جرس المسجد وآذان الكنيسة
الإثنين، 10 أبريل 2017 07:33 م
عزيزي القارئ، نعم لقد قرأت العنوان صحيحًا، وهو مقصود بمفرداته، وأدعوك للتريّث حتى نهاية المقال.
يلْحظ كل مصري وكل مهتم بالشأن المصري، تطورًا نوعيًا مكانيًا للإرهاب الغادر، يتمثلهذا التطور في نقل العمليات الإرهابية من سيناء إلى قلب المدن والمحافظات، فبعد أن كان يستهدف في المقام الأول أفراد الجيش والشرطة سيّما في سيناء، كان ذلك لشهر ديسمبر الماضي فقط، وبعد أن استهدف في ديسمبر الماضي الكنيسة البطرسيّة بالقاهرة، ها هو يُطلّ علينا من جديد بقُبح وجهه، باستهداف كنيستين مصريتين في آنٍ واحد، بل وفي حضور الأنبا تواضروس، ما حدث اليوم، ليس فحسب تطور نوعي مكاني لكن انتقل إلى -وهذا ما نوهنا له وتوقعناه في ديسمبر الماضي، والذي نعيد التذكير والاستئناس به في هذا المقال- ما هو أبعد من ذلك وأخطر، ليضحي تطور نوعي مكاني زمني انتقائي ديني بامتياز، يستهدف في المقام الأول الوحدة الوطنية والنسيج المصري والأمن القومي.
لم يلبث المصريين أن يفيقوا من كارثة الكنيسة البطرسيّة حتى باغتتهم يد الإرهاب الآثمة بتفجير كنسية مارجرجس بطنطا والمرقسية بالإسكندرية اليوم.
تزامنيّة التوقيت لها من الدلالة الكثير والكثير، وهذا هو الأهم، ذلك أن العمل الإجرامي جاء متزامنًا مع شهر رجب، الأمر الذي مؤدّاه، رغبة المدبرين والفاعلين والقائمين عليه ربط الحدثين ببعضهما البعض وهذا في رأيي يفضح المؤامرة، يودون أن يرسلوا رسالة مفادها أنه في الوقت الذي تراق فيه دماء مصرية ذكيّة مؤمنة، يصلّون لخالقهم، هناك فريق آخر مسرور ومُبتهج ويستعد لاستقبال شهر رمضان المبارك، ولكن نسي من يزعمون أنهم مسلمين أن شهر رجب من الأشهر الحُرُم!
على ما يبدو أنهم لم يدرسوا التاريخ المصري جيدًا، ولم يعو طبيعة العلاقة الخاصة بين المصريين على اختلاف دياناتهم وتنوع مذاهبهم.
قد يكون المدبر والمفكر ذا ذكاء في اختراق الحواجز الأمنية والتسلل إلى داخل كنيسة مارجرجس، لكن عليه أن يراجع ذكائه فيما يهدف ويصبو إليه، على مر العصور والأزمنة والمصريين على كلمة رجل واحد، ولم ينل من ترابطهم ووحدتهم أحدا قط.
لا ينبغي أن يُنظر إلى حوادث اليوم بمعزل عن باقي الحوادث الإرهابية التي طالت قواتنا المسلحة وقوات الشرطة، كما يجب ألّا يُنظر إليها على أنها حوادث طائفية تستهدف الفصيل المسيحي من النسيج الوطني، إنها موجهة إلى مصر والمصريين.
وأهم هو من يعتقد ولو للحظة واحدة أن مثل تلك خسة ووضّاعة وحقارة ستنال من لحمة المصريين ومن تكاتفهم ووقوفهم صفًا واحدًا في مواجهة الخطر المحدق بهم جميعا.
يسكن في خاطري، أن مثل تلك العمليات ستعالج بنقيض المقصود منها، ولن يفلح من أراد بمصر سوءا أن يشق صفًا عصيّ على الاختراق، انصهرت مكوناته لتصبح شيئًا واحدًا، لا أحد بمكنته أن يفرق مكون عن الآخر، تلك هي مصر، وهؤلاء هم المصريين، بإرادة صلبة عتيّة، وخيار العيش المشترك الأبدي، على مر العصور.
يحضرني القول المأثور، الوقاية خير من العلاج، ولعلي أتوجه بتلك الكلمات ليس فحسب إلى السلطات المصرية المعنية بالأمر بل إلى جميع المصريين، لا ينبغي أن تكون مثل تلك حوادث مفرخة وتربة خصبة لميلاد إرهابيين جدد، لا ينبغي أن يكون ردّة الفعل هي الحاضنة الرسمية لاستفحال الإرهاب، بمعنى يجب التعامل وبحذر مع الموقف، من يثبت تورطه فلا تأخذنا بهم لا رحمة ولا شفقة، وليكون الجزاء من جنس العمل، أما أن تمتد نظرة الاشتباه إلى غير موضعها وأن تمتد اليد الأمنية الباطشة إلى غير من يستحق تلك ملاحقة، فهذا هو الخطر الأكبر والطامة الكبرى، دعونا لا نصنع إرهابيين جدد ولا نوفر الحاضنة المجانية لهم.
ما أرجوه ألا تطبق قاعدة الخطأ في الاشتباه خير من الخطأ في البراءة، ولكن أن تطبق قاعدة الخطأ في البراءة خير من الخطأ في الاشتباه. ذلك أننا لا نريد صنع إرهابيين جدد، ولا أن نقضي على حلم شباب برئ في غد أفضل، من يثبت تورطه فيتحمل تبعات ما اقترفته يداه، أما أن تقبض قوات الأمن على من لم تحوم حوله الشبهات، أو كيدا في فصيل أو جماعة، فهذا هو الخطأ الأكبر.
تضميد جراح المصريين من المكلومين ومن الذين اصطلوا بنار الإرهاب الأسود لا يكون إلا عن طريق العدالة وبإحقاق الحق، وبالوصول إلى الفاعلين الحقيقيين وتقديمهم إلى المحاكمة العادلة الناجزة.
لا ينبغي أن نعطل الحقوق والحريات على قالة أن مصر تخوض حربًا ضروس ضد الإرهاب، تحضرني مقولة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولندنهاية قبل العام الماضي في تعليقه على دعوات وقف التأشيرات لفرنسا لمواجهة الإرهاب، حينها قال لا ينبغي أن ينتصر الإرهاب على فرنسا ولن تنعزل فرنسا عن العالم بسبب فئة ظلامية.
القول ينطبق على الموقف المصري، فمحاربة الإرهاب ليست فقط باليد الأمنية لكن أيضا بالعدالة وبإحقاق الحق، وبأن يأْمن كل مصري على نفسه وماله وعلى مستقبله.
إزاء تلك تطورات جدّ نوعية، علينا الاصطفاف خلف وحدتنا الوطنية وأمننا القومي، علينا نبذ الفئوية والمذهبية المقيتة، علينا أن نعي حجم المؤامرة، على الجميع أن يضطلع بواجباته، وأن يتحمل مسؤولياته، إنها مسؤولية اجتماعية، مسؤولية أسرة في تربية أطفالها تربية قويمة، على القيم والمثل العليا وصحيح الدين، مسؤولية دولة، مُلزمة بفرض مناهج وسطية، ومراقبة الفكر الشاذ، مسؤولية كلا من الجامع الأزهر والكنيسة، في غرس روح التسامح والوطنية، في اذكاء القيم واعلاء المبادئ السامية، في تجنب الحديث في المُختلف فيه والتركيز على ما هو مُتفق عليه.
إنها أيضا مسؤولية المدرسة والنادي ومراكز الشباب والمقهى، إنها مسؤولية جمعية مجتمعية، فرض عين، لا فرض كفاية، لا تسقط عن شخص إذا ما اضطلع بها آخر.
على الجميع أن يعي ويدرك حجم المؤامرة والمخاطر المحدقة بمصر، فلننحي خلافاتنا جانبا، ولنُعلي المصلحة الوطنية على الصوالح الشخصية، مطلوب الالتفاف حول مصريتنا وحماية مقدساتنا ودور عبادتنا.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن، هل سينحصر الإرهاب بعد حادثة اليوم؟ هل سيرحل عن مصرنا؟ هل كانت حاثة اليوم، الحادثة الأخيرة أي حادثة الوداع؟
لا أعتقد، ولئن كنت أتمنى ذلك، ذلك أن المُلاحَظ من التطور النوعي للإرهاب الغادر، أنه يخطط للتوغل في قلب العاصمة، وكافة المدن والمحافظات، وأغلب الظنّ أن غدره وقبحه سينال المساجد أيضًا، ليست دعوة للتشاؤم، على الإطلاق، لكنها دعوة للاستنفار، واليقظة والحيطة والحذر.
إزاء مثل هذا تطور خطير، وبالبناء على ما سبق، أما وأن طلّ علينا الإرهاب الأسود من جديد، أما وأن استهدف وحدتنا الوطنية، أما وأن هُددّ أمننا القومي، أما وأن ابتغى النيّل من نسيجنا الواحد، وإيمانًا مني بأنّ الجميع وكل في موقعه، هو جندي من جنود مصر، يزود عنها بروحه ودمه، وإيمانًا مني بأنّ الشعب هو مصدر السلطات، وبما أنّ وحدة الشعب المصري مهددة، لذلك أقترح الآتي:
بأمر من الشعب المصري، الواعي الأبيّ، المُتحد والمُتلاحم، تُقْرع الأجراس في جميع مساجد مصر، وأن يُرفع آذان الجمعة المقبلة في جميع الكنائس والأديرة المصرية، ولعلّي لا أكون مُسرفًا إذا ما طلبت بأن تقام الأعياد المسيحية في المساجد، ولإن تعذَّر تنفيذ ذلك وإتمامه على مستوى الجمهورية، فلا أقل من تنفيذه في مسجد وكنيسة عاصمة كل محافظة، إضافة إلى حتمية ذهاب شيخ الأزهر إلى الكاتدرائية المرقسية خطيبًا وواعظًا وليس فحسب مهنئًا بالأعياد، وذهاب الأنبا تواضروس الثاني إلى الأزهر الشريف، خطيبًا وواعظًا، أهلًا ببابا الكنيسة في رحاب الأزهر الشريف، وأهلًا بشيخ الأزهر في الحرم الكنسي المرقسي.
ولما لا؟ وما العجب؟ وقد فعلها أجدادنا العظماء إبان ثورة ١٩١٩، أي ما يقرب من مائة عام، حينما تعرضت الوحدة الوطنية للخطر المُحدق، وحينما تعرض مستقبل البلاد للتهديد الحال، حقّ لنا، بل علينا، أن نقتضي ونتأسى بالآباء والأجداد، فلنا في آبائنا وأجدادنا القدوة والمثل.
لمصرنا الحبيبة ندعوا الله أن يقيها نار الفُرقة وأن يجنّبها التشرذم المذهبي والتفتّت الطائفي وأن يُبقي المصريين في لحمة ورباط إلى يوم الدين.
حفظ الله مصر بمصرييها، حفظ الله مصر بكنيستها ومسجدها، أدام الله جرس كنائسنا إلى جانب آذان مساجدنا، أبقى الله عناق الهلال والصليب، حفظ الله مصر من كل سوء.