التفكير الاستراتيجى الأمريكى.. سمات ومقومات «1 - 2»
الثلاثاء، 18 أبريل 2017 08:47 م
تميزت السياسات الأمريكية نحو العالم الثالث وخصوصاً الشرق الأوسط خلال الخمسين سنة الماضية بسمات عديدة ميزتها عن غيرها من السياسات تاريخاً وواقعاً، ولقد أوصلت هذه السياسات أمريكا إلى قيادة العالم بلا منازع حقيقى، كما مكنتها من التفرد برسم أهم سياساته.
إن أخطر ما فى هذه السياسات هو التفكير الاستراتيجى الذى لا ينضبط بمنظومة القيم الأمريكية ذاتها، ويتمثل هذا التفكير الضخم فى كلمات بسيطة من قبيل:
نحن القادة وعلى الجميع أن يتعاونوا معنا، بمعنى أن يسيروا فى الركاب.
أمريكا هى الأخ الأكبر للبشرية، وسيأتى اليوم الذى سيأخذ فيه هذا الأخ موقع الأب ومكانته.
نحن نؤمن بأمريكا المتحركة التى تحلم وتختار وتفعل وتحكم.
من لم يكن معنا فهو مع الإرهاب
ويرتكز هذا التفكير اليوم على قوة كبيرة كان هو ركيزتها من قبل، لكن الحرية -كما يقول بعض الفلاسفة- تبدأ فى العقل، والسلام أيضاً ينشأ أول ما ينشأ فى العقل، وكلما كانت القيادات والسياسات السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية أو غيرها حكيمة وعاقلة؛ تمتعت البلاد بل العالم بالسلام والأمن الحقيقيين، وإذا كانت تلك القيادات ذات نصيب قليل من الحكمة والمعرفة والاستبصار تعرض السلام محلياً وإقليمياً وعالمياً للخطر الشديد كما هو واقع اليوم.
ويدخل فى سمات التفكير الاستراتيجى الأمريكى ومعالمه أبعاد منها:
الحفاظ على المصالح الأمريكية، ومنها أن تظل أمريكا فى موقع القوة والمقدمة والوفرة، وأن تسيطر على المواقع الاستراتيجية فى العالم، وأن تنظر إلى الثروات العديدة ومنها النفط وبقية المواد الخام اللازمة -فى رأى مفكريها وساستها وفى أى مكان فى العالم - للأمن القومى الأمريكى اليوم أو فى المستقبل، تنظر أمريكا إليها نظرة أصحاب الحق فيها، ويتم الحفاظ على هذه المصالح، وهى كلمة مطاطة وواسعة، من خلال القوة المادية الملموسة، وشبكة العلاقات الممتدة والبدائل والمقترحات الجاهزة للمشكلات المعقدة التى تعجز أمامها كيانات أخرى كبيرة.
الإسراع فى ملء الفراغات
الإسراع فى ملء الفراغات أياً كانت هذه الفراغات، حتى أصبح لأمريكا اليد الطولى فى هذا الأمر، وتحول التفكير الاستراتيجى الأمريكى إلى سلوك ونظريات وثقافة وبرامج يصعب على الآخرين مقاومتها، ما لم تكن هناك أهداف واضحة وبرامج دقيقة وجريئة وعادلة، خذ مثلاً على سبيل المثال الفراغ الإعلامى فى العالم العربى فى حرب الخليج، ذلك الفراغ الذى لم تستطع كل وسائل الإعلام العربى أن تملأه فملأته محطة «سى.إن.إن» الأمريكية الخاصة، أما المثال الحالى (2004) فهو تحول الجماهير العربية والمستمعين العرب إلى محطة «الجزيرة» التى ملأت هذا الفراغ فى حرب أفغانستان الأخيرة، ولم يعتمد العرب -على الأقل- على محطة «سى.إن.إن» ليتابعوا أخبار الدمار فى أفغانستان بالآلة الأمريكية أو معرفة أخبار «طالبان» أو «القاعدة»، بل لقد تخلفت الـ «سى.إن.إن». مراراً وتكراراً فى نقل وعرض تلك الأخبار فى الوقت المناسب.
ولو ملأ العرب أو غيرهم الفراغات القائمة فى جدار السياسات المحلية والإقليمية على الأقل، لما وجدت أمريكا فراغاً وانحسرت سياساتها نحو هذه المناطق، ولو استطاع الأفغان أو استطاع العالم الإسلامى أو أوروبا أو أى كيان، حل المشكلة الأفغانية قبل شهر أكتوبر من سنة 2001 لما وجدت أمريكا سبيلاً إلى تدمير أفغانستان بهذا الشكل غير الحضارى، ولما وقف العالم عاجزاً أمام التجاوزات الأمريكية العديدة بشأن أسرى الحرب فى كوبا على سبيل المثال لا الحصر.
حماية إسرائيل وضمانات توسعتها
تبذل أمريكا فى هذا الأمر جهداً كبيراً رغم انشغالها بقضايا أخرى عديدة ضمن استراتيجيتها الشاملة للحفاظ على الأمن القومى الأمريكى.
أحياناً نشعر بأن الحركة الصهيونية هى التى تحرك أمريكا وترسم سياساتها وبرامجها!! وننسى فى ذات الوقت أن أمريكا دولة ضخمة لها أهدافها وسياساتها، وأن إسرائيل نقطة ارتكاز أمريكى فى الشرق الأوسط للحفاظ أيضاً على المصالح الأمريكية، وهنا قد تكون المصلحة مشتركة.
هذا كله وغيره وارد ومقبول عند الحديث عن السياسات الأمريكية، ولا أقول السياسة الأمريكية فحسب، فالسياسات منظومة فكرية وثقافية واقتصادية وأمنية كاملة ترتكز على أهداف وغايات يتحول بعضها فى التفكير الاستراتيجى إلى وسائل بعد تحققه، وينتقل من دائرة الأهداف إلى دائرة الوسائل.
وقد تختلف السياسة الأمريكية من مكان إلى آخر، ومن منطقة أو مشكلة إلى أخرى، أما السياسات فيصعب أن تختلف لأنها بمثابة السقف الذى يغطى مختلف جوانب السياسة الأمريكية، والسياسات لا تحتاج إلى سياسى فحسب فرداً كان أم حزباً ليقوم برسمها، ولكنها تحتاج إلى مشاركة شاملة فاعلة من كل صاحب قدرة وفكر، وتحتاج من الإدارة القائمة إلى استيعاب كل الطاقات والإمكانات المتاحة، والتى قد تتوفر مستقبلاً لاستخدامها فى بلورة هذه السياسات.
إن السياسات الأمريكية تستوعب فعلاً قدرات شعبها بل والقدرات المتميزة لدى الشعوب الأخرى، وتستثمرها أمريكا لخدمة مصالحها وبرامجها، فتفرز بذلك سياسة استيعاب النابهين وإغرائهم وتوفير سبل الراحة لهم فتستفيد مباشرة من قدراتهم، وتحرم غيرها من الأمم منهم، ومن استعصى على الإغراء قد لا يستعصى على الوسائل الأخرى.
خذ على سبيل المثال برنامج الرئيس الأمريكى روزفلت فى الثلاثينيات الذى أطلق عليه برنامج «السياسة الجديدة» وهو برنامج إخراج الولايات المتحدة من الكساد العظيم الذى ضربها فى شتى جوانب حياتها، وقد عبّر روزفلت فى خطابه الافتتاحى عندما أصبح رئيساً فى مارس 1933 عن ثقته فى أن الشعب الأمريكى يستطيع حل مشاكله وقال «إن الشىء الوحيد الذى يجب أن نخافه هو الخوف نفسه»، يفتح الرئيس الأمريكى بذلك الحديث آفاقاً واسعةً أمام الأمريكان للعمل ورسم برامج عديدة، وهذا من السياسات الحكيمة التى بها تبنى نفسك وبلدك والعالم إن استطعت، لا أن تدمر العالم إن استطعت، لكى تعيش أنت وحدك.
إن العالم يستوعب الجميع، ولكن السياسات الأمريكية نحت فى السنوات الأخيرة منحى آخر، لا لبناء نفسها فحسب، بل لتدمير قدرات الآخرين، والذرائع لذلك كثيرة -مهما كانت مقبولة أم غير مقبولة- ومهما نتج عنها من فتن، بعضها فقهى فى بلاد المسلمين، وللحديث صلة. وبالله التوفيق.
ملحوظة: هذا هو الجزء الأول من مقالى الذى نشرته خارج مصر سنة 2004، وقد تغيرت بعض الأوضاع فى العالم العربى والإسلامى، ولكن الاستراتيجيات الأمريكية، باتت -فى ظنى- أكثر شدةً، بل أصبحت اليوم أقسى مما كانت عليه وفى عهد الرئيس ترامب سنرى العجائب. كان الله تعالى فى العون.
وبالله التوفيق