عودة إلى مبارك ولصوصه
الأحد، 26 مارس 2017 01:17 م
نعم، نحن لا نخوض معركة فى الماضى، ولا نحارب طواحين الهواء فى الربع الخالى، ولا رجلا استبدت به أمراض الشيخوخة، حتى لو انتقل من مصير الدفن فى سرير بمستشفى المعادى، والذى ظل فيه لسنوات، يعالج على نفقة الشعب، وينقلونه الآن إلى «فيللا» منيفة، اشترتها عائلته بمال الشعب المسروق، وقد كان يمكن أن نتغاضى عن هذا كله، أو أن نعتبره من سخريات الزمان ومفارقاته، لولا أن ما جرى، ولا يزال يجرى إلى الآن، لم تطو صفحة الكوارث والصدمات فيه، فقد قامت فى مصر ثورة شعبية عظمى، بلا نظير فى التاريخ، وقررت خلع مبارك ونظامه، ثم كان أن ذهب الرجل مرغما إلى مصير الخلع، لكن نظامه لم يذهب بعد، لا باختياراته التى انتهت بمصر إلى موارد التهلكة، ولا حتى بشخوصه، الذين توارى منهم من كانوا فى الصفوف الأولى، لكن صفوف «الفرز العاشر» لا تزال تواصل التحكم فى مصائر مصر والمصريين، وتسيطر فى السلطة والاقتصاد والإعلام، وتواصل عمليات «الشفط» والنهب، وتريد أن تجعل حاضرنا كماضينا القريب الأسود، فالثورات لا تقوم لمجرد استبدال أشخاص، ولا تنهض بغير قطيعة ثقافية وسياسية واقتصادية مع ما كان قبل الثورة، وهو ما كان يفترض أن يحدث مع محاكمات ثورية عادلة، جرى استبدالها بمحاكمات عادية جدا، وبذات القوانين التى أصدرها حكم المخلوع، وهو ما كان سببا فى نهايات «التبرئة بالجملة» للفاسدين والظالمين، وفى قضايا بالغة الأهمية كقتل المتظاهرين، وكأن الثوار هم الذين قتلوا أنفسهم، أو كأن طائفا من مس شياطين الجن قد ذهب بهم إلى العالم الآخر، بينما تفرغ شياطين الإنس للسخرية من الثورة وأهلها، والادعاء ببراءة مبارك، ورد اعتباره القانونى، وإلى حد زعم محامى المخلوع أن موكله لا يملك مليما، وكأن محامى الشيطان لم يتلق أتعابه بعشرات الملايين من الجنيهات، أو كأنه كان فى عمل خيرى، يشبه بالضبط دوره فى الدفاع كمحام عن الجاسوس الإسرائيلى عزام عزام، فالطيور على أشكالها تقع، ومبارك المخلوع كان جاسوسا لإسرائيل بدرجة رئيس، وانقلب على ماضيه البعيد كقائد عسكرى فى حرب أكتوبر 1973، وعلى دوره فى الضربة الجوية لإسرائيل، ووجه لمصر والمصريين «ضربة نووية» بالمعنى الوجودى حين صار رئيسا، وجرد مصر من كل قوة وقدرة، وهو ما كان موضع امتنان عظيم من قادة كيان الاغتصاب الإسرائيلى، وعلى طريقة وصف الجنرال بنيامين بن أليعازر لصديقه مبارك بأنه كان «أعظم كنز استراتيجى لإسرائيل»، ووصف شيمون بيريز للمخلوع بأنه «المؤسس الثانى لدولة إسرائيل بعد المؤسس الأول بن جوريون».
وقد نكون فى حاجة إلى إعادة التذكير بأصول ما جرى، وحتى لا يتصور النصابون المتهافتون، أن كل شىء ينسى بعد حين، وأن ذاكرة الشعوب قصيرة كذواكر الأسماك، فاللاعبون بالثلاث ورقات، وجماعات المصالح المليارية والتريليونية، يجهدون لإثبات مزاعم براءة مبارك، وادعاء أنه ترك الحكم بسلام وسلاسة، وكأنه كان لديه خيار آخر، بعد أن وقف الجيش مع ثورة الشعب، وهو ما أفضى إلى خلع مبارك تلقائيا، وحال فى الوقت نفسه، دون أن تصل الثورة إلى السلطة، لا بالبرنامج ولا بالشخوص، فالجيش هيئة نظامية لا ثورية، وحتى القوى التى تقافزت إلى السطح بعدها، ومن نوع جماعة الإخوان وأخواتها، كانت رجعية بطبيعة تكوينها، ولم تدع إلى الثورة على مبارك ونظامه فى أى وقت، وهو ما سرى بأشكال متزايدة من التباطؤ والتواطؤ فى سيرة محاكمة مبارك، وحتى بعد أن اضطروا إلى اعتقال مبارك ورجاله، وسوقهم إلى محاكمات تحت ضغط مليونيات ميدان التحرير، وبعد أن ظل المخلوع وعائلته فى حرية تامة لستين يوما بعد الخلع، كانت أكثر من كافية للف «الفيل فى منديل»، ولتهريب مئات المليارات، ولإخفاء أى دليل يثبت التهم قضائيا، وهو ما يفسر السيرة المراوغة لقصة استعادة الأموال المنهوبة إلى الخارج، والتى جدد «الاتحاد الأوروبى» أخيرا التحفظ على بعض فتاتها، وأعدت حولها عشرات التقارير عبر جهاز الكسب غير المشروع وغيره، وتكلفت اجتماعات وحوافز وسفريات لجان الفحص والمتابعة عشرات الملايين من الجنيهات، ودون أن يجرى تحريك التقارير من الأدراج، أو أن تنتهى التحقيقات إلى قرارات باتهامات، لا فى أصول سرقات ولصوصية مبارك وعائلته بالداخل المصرى، ولا فى عشرات المليارات التى اختفت فى سراديب مناطق «الأوف شورز» حول العالم، أو فى صورة أمانات وودائع محفوظة لدى حكام خليجيين من أصدقاء المخلوع، والمحصلة أنه لم يعد لمصر مليم مما نهب، ولم يحاكم مبارك سوى فى قضية سرقة واحدة، هى المعروفة باسم أموال القصور الرئاسية، والتى صدر فيها حكم نهائى بات عن محكمة النقض، أدان مبارك ونجليه فى قضية سرقات أميرية، وحكم على كل منهم بالسجن لثلاث سنوات، وقضى بتغريم ثلاثتهم مبلغ 147 مليون جنيه، وهو الحكم الذى أسقط كل اعتبار قانونى لمبارك ونجليه، وصار بعده المخلوع فى وضع «الحرامى بختم النسر»، وفى محاكمة عادية جدا، كل الفرق بينها وبين قضية قتل المتظاهرين، أن قرار الاتهام فيها كان محكما، بينما قرار الاتهام فى قضية قتل المتظاهرين كان مثقوبا، وبتعمد بدا مدبرا، وهو ما كشفه قاضى التبرئة المستشار حسن الرشيدى، الذى استند فى حيثياته إلى خطأ قانونى شاب قرار الاتهام، أدرج اتهام مبارك فى تاريخ لاحق لاتهام الآخرين، وهو ما أدى فى النهاية إلى عدم قبول الدعوى، وكأننا بصدد «تاجر مخدرات»، كسب حكم البراءة لخطأ فى إجراءات الضبط، وإن كان القاضى الرشيدى أراد أن يخلص ضميره، وأن يورد إلى جوار حكم التبرئة، اتهامات أغلظ لحكم مبارك وعائلته، وأعلن فى جلسة النطق بالحكم المذاعة على الهواء عن الحقيقة المحجوبة، وقال إنه لم يجد قانونا يحاكم به خطايا وآثام الثلاثين سنة، ولا وجد سبيلا للاقتصاص من جرائم الشفط والنهب والانحطاط والتوريث والتدهور والاستبداد والتخلف، أى أن قاضى التبرئة أدان مبارك فى اللحظة نفسها، ودون أن يدافع المخلوع عن نفسه بحرف، وبدا الرجل الممدد على سريره فى القفص الزجاجى، كأنه ابتلع حذاء، فهو يعرف الحقيقة التى يعرفها عموم الناس، وهى أن مصر لم تشهد لصوصية ونهبا كما شهدته فى عصر المخلوع، وأن المحصلة حتى فى المحاكمات العادية الهينة اللينة التى جرت إلى الآن، هى الإدانة القطعية النهائية الباتة لمبارك، لكن غياب المحاكمات الثورية، أى المحاكمات بقضاة طبيعيين، وبقانون خاص شامل افتقده قاضى التبرئة فى قضية قتل المتظاهرين، غياب هذه المحاكمة الواجبة، أعفى مبارك من العقاب المستحق، فقد كان يستحق الإعدام لألف مرة على الأقل، وكان صدور الحكم الواجب بإعدامه، حتى ولو لم ينفذ، كان كفيلا بترجمة معنى القطيعة مع ما كان، وليس الاكتفاء بمنعه من السفر وحرمانه من التصرف فى الأموال، أو تهدئة غضب الرأى العام بوعود عن محاكمات تالية، فكل ذلك لا يجدى، ولا يخفى الأثر السياسى الفادح لما جرى، فقد أحست عصابة مبارك باطمئنان مضاف، ورأت أن بوسعها مواصلة عمليات الشفط والنهب والتجريف، ودون خوف من عقاب لم يلحق بكبيرهم الذى علمهم السرقة، وهم يرون فى ترويج دعوى براءة مبارك على خلاف الحقيقة وأحكام القضاء، يرون فيها خشبة إنقاذ، وفرصة لغسل سمعة الأموال المنهوبة، خصوصا بعد التلاعب المضاف فى قانون الكسب غير المشروع، وإقرار مبدأ المصالحة مع الفاسدين، والحصول على البراءة التلقائية بعد دفع مبالغ تافهة، والعودة إلى اللصوصية ذاتها، وكأن شيئا لم يكن، وكأن ثورة لم تقم من أصله، وكأن الفساد لا يزال يحكم ويعظ، برغم غارات الرقابة الإدارية على أوكار المرتشين الصغار والمتوسطين، لكن اللصوص الكبار يظلون فى حمى ما سرقوا بالخصخصة و«المصمصة» والقوانين الملوثة، وفى ظل السياسات نفسها، التى تعطى «المستحمرين» صفة «المستثمرين».
وقد لا تكون القصة فى محاكمات ولا فى مساومات، فالقصة الأصلية فى مصير الثورة اليتيمة المغدورة، والتى ينشغل أهلها بأى شىء إلا واجب الوقت، وهو بناء حزب سياسى ثورى قادر على الوصول للسلطة، يتركنا غيابه ندور فى حلقة مفرغة، تخون فيها السياسة دائما فكرة الثورة، وتجعل حكم الثورة المضادة كأنه القدر المحتوم، فقد انتحلت جماعة الإخوان صفة ثورة 25 يناير، وتنتحل جماعة مبارك صفة الموجة الثورية الثانية فى 30 يونيو 2013، وتصورها كانقلاب على الثورة الأصلية، تماما كما يقول الإخوان، وتسعى كما يسعى الإخوان إلى الاستيلاء على الوضع كله، ومع فارق ملموس، هو وجود جماعة مبارك فى مفاصل السلطة السياسية والأمنية، وقيادتها لتحالف مماليك البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات المال الحرام، وهو خطر لو تعلمون عظيم، قد ينتهى بمصر إلى انفجار جديد.