عملية السودان أم الدنيا

الجمعة، 24 مارس 2017 11:38 ص
عملية السودان أم الدنيا
إيهاب عمر يكتب

ذات مرة كنت اتحدث مع صديق من السودان، وكان يعرف نفسه باعتباره نوبي، وتطرق الحديث الى التاريخ، ففوجئت به يطلق وصلة شيفونية كاذبة ان النوبة هي اصل الحضارة المصرية القديمة واصل الانسان و الكتابة، ولما سألته عن مصدر هذه المعلومات أشار الى صفحة على موقع فيس بوك تشير الى دراسات اثرية اجنبية تتحدث عن هذا الامر.
 
وحينما بدأت في متابعة الصفحة النوبية، تطور الامر الى متابعة عدداً من الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، كلها تغذى روح كراهية مصر، رغم ان ثلثي النوبة على سبيل المثال تقع في السودان دون تنمية حكومية تذكر، وفي إحدى ليالي خريف 2016 قام إحدى منسقي  admin الصفحة النوبية بكتابة منشور دون ان يحذف المكان الذي يكتب منه، فاذا بالمنشور يشير الى ان الصحفة تبث من قطر.
 
تكرر الامر في سنوات سبقت، ان تحدثت مع صديق آخر من السودان، وقال ان بلاده هي أصل الحضارات والمعرفة والتكنولوجيا، وان الأفلام الوثائقية التي يراها على قناة الجزيرة الوثائقية تتحدث عن هذا الامر.
 
ثم أتت زيارة الشيخة القطرية موزا بنت ناصر وتبني قطر لعملية إعادة تأهيل قطاع الآثار بالكامل في السودان خاصة منطقة الاهرامات، حتى نفهم دون مواربة ان هنالك عملية قطرية تجرى على قدم وساق منذ سنوات لتدشين "السودان أم الدنيا" بديلاً عن الحضارة المصرية القديمة.
 
مكاسب هذه اللعبة لا حصر لها، بداية من سحب الثقل التاريخي لمصر، حيث ان مصر تعرف أولا ً بحضارتها القديمة، بالإضافة الى سحب السياحة والبعثات العلمية بل والاستثمار الأجنبي الى المناطق الاثرية السودانية بدلاً من المصرية، ما يعني إطلاق رصاصة الرحمة على قطاع الآثار والسياحة في مصر.
 
كما ان اثارة النعرة القومية في السودان وتوجيه نيرانها في وجه مصر لا يعني الا التمهيد لتفخيخ العلاقات المصرية السودانية خاصة فيما يتعلق بملف المياه، لتنضم الى أصوات سودانية ترى ان الخرطوم تهدر سنوياً اكثر من 6 مليار متر مكعب من المياه من نصيب السودان يذهب لمصر سنوياً دون أي مقابل بحسب مقالاتهم التي تملأ الفضاء الرقمي، ويطالب المتخصصين بأن يتم بناء سد على ضفاف النيل الأبيض لسد حاجة الغرب السوداني من المياه عبر بحيرة مثل بحيرة ناصر، وسد وبحيرة ثانية على ضفاف النيل الأزرق من اجل مد الشرق السوداني بالمياه.
 
كما ان الجهود القطرية تصب في تأجيج المطالب النوبية الأبدية حيال الحكومة المصرية وتشجيع كل مصري يرى في نفسه امتداد للنوبة ان يعلن الانشقاق عن الدولة المصرية في مسعي لبث روح انفصالية في صعيد مصر.
 
ويلاحظ ان هذه الجهود ليست سياسية فحسب، بل هي ثقافية وأثرية عبر نشر مئات الكتب والأوراق البحثية والدوريات ودفع بدل تفرغ للباحثين والصحفيين العرب والأجانب بما يكفل لهم انتاج علمي يليق بالهدف المطلوب، بالإضافة الى أفلام وثائقية وصفحات تواصل اجتماعي على مدار الساعة، بينما نحن في مصر عقب أربع سنوات من ثورة 30 يونيو 2013 لا تجد أي مجهود حقيقي من الدولة لصياغة الرواية التاريخية التي تنصرها امام الروايات الاخوانية والثورية الكاذبة.
 
وبالتالي ما هي الا بضعة سنوات وسوف تجد الأفلام الوثائقية والكتب عن محرقة رابعة وانقلاب العسكر والشعب المركوب والراقصات امام اللجان الانتخابية هي الروايات الوحيدة المتاحة امام الأجيال الجديدة، بينما الحكومة تعتمد على هواة او حفريات بيروقراطية في القطاع الثقافي والتاريخي، اما في القطاع الإعلامي والصحفي فأن تجربة انشاء كيانات بديلة اثبتت فشلها ولا بديل عن اصلاح وتأهيل الصحف الحكومية وقنوات ماسبيرو.
 
المبهر ان قطر ترعي حملة لنشر كتب وأوراق بحثية ومراجع يكتبها ترسانة من الصحفيين والباحثين والمؤرخين عن تاريخها وعن تاريخ مصر وسوريا وتدشن سلسلة من دور النشر حول العالم العربي بينما بعض اشباه المثقفين في مصر مع جحافل المطبلاتية يطالبون الدولة بالانسحاب من قطاع الثقافة والنشر بشكل نهائي!
 
وفى رأيي ان هذه الدعوات ليست بريئة وان من يتحدث اليوم عن بيع الصحف الحكومية وماسبيرو والغاء وزارتي الثقافة والاثار وتجفيف الدعم للقطاعات الثقافية هم مأجورين يريدون تقليم الدولة من جناحها الصحفي والإعلامي والعلمي والثقافي حتى تخلو الساحة لغلمان قطر، فلا يمكن ان تكون بعض الدول تحاربك بسلاح معين وانت بدلا ً من تأهيل نفس السلاح لديك تقوم ببيعه، هذه خيانة وتجريد مصر من سلاحها تحت مسميات نيوليبرالية ليست موجودة أصلا في اعتي الدول الرأسمالية فأمريكا ذاتها تقدم دعماً للبحث العلمي وقطاع الثقافة عبر وكالة المساعدات (الدعم) الفيدرالية.
 
قطر فهمت انه طالما الدولة عاجزة عن صناعة صحافة او اعلام قادرين على نقل الواقع الى الأجيال الجديدة فلا مشكلة ان نقدم تاريخ بديل يقدم للأجيال الحالية والجديدة تاريخ مزيف لما جرى بالأمس، ومع الابهار الإعلامي وشلالات الأموال المتدفقة سوف يتم تغيير التاريخ، ولا عجب في ذلك فقد استطاعت الحركة الصهيونية ان تقوم بجهد مماثل حيال فلسطين ونرى نسبة لا بأس بها اليوم من الشباب العربي مقنع بأن لليهود حق تاريخي او انساني في فلسطين!
 
اما عن تاريخ السودان فأن كتب التاريخ التي نحمد الله ان بعضاً منها لم يلوث بالتاريخ البديل سواء الصهيوني الإسرائيلي او الصهيوني القطري تنقل لنا ما يلي، في بادئ الامر أطلق القدماء المصريين اسم تانحسوأي بلاد السود على هذه المنطقة، وكان النفوذ المصري في هذه البلاد هو تعيين حكام محليين من أبنائها فحسب، ما يعني ان السودان طيلة الحضارة المصرية القديمة كان مصرياً ولكن يحظى بالحكم الذاتي.
 
وكان الغرض المصري الوحيد من هذا الامر هو ضمان تدفق مياه النيل، فيما عدا ذلك لم يكن هنالك تأثير لهم يذكر في الحضارة المصرية القديمة، خاصة أنك لا تجد اثار مدنية او تحضر في عموم تانحسو تواكب عصور الدولة القديمة او الوسطي او عصر ما قبل الاسرات.
 
تعامل المصريين مع السودان تماما كما تعاملت أوروبا لاحقاً باعتباره "مجاهل افريقيا"، وبالكاد نعرف ان الملك احمس ثم الملك تحتمس الثالث وكلاهما من الدولة الحديثة قرروا التوجه بالجيش الى تلك المجاهل الافريقية لترتيب الحكم.
 
مع بدء اضمحلال الدولة المصرية الحديثة بدأ الحكام المحليين في تانحسويأسسون ممالك مستقلة مثل مملكة كوش التي أسست الاسرة المصرية الخامسة والعشرين وحكمت مصر قبل ان يأتي الغزو الآشوري ويتقاسم مصر مع الكوشيين، ثم يخرج الملك بسماتيك الأول ليطرد كلاهما مؤسساً الاسرة السادسة والعشرين.
 
ثم ظهرت مملكة مروي ثم مملكة كرمة ثم مملكة نبتة، وكانت في اغلبها تدور في فلك التأثير الثقافي المصري ثم الآشوري العراقي او اليوناني الاغريقي، مثل اللغة المشتقة عن اللغة المصرية القديمة، او محاولة بناء الاهرام تقليداً لحكام الشمال دون ان يكون هنالك فلسفة لاهوتية او ثقافية او حتى فكرة اقتصادية حقيقية وراء بناء الاهرام.
 
ولم ينظر المؤرخين الى حضارات السودان او النوبة تحديداً باعتبارها حضارات منفصلة عن مصر، او ان مد سيطرة حضارات النوبة لمصر في زمن الاسرة الخامسة والعشرين يعتبر غزواً، فلا يعقل على سبيل المثال ان تنشأ مملكة صغيرة في محافظة الشرقية في وقت تعرض مصر للغزوات ثم تقوم هذه المملكة بالسيطرة على القاهرة فيتم اعتبار هذا التحرك غزواً، فالنوبة وعموم السودان وقتذاك كانوا ثقافة وامتداد مصري.
 
وفى كتب القدماء اليونانيين (الاغريق) نراهم يطلقون اسم اثيوبيا على هذه المنطقة، بمعني الوجوه المحروقة، ثم ترجم القدماء العرب كلمة اثيوبيا الاغريقية الى مصطلح بلاد السودان، ويلاحظ ان المسمى هو بلاد وليس بلد، باعتبارها أكثر من دويلة، وكان قصد العرب بمسمي السودان وقتذاك هو ما يعرف اليوم بــ إرتيريا، السودان، تشاد، النيجر، مالي، موريتانيا، ما يمكن ان نسميه دول شمال افريقيا الوسطي.
 
وبالفعل لم يكن هنالك دولة واحدة تحكم ما يعرف اليوم بالسودان او حملت اسم السودان، بل كانت ممالك متفرقة، افريقية الطابع دون ان نجد ما يميزها عن باقي الممالك الافريقية حتى نتحدث عن خصوصية سودانية في هذا الصدد، فلم يطلق على تلك المنطقة اسم السودان او تطلق أيا من ممالكها اسم السودان قط، وحتى مصطلح ممالك كان كبيراً على تلك الامارات الافريقية المتناثرة في الصحراء القاحلة.
 
ومن اجل ان يميز العرب ما يعرف اليوم بجمهورية السودان عن باقي المجاهل الافريقية، أطلقواعلى هذه المجاهل"سودان مصر"، أي ان مصرية السودان كان الميزة الرئيسية لهذا البلد عن باقي المجاهل الافريقية.
 
بل ويعتبر اهم مرجع في علم الاثار عما شهدته السودان هو كتاب "السودان المصري: التاريخ والاثار" The Egyptian Sudan, its history and monumentsللأثري البريطاني الجليل آرنست الفريد ويلس بدجErnest Alfred Wallis Budge الصادر عام 1907 في لندن، حتى علم الاثار لا يتحدث عن هذه المنطقة الا باعتبارها منطقة مصرية.
 
وحينما بعث الرسول محمد عليه الصلاةوالسلام برسالة الإسلام، وراسل حكام المنطقة يلاحظ ان الرسائل وجهت الى حكام مصر والحبشة دون أيا من ممالك ما يعرف اليوم بالسودان، فلم يكن لهم وزن إقليمي او استراتيجي، وحتى حينما استعصى على العرب غزو تلك المنطقة عقب غزو مصر، ابرموا اتفاقيات تبادل تجاري معهم وانصرفوا لغزو المغرب الغربي ثم شبه الجزيرة الايبرية، فلم يكن لهم أي ثقل استراتيجي او سياسي يذكر.
 
فقد نظر العرب كما نظر المصريين ثم الأوروبيين للمنطقة باعتبارها ليست ذي جدوى حتى يتقاتلوا لفرض النفوذ السياسي.
 
وقال المؤرخ والعالم التونسي ابن خلدون في كتابه مقدمة ابن خلدون ان السودان كانت مرادف لكلمة الزنوج لدي المترجمين العرب يوم ترجموا الكلمة من مصطلح اثيوبيا عن الاغريق.
 
لم يتم توحيد السودان او إطلاق مصطلح السودان عليه بشكل رسمي الا على يد محمد على حاكم مصر يوم غزا السودان عام 1821 ليسقط الباقة المتبقية من ممالك تلك المنطقة، وقد ظلت أقاليم اخري في افريقيا يطلق عليها السودان مثل جمهورية السودان الفرنسي ما بين عامي 1890 و1959 وهي منطقة فرنسية أقيمت على أجزاء مما يعرف اليوم بــ مالي والسنغال وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر.
 
ولم يتم تسمية هذه المناطق بالسودان كناية عن امتداد ثقافي او تاريخي، بل لان الغرب ومن قبله العرب والمصريين نظروا الى هذه المناطق باعتبارها مجاهل افريقية يطلقون عليها نفس الاسم، فلا مملكة موحدة ولا ممالك قوية ولم يلتف لها العرب المسلمين ثم الاستعمار الأوروبي الا بعد حسم مناطق النفوذ في شمال افريقيا والشام والعراق.
 
لذا حينما أعلن عن استقلال السودان عن مصر، كان المسمى الإنجليزي هو Republic of the Sudan، يلاحظ إضافة إداه التعريف باللغة الإنجليزية The للإشارة الى ان هذا هو السودان الأصلي.
 
بل ونظراً لأنه لم يكن هنالك حكومة مركزية او دولة مركزة واحدة في تاريخ السودان، فأنك لا تجد لهذه الجمهورية الحديثة عواصم تاريخية، وحتى العاصمة الحالية الخرطوم هي مدينة بناها الحكم المصري للسودان في زمن محمد على باشا.
 
وعلى عكس كافة الدول التي تملك تاريخ وحضارات قديمة، لا يعرف للسودان حدود تاريخية تذكر، حتى ان القاهرة حينما نادت بالملك فاروق حاكماً على مصر والسودان أعلن عنه باعتباره "الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان وصاحب النوبة ودارفور وكردفان"، ويلاحظ انه حتى عشرينات القرن العشرين لم تكن تلك الأقاليم محسوبة على السودان بشكل حاسم او نهائي.
 
ولا يوجد ما يعيب في السطور السابقة، العيب هو ان نحاول ان نجعل من السطور السابقة كيان تاريخي ، في محاولة لمنافسة ارث الحضارة المصرية القديمة.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق