الترنيمة الأخيرة لـ «بيشوي» أول شهداء أسبوع الآلام
الإثنين، 17 أبريل 2017 05:06 مإسلام ناجي
«أوصنا فاسيلى تو إسرائيل بالين.. فاسيلي تو إسرائيل»، كان لحن إيفلوجيمينوس هو آخر ما نطق به الشماس بيشوى القمص دانيال، وابتسامة والده الهادئة هي آخر ما وقعت عليه عينيه، قبل أن تطال جسده شظايا قنابل الإرهاب ويسقط إلى جانب أصحابه الشمامسة على أرض المذبح، فتمتزج دمائهم معًا، وتخضب جدران كنيسة الشهيد مارجرجس، ولظل حكاياتهم تُقص على أطفال الخدمات حتى قيام الساعة.
«بيشوي» تلميذ نجيب، كان من أوائل مدرسة السلام الخاصة للغات في الثانوية العامة، وحقق حلمه بالالتحاق بكلية الطب جامعة طنطا، أملاً في أن يصبح طبيًا يداوي آلام المرضى، ويعالج الفقراء كوالده القمص «دانيال»، ووالدته الدكتورة «جوزفين»، وشقيقه الدكتور«كيرولس»، ولكن العمر لم يُسعفه لتكليل مجهوداته المضنية طوال خمس سنوات قضاها في الكلية بإتمام دراسته والحصول على لقب طبيب وشهادة تؤهله، لممارسة واجباته كباقي أفراد أسرته.
ارتدى «بيشوي» و«كيرولس»، ملابس الشمامسة، التونية البيضاء والبدرشيل، واصطحبا والدتهما إلى الكنيسة للاحتفال بدخول المسيح أورشاليم، وفور وصولهما، أتجه «بيشوي»، إلى غرفة المعمودية لتقبيل يد والده الذي خرج فى الصباح الباكر قبل استيقاظه، وإلقاء التحية عليه، ليخرجا معًا إلى قاعة الصلاة، ويتخذ كل منهما مكانة، فالقمص «دانيال»، مُكلف بتلاوة القداس، بينما تقتصر مهام الشمامسة على ترتيل الألحان على المذبح.
انضم «بيشوي» و«كيرولس»، إلى خورس الشمامسة، وجلست الأم برفقة صديقاتها فى هيكل السيدات، بدأ الخورس لحن «إيفلوجيمينوس»، وتضرع المصلون إلى ربهم، وفى صدر كل منهم أمنية، يبثها إلى ربه، ويبتهل لتتحقق، وأثناء انشغال «جوزفين» بالتسبيح، تنامى إلى سمعها تأوهات مكتومة، فتفحصت وجوه المصليات بحثًا عن المريضة حتى وجدتها، وطلبت منها مرافقتها إلى غرفة المعمودية للاطمئنان عليها.
في الوقت نفسه كان القمص «دانيال»، يتجه إلى الهيكل ناظرًا إلى ولديه الشماسان، وعندما وجد «بيشوي» يبادله النظر، ابتسم له قبل أن يُكمل طريقه، وما أن اعتلى درجتين من السلم حتى سمع صوت انفجار عظيم، صحبه هزة كبيرة، سقط على إثرها أرضًا، ليصاب بكدمات خفيفة لا تمنعه من الوقوف على قدميه مرة أخرى؛ ليطمئن على فلذات كبده، وخرجت الأم من الهيكل مفزوعة الصوت، ومصدومة مشهد الأشلاء والجثث وبقع الدماء.
بحثت «جوزفين»، عن زوجها الحبيب بقلق، والدموع تنهمر على وجنتيها، تسأل عنه المحيطين بها، تتمنى لو تسمع صوته ليستريح بالها حتى وجدته أمامها يطمئنها على حاله، ويسألها عن أبنائهما، ليطوق الخوف قلب الأم، ويعتصره، فالطبيبة كانت تخال أن ولديها برفقة القمص، يتفقدون المصابين، ويرصدوا الضحايا، لكن نظرة الأب جعلتها مرتعبة، تخشى أن يصيب نجليها مكروه، وتصلى للرب أن يحميهما.
مرت اللحظات ثقيلة، قبل أن يقترب «كيرولس» من والديه، ويضمهما إليه فى قلق وتوتر، فهو حتى هذه الثانية لا يفهم كيف حدث الانفجار وسط وجود المئات من أفراد الشرطة يطوقون الكنيسة من كل اتجاه، فتسربت الطمأنينة إلى فؤاد القمص وزوجته برؤيتهما نجلهما البكرى، وسألاه عن حال شقيقه، فالشماسان كان معًا لحظة الانفجار، لكن «كيرولس»، لم يجد إجابة على تساؤلاهما، فتفرقوا ليبحثوا عنه بين المسعفين والمصابين.
تسمرت «جوزفين»، في مكانها من هول ما رأت، «بيشوي» راقدا على الأرض، وملابسه البيضاء محترقة وملطخة بالدماء، وعلى رأسه لوح خشبي كبير، لاحظ «كيرولس»، نظرات الألم على وجه والدته، فناداها بلا رد، وعندما دنا منها، وقعت عينيه على شقيقه، فأسرع إليه يرفع اللوح، ويتفحص نبضه، لينضم إليه القمص، ويحملاه إلى سيارات الإسعاف التي تراصت خارج أبواب الكنيسة، ويذهبا به إلى المستشفى الجامعي.
لم تنتظر روح «بيشوي»، الوصول إلى المستشفى، وصعدت إلى ربها فى الطريق بعدما توقف قلبه الضعيف عن الخفقان، ومع ذلك أكملت السيارة دربها، حتى وصلت إلى قسم الطوارئ، فأنزلوا جثمان الشهيد، وشرع القمص بأداء واجباته بملابسه المخضبه بدماء نجله، فتجول بين المصابين يطمئن على حالتهم ويصلي لهم، وتفقد أسر الضحايا ليعزيهم، ويذكرهم بمكانة الشهداء، وشفاعتهم لذويهم يوم القيامة.
تحجرت بقع دماء «بيشوي» على تونية القمص البيضاء، ومع ذلك رفض تغيير ملابسه، وكتم مصابه في فؤاده، وأخذ يساعد المصابين، ويحمل الجرحى، ويجمع الأشلاء ويبث رسائل التعزية والطمأنينة على مسامع أهالي الضحايا، ويحضر للجنازة الجماعية، وسط ذهول الجميع من ثباته وتماسكه، حتى أصبح قدوتهم فى الصبر والتضحية.