسلم ليد إيناس جوهر
الخميس، 11 مايو 2017 05:04 م
مُفتتح
أبدا تحنّ إليكم الأرواحُ ووصالكم ريحانها والراحُ
وقلوبُ أهل ودادكم تشتاقكم وإلى لذيذ لقائكم ترتاحُ
وارحمة للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضّاحُ
(1)
كان شعر السهروردي هو الموجز وإليك الأنباء بالتفصيل..
قبل أربعين عامًا من عامنا هذا، كان بيت أبي بيتًا ريفيًا، كل أهله من الكبار، ثمة فتى- هو أنا- يعيش آخر سنوات طفولته منفردًا بجهاز الراديو، لا يستطيع كبير من الكبار تحويل المؤشر لأي أمر كان.
في ساعة العصر يخلد الكبار لبعض النوم، أبقى متيقظًا تمتلكني بهجة انتظار الحبيبة إيناس جوهر، من الثانية بعد الظهر والمؤشر ثابت على محطة الشروق الأوسط، ستأتي حلقة من حلقات مسلسل "شحات الغرام" عن قصة حياة محمد فوزي، ثم ستقول سيدة ما كلامًا غامضًا للنساء فقط، ثم سيأتي موجز أنباء الرابعة، ثم سيهل صوت الحبيبة صاهلًا برباعية لجاهين: "فتح عينيك وامشي بخفة ودلع/ الدنيا هي الشابة وأنت الجدع/ تشوف رشاقة خطوتك تعبدك/ لكن أنت لو بصيت لرجليك تقع/ عجبي".
ثم يدثرني صوت الحبيبة صائحًا في طفولة: "تسالي"، ثم تلّون صوتها فإذا هي فتاة مشاغبة: "تساااالي"، ثم تعود لتلّونه كأنها امرأة ناضجة خائفة تقول: "تسالي" خاطفة منزعجة، فينزعج قلبي لانزعاجها، أظنها تشعر بانزعاجي فيصفو صوتها ويرق ويتضافر مع صوت زميلها في البرنامج "محيي محمود"، يعزفان معًا موسيقى البهجة، يتدخل مخرج البرنامج "حسني غنيم"، ويسيطر على جموح البهجة بموسيقى ناعمة، كان "غنيم" ينافسهما، إن رأى منهما اندفاعًا هذّبه بنعومة الموسيقى، وإن رأى منهما خفوتًا أيقظهما بموسيقى صاخبة.
مع صوتها كانت تحلو ساعة العصر الصيفية، كم كنت أتمنى لو تواصل بث البرنامج إلى الأبد، ولكنه شأن كل جمال كان يمضي سريعًا.
ما الذي كانت تقوله إيناس في برنامجها؟
لم أعد أتذكر شيئًا غير صوتها.
كيف كان صوتها؟
كان لصبي صعيدي.. منعشًا كماء قُلة تتربع في نافذة بحرية.
كان صفصافة وارفة على شط ترعة.
كان طازجًا كخيرات الحقول ومبهجًا مثلها.
أظنها كانت تعرف بترقبي لصوتها، فكثيرًا ما ظهرت في مسامع لمسلسلات إذاعة، نعم لم تكن البطلة، ولكني كنت انتظرها هي فقط.
(2)
الزمالك مهم جدًا، فهل حبيبتي السرية زملكاوية؟
يبدو صوتها واثقًا كصوت شقيقي الأهلاوي ومناكفًا مثله، ولكنه أحيانًا يحمل طيش الزملكاوية عندما يطربهم أداء المعلمين، معلمو زمن صباي كانوا حسن شحاتة وفاروق جعفر وعلي خليل وطه بصري.
في العام 1978، سيكون الأهلي كعادته قد فاز بالدوري، فمن الضروري أن نفوز نحن الزمالك بالكأس، وقد كان فزنا في مباراة التتويج على المحلة بثلاثة أهداف نظيفة سجلها علي خليل ووحيد كامل وفاروق جعفر.
لم تكن فضائيات ولم تكن ستديوهات تحليل، وتعاملت معنا الصحافة ببرود، فقط حبيبتي السرية، جعلت برنامجها شبيك لبيك يقيم احتفالية بفوزنا.
فبعد موسيقى المقدمة التي لم تكن سوى أغنية عفاف راضي:
شبيك لبيك
شياطين جاهزين حواليك
أمر يا أمير واطلب يا أمير
تلقى المطلوب جايلك بيطير
ويقول شبيك لبيك خاتم سليمان في إيديك.
معي الآن ثلاثة من المبهجين، عفاف راضي ومرسي جميل عزيز ورشاقة منير مراد، ثم يأتي صوت إيناس بطيش الفرح صائحًا: الليلة للزمالك، في مصر والوطن العربي.
سأظل شاكرًا فرحتها بنا وجبرها لخاطرنا.
(3)
خلال سنوات الحب السري، لم أشاهدها قط في إطلالة تلفزيونية، بل لم أشاهد لها صورة في صحيفة أو مجلة، ولكن ما معنى الصورة مع سيطرة الصوت وجبروت الخيال؟
تراجع اهتمامي بالراديو، وقد يكون الراديو ذاته هو الذي تراجع، وابتلعتني داومة القاهرة، ثم جاء العام 1992 وفيه ظهر صوت لطفي بوشناق الذي غنى: لو كان لي قلبان لعشت بواحد/ وأفردت قلبًا في هواك يعذبُ.
ذهبتُ لمحاورة لطفي الذي كان ينزل فندق شبرد، قبل بدء الحوار، عرفت أن الرجل مصري حتى النخاع، يعرف عن مصر كل شيء، وجاء ليحصل على خاتم الانتشار والجودة، كانت أجواء ما قبل بدء التسجيل لطيفة جدًا، فجأة اقتحمتنا سيدة تبدو متسرعة، قام لطفي وانحنى نصف انحناءة وقبّل يدها في رقة قائلة: "مرحبًا يا ست الكل".
أجابته بنصف ابتسامة: "نورت بلدك"
ثم ضغطت على مفتاح التسجيل لكاسيت ضخم جدًا كانت تحمله وهمت ببدء كلامها.
السيدة لا تدري أنها هكذا قد وضعت الملح على جرح الثأر الذي يسكن تحت جلد الشاب الصعيدي.
بهدوء ضغطت على مفتاح التشغيل فأوقفت الكاسيت عن العمل، ونظرت متحديًا للاثنين، لطفي والسيدة المجهولة.
شبح ابتسامة كان يتراقص على شفتي لطفي، السيدة فتحت فمها لتستنشق المزيد من الهواء عله يساعدها على التعامل مع الصدمة.
قلت بهدوء وحسم موجهًا كلامي للسيدة: لقد جئت قبلك، وكنت سأبدأ حواري قبل مجيئك بثانية، ثم حضرتك لم تحصلي على إذني لكي تبدأي حوارك.
صاح لطفي بلهجة مرحة: لا تذهب بعيدًا في العتاب، لأنك متى عرفت الأستاذة ستعتذر لها.
من وجهة نظري كان سقوط السماء على الأرض أهون من أن أعتذر لسيدة مقتحمة.
قالت، ويا مصيبتي عندما جاءني صوتها: أين تعمل؟
قلت: في جريدة صوت العرب.
قالت: أعرفها، هي أسبوعية، يعني أمامك المزيد من الوقت، أنا إيناس جوهر من إذاعة الشرق الأوسط، وأحتاج لبث الحوار بعد ساعة من الآن، فما رأيك؟
عن أي رأي تسأل الحبيبة؟
كيف لم تعرف أنني الآن في حضرة البهجة وظل الصفصافة؟
كيف لم تعرف أن صوتها قد أعادني إلى ما كنت عليه قبل عشرين سنة؟
كيف لا يعرف الذين نحبهم موضعهم في قلوبنا؟
ثم ما هذه البلادة التي حطتْ عليّ، إنني لم أقل سوى: أنا آسف يا أستاذة.
كيف أصبحت الحبيبة أستاذة؟
(4)
الغالية إيناس، في صباح ما ستصلك وردة حمراء، وردة واحدة فقط، سأكون أنا مرسلها.