على فكرة.. فلسطين وطن وليست قصيدة
الخميس، 30 مارس 2017 11:52 ص
عندما أقرأ لكاتب أعرفه شخصيًا، أقع في مشكلة البحث عن نبرات صوته الخاصة التي أعرفها جيدًا، هذه مشكلة أعترف بها لأنها قد تصرفني عن لب الموضوع وهو هنا الكتاب لا كاتبه .
مع كتاب «بدون تأشيرة 120 ساعة في فلسطين المحتلة» لمحمد هشام عبيه، لم يستغرق بحثي عن صوت الكاتب سوى عدة أسطور، لقد سمعت صوت عبيه، الذي يناديه أولنا: «يا محمد، فلا يرد، فيناديه ثانينا: يا هشام فلا يرد، فيناديه ثالثنا: يا اتش فلا يرد، فيناديه رابعنا يا عبيه: فلا يرد، فيناديه خامسا: أنت يا بني آدم.. فيرد بخشوع مصطنع: خدامك إبراهيم يا ستو هانم».. يقولها فيفجر ضحكاتنا .
هنا صوت عبيه الضاحك الباكي حيث لا تفاخر كاذب ولا تواضع زائف، هنا الحقيقة من وجهة نظر عبيه ووفق ميزانه الخاص، فإن لم يعجبك وزنه فزن لدى البقال المجاور .
الحقيقة تقول إن عبيه ابن ريف الدلتا خرج صباحًا من سكينة داره إلى النار، حيث فلسطين المحتلة، ليشارك في أسبوع للشباب تقيمه السلطة الفلسطينية وقد اختار ضربة بداية جعلته يتقدم على قارئه بهدف نظيف قبل مضى ساعتين من زمن الكتاب الذي سيتمر لمائة وعشرين ساعة، ذهب عبيه إلى مطار القاهرة فقال له الضابط: أين تصريح الخدمة العسكرية؟
رد عبيه: لقد أديت الخدمة منذ زمن بعيد يضمن مرور فترة الاستدعاء .
قال الضابط: اذهب إلى حي الزيتون لتأتي بالتصريح أو لا سفر لك .
ذهب إلى الزيتون فقيل له: اذهب إلى مدينة نصر .
عندما عائد عبيه إلى المطار كانت الطائرة على وشك الإقلاع فتمنى مصيبة سينمائية تلحق براكب تنزله من الطائرة حتى يصعد هو ويحتل مقعده .
في ضربة البداية تلك كان عبيه قد نقل توتره وحسرته على الرحلة الضائعة لي، حتى ظننت أن الرحلة ستنتهي قبل أن تبدأ، هنا يبدو مسموعًا بوضوح صوت عبيه صانع المقالب الذي إن لم يجد ضحية لمقالبه، صنع مقلبًا ضد نفسه ثم راح يطلق ضحكاته المجلجلة .
كأن الأمر.. كان بيد حسن الإمام مخرج المفاجآت المصرية الشهير، لقد هبط خمسة ركاب لا راكب واحد لتبدأ رحلة عبيه إلى الأردن أولًا لأنها المعبر الوحيد الذي يتيح له دخول فلسطين دون تدنيس جواز سفره بختم صهيوني.
تبدو عمان كضاحية قاهرية، حيث يعيش أكثر من ثلاثمائة ألف مصري يأكلون الفول والطعمية ويدخنون الشيشة ويطلقون النكات ويغنون لثومة ويتشاجرون مع ذباب وجوههم .
من عمان إلى فلسطين، هنا يرتجف قلب عبيه، سيرى فلسطين الأول مرة خارج الكتب والأفلام والقصائد والقصص والجرائد والمواقع الالكترونية، و الإذاعات والفضائيات .
كل ما نسمع عنه سيراه عبيه ويقبض عليه بيديه الاثنتين، مخيم بلاطة، بيت جالا، بيت لحم، رام الله، سيرى الزيتون والبرتقال والرجال والنساء، سيرى التمسك بالهوية ولو عبر تزوير الكتب المصرية، سيرى تلاميذ الثانوي وهو يقاومون الاحتلال بالرسم أسمنت وحديد حائط الفصل العنصري .
سيرى شابًا فتحاويًا متحمسًا ، خرج في مظاهرة تستنكر اغتيال مؤسس حماس الشهيد أحمد ياسين ، سيصاب الشاب بطلقة تخترق عموده الفقري فتتركه مشلولًا، يعيش على مقعد متحرك كأنه الشيخ ياسين، سيتزوج الشاب من «ناعسة» الفلسطينية التي تصبر على البلاء ولا تحبل سوى بمقاومين ولا تلد سوى شهداء .
المقاوم الفتحاوي الذي دفع شبابه فداءً لمؤسس حماس، سيقيم ورشة للمشغولات الخشبية تخلب اللب من سحرها وفتنة فنها، ثم سيرحل وهو دون الثلاثين من عمره المقاوم .
فلسطين في كتاب عبيه، وطن وليست قصيدة، وطن محتل يقاوم ويؤمن أن ساعة الخلاص قد تتأخر ألف سنة ولكنها قادمة لا محالة، الجميع يجهزون أنفسهم ليوم قادم تسترد فيه فلسطين كامل فلسطينيتها .
أمضى عبيه خمسة أيام داخل البلد الذي هو الجرح الذي لن يندمل سوى بالحرية، ولن تنجح مئات الاتفاقيات في أن تصبح الضمادة الواقية .
المائة وعشرون ساعة كافية جدًا لكي ترسم الخطوط وتوضح الملامح، فليس ثمة أكاذيب، هنا تأمل مصفى لحالة إنسانية نادرة، لقوم يقاتلون بكافة الأسلحة بحثًا عن حرية يقف العالم ضدها، لا وقوف العالم ضدهم يجعلهم يتراجعون ولا طول السنين يجعل الشعلة تنطفئ .
سيرى عبيه تقلبات السياسة والمصالح التي ستجعل من جبريل الرجوب رجل الأمن القوي رئيسًا لاتحاد كرة القدم .
سيشارك عبيه في احتفالات الفلسطينيين بذكرى إعلان دولتهم سيقف مع الشباب في وجه سيارات الغزاة لا لشيء سوى لتعكير صباحهم وتذكيرهم بأن لفلسطين أهلها ، فجأة سيظهر فتى من اللامكان ويمطر الغزاة بوابل من الحجارة، ستطارده فرقة كاملة مسلحة حتى أنفها من جنود العدو، ولكن الفرقة ستعود صفر اليدين فقد عاد الفتى سالمًا إلى اللامكان الذي جاء منه .
شكرًا يا عبيه يا بني آدم فقد أكدت لي مجددًا أن فلسطين وطن وليست قصيدة .