السيد ياسين.. ورحل شيخ الباحثين
الأحد، 19 مارس 2017 12:04 مكتب- محمد الشرقاوي
«إن موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك مضيعة للوقت ويعبر عن ثقافة سطحية تافهة».. كلمات وصف بها الراحل السيد ياسين، مدير المركز العربي للبحوث والدراسات، عالم التواصل الاجتماعي، لكنه لم يكن يعلم أن العالم الوهمي هو الذي سيتولي خبر وفاته ويعلنه للملأ، والذي رحل عن عالمنا صباح اليوم، الأحد، عن عمر يناهز 82 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض.
السيد ياسين، كاتب وباحث اجتماع ولد في 30 أكتوبر سنة 1919 في مدينة دمنهور التابعة إداريًا وقتها لمحافظة الغربية، تخرج من كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، يحكي عن نفسه قائلًا: «كان كتاب الفيلسوف هوايتهيد الشهير «مغامرات فكرية» صاحب الأثر الأكبر في حياتي، وما زلت أحتفظ بنسخة من هذا الكتاب حتى الآن، كان الكتاب صعبًا، ولكنه كان ممتعًا ومفيدًا، ومثّل بالنسبة لي لحظة الاكتشاف الأولى، في هذه الفترة اكتشفت مكتبة علم النفس التكاملي التي يشرف عليها أستاذنا يوسف مراد، ودخلت مجال علم النفس من أوسع أبوابه».
امتدت علاقة «ياسين» بعلم النفس في الفترة من عام 1946 إلى عام 1952، يضيف: «أيضًا كنت أتلمس طريقي داخل عالم الشعر، وكنت بالغ الإعجاب بالشاعر الرهيب ت إس إليوت وبدأت في هذه الأثناء أولى تجاربي في كتابة الشعر والقصة القصيرة، وتكونت مجموعة من الأصدقاء من محبي الأدب كانوا يجتمعون في منزلي في حي راغب باشا بالإسكندرية للمناقشة والاستماع، وهنا محطة فشل لنا جميعًا، إذ سرعان ما انتقلت إلى كتابة الخواطر والتأملات والمقالات الفلسفية ثم كانت نقلة أخرى».
قال «ياسين» عن طريقه إلى مجال البحث: «في عام 1957، نشرت صحيفة الأهرام إعلانًا عن حاجة المعهد القومي للبحوث الجنائية (المركز القومي للبحوث حاليًا) إلى باحثين مساعدين من خريجي الحقوق والآداب، تقدمت للاختبار التحريري مع 300 خريج، وكان المطلوب 3 فقط، وتمت التصفية الأولى إلى 25 خريجًا، ثم تقدمنا للاختبار الشفهي فاجتزته لإجادتي اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة على عكس الحقوقيين الذين يجيدون الفرنسية».
يكمل: «انضممت إلى المركز الذي أمضيت فيه 18 عامًا، وتركته عام 1975م لكي أصبح مديرًا لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، سافرت للدراسة في باريس لكي أعد رسالة الدكتوراه في القانون، وذهبت وذاكرتي مشحونة بمغامرات توفيق الحكيم ومحمد مندور في فرنسا، ربما كنت معجبًا بالحكيم الذي سافر لدراسة القانون وانصرف إلى دراسة الأدب، وذلك مندور الذي أمضى 9 سنوات ولم يكمل رسالة الدكتوراه في القانون وإنما ساح في عالم الفكر والأدب».
«درست عامًا ونصف العام القانون المدني الفرنسي ثم ضقت ذرعًا بقواعد المواريث الفرنسية المعقدة، فتركت القانون لكي أتعمق في دراسة علم الاجتماع، وهنا محطة فشل جديدة إذا أردنا إبقاء المفهوم، فقد تركت القانون إلى الاجتماع».
«اهتممت بعلم الاجتماع الأدبي الذي كان لا يزال ناشئًا وقتها عام 1964، وكذلك علم الاجتماع السياسي، قلت لنفسي لتذهب الدكتوراه إلى الجحيم، فليس من المعقول أن يضيع باحث مثلي ثلاث سنوات من عمره يتعقب أحكام محكمة النقض».
عدت بعد ذلك إلى القاهرة في عام 1967م وهو عام الفشل في مصر: النكسة والهزيمة والمرارة، وهنا اتجهت إلى دراسة المجتمع الإسرائيلي دراسة علمية، وانضممت إلى مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بالأهرام عام 1968، كان تأثير محمد حسنين هيكل على تكويني في هذه المرحلة عميقًا، فقد كان هيكل هو الذي فتح أمامنا آفاق البحوث الاستراتيجية حين قرر تحويل المعهد إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ودفعني هذا التحول إلى التعمق في دراسة مناهج ونظريات البحوث الاستراتيجية.
وإذا كانت هذه هي رحلة عمر، فشل هنا ونجاح هناك، فإنني أشعر تمامًا بالرضًا، وبأن الفشل كان تحولاً أكثر منه إخفاقًا، وأن النجاح كان حياة أكثر منه إنجازًا، وأعترف بأن نجاحي الأكبر الذي شاء الله له الغياب هو زوجتي ليلى عبد العزيز رحمها الله التي تغطي ذكراها عندي على ما كان من نقص وارتباك. وكم أتمنى أن تمضي حياتي الآن بمثل ما كانت مزيجًا من التحول والتطور.
لم يدعم السيد ياسين أي نظام دكتاتوري عربي، كما لم يدعم السياسة الأمريكية أو ينغمس في التطبيع مع إسرائيل، ولم يدعم نشأة الفكر الأصولي الإرهابي التكفيري، ولم تؤد كتاباته إلى إثارة النعرات الطائفية والدينية والعرقية، وحقق تأثيرًا بحثيًا وفكريا إيجابيا في العقل العربي، فاستحق أن يكون ضمن قائمة أفضل 100 مفكر عربي، ضمن الاستفتاء الذي أجرته إحدى الجهات الأردنية.
بعد رحلة عاشها ياسين مع المركز العربي للبحوث والدراسات، بصفته مديرًا له، وبعد صراع طويل مع المرض، رحل عن عالمنا شيخ «الباحثين».