الدكتور محمود الربيعى نائب رئيس مجمع اللغة العربية لـ «صوت الأمة»: خوف المصريين من إذابة حدودهم جعلهم يسقطون نظام الإخوان.. ومشروع التوريث قضى على حكم مبارك
الأحد، 23 أبريل 2017 12:03 محوار - حمدى عبدالرحيم - تصوير هشام سيد
تركته حيث يقف لأواصل التظاهر، ولكن لم تتوقف أسئلتى عن رجل فى الثمانين، عمل بالجامعة المصرية حتى وصل إلى منصب وكيل كلية دار العلوم، ثم عمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة أستاذًا للأدب العربى، ودرّس فى جامعات شتى، وكتب آلاف الصفحات ما بين دراسات وكتب، وأخرج للناس كتابين فريدين فى فن السيرة الذاتية: «فى الخمسين عرفت طريقى»، و«بعد الخمسين».
ما الذى جاء برجل له مثل هذا التكوين إلى هذه المظاهرة ؟.
مساء السبت الماضى جلست بين يديه فى صحن منزله لأسمع منه الإجابة عن أسئلة شغلتنى مع الشرح والتفسير، فقال: «لم تدهشنى قط سرعة سقوط دولة الإخوان، وذلك لأن الجماعة لم تقرأ المصريين جيدًا، أنا أؤكد لك أن المصريين متدينون، بمعنى أن الدين بمعناه الصحيح هو جزء لا يتجزأ من تكوين المصرى الثقافى والاجتماعى بل والسياسى، هذا المصرى الذى يحترم الدين هو نفسه الذى ينفر بل ويتصدى للدولة الدينية، والكلام عن الدولة الدينية مبحث خطير ومتشعب، ولكنه فى الظرف الإخوانى واضح، فقد تأكد المصريون من أن الجماعة ستذيب حدود دولتهم، هذا ما وصل للمصريين من الحديث عن الدولة الدينية، المصرى لديه مشكلة مع حدوده، إنه يريدها كما ورثها، دون زيادة أو نقصان، وفى سبيل الحفاظ عليها يقاتل لآخر قطرة من دمه».
قلت: «أين إذن عالمية الرسالة وأممية الإسلام؟».
رد الدكتور الربيعى مبتسمًا: «وما علاقة هذه بتلك ؟ إن كنت تتحدث عن دولة الخلافة فقد كانت دولة ككل الدول، سيطرت بقوتها على بقاع من الأرض وقالت: هذه دولتى تُحكم بقانونى، دائمًا كانت هناك دولة محددة الحدود واضحة الهوية، أما الإذابة تحت زعم عالمية الرسالة فلم ولن تحدث، ولن أحدثك عن شروط الدولة المعاصرة وتكوينها، فكل ما لدىّ ينفى معتقد الإذابة التى تتبناه الجماعة تحت شعار إقامة دولة الخلافة».
قلت: «إذا كانت الدولة الدينية هى التى أسقطتْ نظام الجماعة فما الذى أسقط نظام مبارك؟».
لمعت عينا الدكتور الربيعى قبل أن يجيب: «يوم جمعة الشهداء 28 يناير كنت فى الإسكندرية، ومن شرفة المكان الذى كنت فيه، رأيت جماعات من الشباب يتسلقون برشاقة وثقة تلك الأعمدة التى تعلوها صور جمال مبارك، كانوا يمزقون الصور وكأنهم لا يصنعون شيئًا خطيرًا، اللافت أن الصور كان عليها شعار يقول: «خير خلف لخير سلف» إذن قصة التوريث هى التى أسقطت مبارك، لحظتها تأكدت أن الأمر قد انتهى، وما سيحدث هو مجرد تفاصيل لن تقدم ولن تؤخر، المصريون فى عمومهم ارتضوا النظام الجمهورى، ثم صحوا من نومهم على إجراءات توريث، ولم يكلف مسئول نفسه بأن يستمع لرأى الشعب، فكان ما كان».
سألته: «عندما تطل على المشهد من على بعد ست سنوات، هل ترى لنا مكاسب؟».
بحماس رد: «نعم هناك أرباحٌ، هى جد قليلة، ولكن يمكننا البناء عليها، المكسب الذى أسعدنى كان فى سقوط «النفوذ الزائف»، بعد الثورة لاحظت من موقعى الجامعى أن طلابى يناقشوننى بجدية غير مترددين، وغير خائفين، هذا النقاش المهذب الجاد الباحث عن الحقوق والواجبات، إنجاز ثورى هائل، لابد من استثماره، أن تعرف ما عليك وتؤديه وأن تعرف ما لك وتحرص على التمسك به، ومن ثمّ الحصول عليه كاملًا غير منقوص».
قلت: «نحن سيدى الدكتور نؤدى ما علينا وزيادة ثم لا نحصل على شىء».
بنبرة غضب رد الدكتور الربيعى: «هذا ليس صحيحًا، ولكى يصلك المعنى الذى أقصده سأضرب لك مثلًا بسيطًا: هب أنك تدايننى بمئة جنيه، وأنا لا أردها لك، هل ستشكو إلى القاضى أم ستكتِف يدىّ وتخرج حافظتى وتقتنص ما لك؟.
إن شيوع الحصول على الحقوق الآن وبأى طريقة خطير جدًا، إنه أمر يهددنا جميعًا وسنقع أسرى له، الطريق إلى الحق لابد وأن يكون هو أيضًا حقًا، غير ذلك سيؤدى إلى ما لا تحمد عقباه».
قلت: «يعنى هناك أمل فى النهوض؟».
أجاب: «طبعًا ولكن لا أمل هكذا فى المطلق، فلن يجعلنى أحد متفائلًا رغم أنفى، ولكى أكون متفائلًا تحت قصف الأمنيات والأحلام الوردية، هناك منظومة للأمل الذى يؤدى إلى النهضة، تلك المنظومة ليست أكثر من كلمتين هما «التعليم الجاد»، بغير التعليم الجاد لن يكون هناك أمل فى شىء».
سألته: «هل ترى أن تعليمنا ليس جادًا؟».
رد بغضب: «هل تعبث معى الآن؟ عن أى تعليم تتحدث؟ لم يعد لدينا تعليم، أقولها وأنا أتعلم منذ الخامسة من عمرى، ما هو دور وزير التعليم؟
لقد أصبح دوره الوحيد هو حراسة أسئلة الثانوية العامة.
لقد أصبح رجل شرطة وليس وزيرًا للتعليم، ثم فى كل عام يجرى تسريب الأسئلة، أين دور المدرسة غارسة القيم؟.
أين دور المدرس حامى العقل؟.
ما هذه الدروس الخصوصية؟.
ما هذا الكلام عن المجاميع، وعن كليات للقمة وأخرى للقاع؟.
أين هذا من العلم؟ أين هذا من التعليم؟.
يا أخى أنا أنادى بإلغاء الامتحانات التى يذلون بها أعناق الطلاب وأهاليهم، ثم راقبوا أنتم حال التعليم فى السنة التى ستمر دون امتحانات، فإن وجدتم أن حاله قد أصبح أسوأ مما هو عليه، فسوف أكون أنا الذى رسبت فى الامتحان، يا أخى هناك فرق بين «حامل الشهادة» وبين « المتعلم»، ليس أكثر من حاملى الشهادات، ولكن المتعلمون حقًا قلة لا تكفى لإدارة شئون الوطن.
قلت: «إذن غاب دور المدرسة والمدرس، ودور البيت غائب منذ زمن، يبقى دور الإعلام، كيف تراه؟».
أجاب: «هذا جرح جديد، بل جرح مقزز، لقد هُزم الإعلام أمام الإعلان، هل تعرف أن إذاعة البرنامج العام بدأت تنافس الإذاعات التجارية؟.
ما هذا الذى يحدث؟ ولصالح مَنْ ؟.
يقولون: لابد من المال وإلا توقفت الفضائيات والجرائد والإذاعات المسموعة؟.
سأقول إن فلانًا قد عجز عن أن يظل بيته مفتوحًا، هل نقترح عليه أن يؤجر غرفة الاستقبال لتاجر مخدرات يجعلها مخزنًا لبضاعته؟.
هذه كتلك، بل الإعلام أخطر وأهم، إن تأجير الهواء لمن يدفع كارثة، ندفع ثمنها، وسنواصل الدفع ما لم يتوقف هذا المسلك، فتحت زعم نقص الأموال بدأ ترويج فكرة الاستغناء عن الصحافة الورقية، كيف نهدر تجربة صحفية مضى عليها أكثر من مائتى سنة؟ أى عقل يستسيغ هذا الكلام؟.
يقولون: صحف بريطانيا يجرى إغلاقها؟.
مالك أنتَ وبريطانيا؟ لماذا يجرى اقتطاع الأمر من سياقه العام ومن لحظته التاريخية؟.
يتحدثون الآن عن الهيئة الوطنية للإعلام، مِنْ اختار أعضاءها ؟ وما هى معايير اختيار أعضائها ؟ ثم لا جدوى من أى هيئة تتجاهلنى أنا رجل الشارع، أنا المواطن لابد وأن تكون لى كلمة مسموعة، لأنى المستهلك الأول، فيجب وضعى فى الحسابات النهائية لأى هيئة ولأى مشروع».
قلت: «إذا كان لرجل الشارع رأى فأين المجمع اللغوى الذى حضرتك نائب رئيسه من الشارع»؟
رد هادئًا: «ما هذا الخلط ؟ نحن نقوم بعملنا الذى هو الحرص على سلامة اللغة، وتعريب المصطلحات وإخراج المعاجم، والدعوة إلى مؤتمر عام مرة فى السنة، ولا يلبى الدعوة سوى قلة، عملنا فنى فى المقام الأول يقوم به متخصصون، كون الشارع لا يصله ما نقوم به، فهذه ليست مشكلتنا».
كأن الدكتور الربيعى قد رأى فى وجهى علامات الحسرة على دائرة لا تكتمل وعلى لغة تكاد تضيع، فواصل تدفقه، قائلًا: «بخصوص اللغة فهناك أخطاء وقعنا فيها، بعضنا نفض يديه من الأمر كله تحت مظلة قوله تعالى: «إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون».
ذلك البعض الذى أقصده يؤمن بأن الله عز وجل قد تعهد بحفظ العربية، هؤلاء يقعون فى الأوهام، لدينا فى المجمع باحث سعودى اسمه أحمد الضبيب قال: الله تعهد بحفظ الذكر ولم يتعهد بحفظ العربية، إن لم نحافظ على لغتنا فستظل موجودة فى المصاحف وفى بطون كتب العلماء، ستصبح مثل الإغريقية واللاتينية لا يعرفها إلا الموسوعى الحريص على معرفة اللغات النادرة.
الخطأ الثانى: هو تجاهلنا لكون اللغة كائناً حياً، يضعف ويقوى، يتقدم ويتأخر، ويتطور بمضى الزمان، فإن ظننت أنك قادر على المحافظة على لغة امرئ القيس مثلًا فأنت واهم، لأنك تغفل فعل التطور.
الخطأ الثالث: وهو مرتبط بالخطأ الثانى، وأعنى به «حراسة اللغة» يا أخى الأمر أشد تعقيدًا من حراسة القاعدة التى تقول: إن الفاعل مرفوع، اللغة أوسع من هذا، إنها كائن حى يجرى فى نهر لا يحده حد، ثم أى لغة نريد؟ هناك لغة بمعنى القواعد وهناك لغة بمعنى المستويات، هل قرأت كتاب «مستويات العربية المعاصرة فى مصر» للدكتور السعيد محمد بدوى.
لم تقرأ، سأعطيك نسختى وهى أثمن عندى من أى شىء، صورّها ثم أعد لى نسختى، هذا الكتاب يحل ما نظنه معضلات، أنا وأنت نتحدث الآن بأحد مستويات اللغة، ويفهم أحدنا صاحبه، وهناك مستويات أعلى، ومستويات أقل، أنا وأنت لسنا المتنبى، كما أننا لسنا هؤلاء الذين يتعاملون مع الرقم سبعة بوصفه حرف الحاء، عندما نختار المستوى فى ظل الحفاظ على القواعد الرئيسية ستنمو اللغة.
الخطأ الرابع: هو الخوف من انقراض اللغة، هل سينقرض المصريون؟
هل سينقرض العرب؟ نعم هناك غزو من كتابات الفيسبوك، ومن أصحاب التعليم الأجنبى، وكن كم يمثّل هؤلاء من العدد الكلى للمصريين؟».
قلت: «على ذكر الدكتور بدوى، أراك متحمسًا له».
أجاب: «نعم، هناك رجلان قادانى لما أنا عليه الآن، الدكتور بدوى وشقيقى محمد، الدكتور بدوى أزهرى ودرعمى مثلى، لكنه كان دائمًا يسبقنى بخطوات، إنه رجل العمل الجماعى، وأنا رجل العمل الفردى، إنه يسافر كثيرًا ويجتذب إليه الناس أينما حل، يعرف كيف يؤسس لمشروع وكيف يديره، ثم لا تسمع له صوتًا، بعض ما للدكتور بدوى علىّ جعلنى أكتب عنه كتابًا به بعض الذكريات والمختارات من كتاباته».
سألته: «ماذا عن شقيقك محمد؟».
أعترف أنى ضقت بسؤالى وندمت عليه، فقد أختنق صوت الدكتور الربيعى ولمعت عيناه بالدموع، وهو يتحدث عن شقيقه الذى لا يكبره إلا بسنوات قليلة، ومع ذلك يتحدث عنه ويكتب عنه كتابًا بوصفه الأستاذ والمعلم والأب المرشد.
قال الدكتور الربيعى: «أخذنى أخى إلى المدرسة، وأوقفنى فى الصف، وقال لى: أنت تلميذ نظيف مهذب، ستؤدى ما عليك من واجبات، ثم لا تسمح لأحد بأن يجبرك على شىء أو أن يتطاول عليك أدنى تطاول.
وصية أخى تلك حددت لى معالم طريقى، كان شقيقى يربح شهريًا خمسة عشر جنيهًا، يرسل لى ثمانية منها، لكى لا أشعر بعوز أو حرمان، أنظر لأخى بوصفه أحد صناع الحضارة، يرحمه الله أعطى كل شىء ولم يأخذ منها إلا القليل».
غيّرت مجرى الحديث لأهرب من دموع الشيخ الكبير فسألته: «هل حصلت أنت على حقك؟».
أجاب بتلقائية: «نعم وزيادة، أنا الآن فى الخامسة والثمانين، أتمتع بالحياة، الثمانون متعة، لدرجة أننى أفكر فى كتابة كتاب اخترت له عنواناً هو شطر من بيت شعر من تأليفى هو: بعد الثمانين تطيب الحياة أدع ربك أن تبلغها فى صحة، ويوم كتب عنى الشاعر عبدالمنعم رمضان تحت عنوان « بطل فى الظل» قلت له: أنا لست بطلًا، أنا رجل يمضى على منهاجه، ولم أعش فى الظل قط، أنا مشتبك مع تفاصيل الحياة أتعلم وأعلم، وأكتب الكتب وأحضر الندوات مستمعًا أو متحدثًا، أنا أنفر من الضجيج والزحام التافه فقط، لست انعزاليا، أنشد العمل الجاد المتواصل والهدوء».
غادرت الدكتور الربيعى فأنشدت من شعر الفاجومى: «مصر يا أمه يا بهية/ يا أم طرحة وجلابية/ الزمن شاب وإنتى شابة/ هو رايح وأنتى جاية».