ما بعد زيارة واشنطن
الإثنين، 10 أبريل 2017 08:04 م
لم تعد أمريكا هى المورد الوحيد ولا الرئيسى لسلاح الجيش المصرى، وأخذت السياسة المصرية بمبدأ «تنويع مصادر السلاح»، ومنح الأولوية لتعظيم قوة الجيش المصرى، وجعله أقوى جيش فى المنطقة، والانفتاح مجددا على التسليح الروسى المتطور، وقطع أشواط ملموسة فى التصنيع الذاتى للسلاح، وإنعاش دور الهيئة العربية للتصنيع ومصانع الإنتاج الحربى، وبما قد يذكر بمغزى تحول سياسات مصر أواسط خمسينيات القرن العشرين.
كان كل شىء تقريبا منقولا على الهواء، وكأننا بصدد احتفال لا قمة سياسية، علامات الفرح والسرور تنطق بها الوجوه، والكلمات الحماسية متبادلة بين الرئيس السيسى والرئيس الأمريكى ترامب، وبدا كل شىء «رائعا» بحسب تعبير ترامب المتكرر فى وصف السيسى، والذى رد التحية بأحسن منها، وخلع على ترامب صفة «الشخصية المتفردة»، ولولا أننا نعرف بحقيقة وجود آلاف الأميال التى تفصلنا جغرافيا عن الولايات المتحدة، لتصورنا أن الرياح تمضى إلى مشروع وحدة اندماجية وشيكة بين مصر وأمريكا (!).
وبعيدا عن المبالغات التى توحى بها إشارات الوجوه، أو التغطيات الصحفية البدائية، بعيدا عن كل هذا الصخب، وزحام الوفود المصرية المصاحبة لزيارة الرئيس السيسى، فلا يصح إنكار أهمية القمة الأخيرة، ولا غمط حق الرئيس السيسى فى نجاح تكتيكى تحققه سياسته الدولية، ليس مع أمريكا وحدها بالطبع، بل مع الأقطاب المتعددة لنظام دولى جديد يتشكل، فلم تعد أمريكا قطب العالم الوحيد، بل انتهت إلى وضع «قوة عظمى» بين متعددين، ولم تعد «القوة العظمى» بألف ولام التعريف، ولا هى كذلك فى تفاعلات وصراعات منطقتنا على خرائط العالم، لكنها تظل رقما مهما بالطبع، ولا تزال فى مرحلة صياغة دور، تجرى غالبا بالتفاوض والتضاغط مع روسيا العائدة إلى دور دولى، ومع الصين التى تتقدم لاكتساب مكانة القمة فى حركة الاقتصاد الدولى.
ومن زاوية سياسية مباشرة، بدت حفاوة الأمريكيين بزيارة السيسى عنوانا لافتا، فهى تعكس تراجع السياسة الأمريكية عن خط الجفاء لنظام السيسى، وهو تراجع لم يبدأ مع إدارة ترامب، بل زادت وتيرته، فقد جربت إدارة أوباما سياسة الاتجاه للعقاب، وقطعت المعونة العسكرية على مدى أربعة عشر شهرا، بدأت بعد عزل الرئيس الإخوانى محمد مرسى، وإلى أن انتهت فى لقاء أوباما مع السيسى على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر 2014، وقد واظب الرئيس السيسى على حضور دوراتها فى عام 2015، ثم فى 2016، حيث التقى هيلارى كلينتون ودونالد ترامب كمرشحين متنافسين وقتها فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وإن بدت التفاعلات النفسية أفضل فى لقاء السيسى مع ترامب، وتطور ارتياح متبادل، وتكونت كيمياء تقارب وتفاهم شخصى، كان له أثره بالطبع، حين صار ترامب سيدا رسميا للبيت الأبيض، وتعددت المكالمات الهاتفية، ورحلات المسئولين المصريين إلى واشنطن، والإعداد للقاء القمة الحماسى الذى جرى أخيرا.
وبالطبع، لا يصح الحديث عن تطابق فى السياسة بين القاهرة وواشنطن الآن، وإن صح الحديث عن تقارب وتفاهم أفضل، وليس العودة إلى سيرة «العلاقة الخاصة» القديمة، التى كانت سياسة تبعية بامتياز، بدأت مع انقلابات السادات عقب حرب أكتوبر 1973، وتوثقت بعد عقد ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وحولت مصر إلى مزرعة خصوصية للأمريكيين، وإلى ما يشبه المستعمرة السياسية، يتحرك فيها السفير الأمريكى كأنه المندوب السامى البريطانى القديم، وكانت تلك أسوأ مراحل الانحطاط فى تاريخ مصر الحديث، فقدت فيها مصر استقلالها ومكانتها وتنميتها الصناعية، وشهدت أعظم عصور النهب فى تاريخها الألفى، وتحولت مصر إلى «اقتصاد تسول» المعونات الأمريكية وغيرها، وتحكمت واشنطن فى أسقف تسليح الجيش المصرى، بحيث تضمن التفوق النوعى الحاسم للجيش الإسرائيلى، وقد صار ذلك كله شيئا من الماضى، فلم تعد أمريكا هى المورد الوحيد ولا الرئيسى لسلاح الجيش المصرى، وأخذت السياسة المصرية بمبدأ «تنويع مصادر السلاح»، ومنح الأولوية لتعظيم قوة الجيش المصرى، وجعله أقوى جيش فى المنطقة، والانفتاح مجددا على التسليح الروسى المتطور، وقطع أشواط ملموسة فى التصنيع الذاتى للسلاح، وإنعاش دور الهيئة العربية للتصنيع ومصانع الإنتاج الحربى، وبما قد يذكر بمغزى تحول سياسات مصر أواسط خمسينيات القرن العشرين، وإن كانت البيئة الوطنية والدولية مختلفة الآن بطبائع المتغيرات الكثيرة، فليس من شقاق أيديولوجى الآن على القمة الدولية، ولا من مد قومى عربى كالذى كان فى الخمسينيات والستينيات، والسياسة المصرية الآن لها طابع براجماتى، وتتحرك عربيا ودوليا على نحو تعددى ومتواز، ولا مانع عندها من إطلاق صفة «الشراكة الاستراتيجية» على علاقات متعددة ومتضاربة أحيانا، فالعلاقة «استراتيجية» مع روسيا بوتين، وكذلك مع الصين، ومع أقطاب فى الخليج، ودون قطع التواصل حتى مع إيران، ومع أمريكا لها وضع معقد، طرفه الثالث دائما هو إسرائيل المندمجة استراتيجيا مع أمريكا، والتى ينتابها القلق من التآكل الذى جرى لنفوذ واشنطن على قرار القاهرة، والأخيرة بدورها تريد أقصى استفادة براجماتية من الوضع المركب، وقد حققت تقدما لا تريد التراجع عنه فى سيناء بالذات، واستفادت من الحرب على جماعات الإرهاب فى تحقيق هدف وطنى، ونجحت بالمناورة الذكية فى إلغاء مناطق نزع السلاح التى كانت مفروضة بموجب الملاحق الأمنية لما يسمى معاهدة السلام، واستعادت حضور الجيش المصرى حتى حافة حدود مصر الشرقية، وهو ما يحدث لأول مرة منذ ما قبل هزيمة 1967، وبما يعنى استعادة مصر لسيناء فعليا لا صوريا، وإن تبقت تفاصيل من نوع تطهير سيناء كليا من جماعات الإرهاب، وهو ما يفسر حرص السياسة المصرية على كسب تأييد واشنطن فى أشياء عملية مباشرة، من نوع دفع إسرائيل للإقرار بالواقع الجديد، والتعديل الرسمى للمعاهدة التى عقدت برعاية واشنطن، والإلغاء الرسمى لمناطق نزع السلاح شرق ووسط سيناء، فلا أحد فى مصر يقبل العودة إلى الوضع القديم، ثم إن السياسة المصرية الحالية تريد استثمارا مختلفا للمعونة العسكرية الأمريكية المتصلة، بالتركيز على كسب التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، والاختيار الأفضل لأنواع السلاح، وبما يلائم سياق أولوية الحرب على جماعات الإرهاب، وهو ما يبدو أن زيارة السيسى الأخيرة لواشنطن حققت فيه تقدما ملحوظا، وعلى نحو أبعد من مجرد كسب حماس الإدارة الأمريكية المتحقق لنظام الرئيس السيسى، أو دفع الإدارة الأمريكية لتصنيف «الإخوان» كجماعة إرهابية، وهو هدف لن يتحقق غالبا، وعلى نحو ما نبهنا إليه قبل شهور، وقبل أن يجرى تنصيب ترامب رسميا، ولأسباب تعود إلى محنة ترامب الداخلية فى أمريكا، وتصاعد الغضب من فظاظته العنصرية المعادية للإسلام والمسلمين، وهو ما يوفر بيئة مواتية لمقاومات تبديها جماعة الإخوان وارتباطاتها فى السياسة و»الميديا» الأمريكية.
وخارج النطاق العسكرى والأمنى والسياسى الثنائى المباشر، لا تبدو الفوائد الاقتصادية المباشرة مؤكدة، فترامب لا يسعى إلى استثمار اقتصادى خارجى، بقدر ما يسعى إلى جلب استثمارات وتمويلات للداخل الأمريكى، وهو ما قد يؤدى إلى تراجع المعنى الاقتصادى فى الانتعاش الجارى لعلاقات القاهرة مع واشنطن، وإن كانت السياسة المصرية تسعى إلى كسب اقتصادى غير مباشر، وعلى نحو ما جرى من دفع ترامب للسعودية إلى تحسين علاقاتها مع مصر، وأوامر أمريكا كما هو معروف لا ترد فى عواصم الخليج، وهو ما قد يوفر سياقا أفضل لدعم الدور المصرى البارز فى أزمة ليبيا، وفى إتاحة المجال لدور مصرى أكبر فى سوريا بالتفاهم مع موسكو وواشنطن معا هذه المرة، خصوصا مع اتجاه واشنطن لعقد صفقة شاملة مع روسيا، والاتجاه للإبقاء على بشار الأسد لوقت قد يطول، وهو ما يروق للسياسة المصرية، التى تعطى الأولوية للحفاظ على ما تبقى من كيان الدولة والجيش فى سوريا، وسحق جماعات الإرهاب على اختلاف مسمياتها، وتقليص دور جماعات الإسلام السياسى فى التسوية السورية المنتظرة، والتطلع لدور مصرى فى سوريا، يوازن ويحد من أدوار تركيا وإيران.
تتبقى نقطة إسرائيل، وما قيل فى قمة السيسى مع ترامب، وما قيل أو يقال قبلها وبعدها فى لقاءات ترامب مع الملك الأردنى عبدالله الثانى والرئيس الفلسطينى محمود عباس، والعبارات الفخمة من نوع «صفقة القرن» بوصف الرئيس السيسى، وعقد تسوية إقليمية نهائية للصراع مع إسرائيل، وترتيبات عقد مؤتمر سلام عربى إسرائيلى، وكل ذلك مجرد كلام علاقات عامة وحرث فى البحر، لن يؤدى أبدا إلى أى تسوية مقبولة فى سنوات ترامب الأربع، ولسبب ظاهر جدا، هو أن ترامب أسير تماما لما تريد إسرائيل، وإسرائيل لا تعرض شيئا، سوى حكم ذاتى محسن للفلسطينيين، ومقابل تطبيع الدول العربية كلها للعلاقات مع إسرائيل، وورقة أمريكا دائما فى جيب إسرائيل، والبيت الأبيض مع ترامب تحول إلى مستوطنة يهودية، يقودها جاريد كوشنر صهر ترامب اليهودى، وهو ما يعنى أن القادم أسوأ، وأن فرص تجدد الحروب أعلى من فرص اقتراب السلام الموهوم، وبما قد يعود بعلاقات القاهرة مع واشنطن إلى الفتور بعد الحماس الموقوت.