بروفايل| صلاح نصر.. فيلسوف العهد الناصري

في الأديان المختلفة التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، يبدو أن دعاة العقائد الناجحة لم يستغنوا إطلاقًا عن الأسلحة الفسيولوجية في إضفاء بركاتهم الروحية على أتباعهم، فالصيام وتجويع الجسد والرياضة الروحية القاسية لتطهير النفس وتنقيتها، واستخدام السحر في حل الألغاز الرهيبة، ودقّ الطبول والرقص والتسبيح.. ما هي إلا بعض الأساليب المعروفة التي استخدمها الإنسان لتعديل وظائف المخ لأغراض دينية.

 

أما الزعماء السياسيين فقد عرفوا أيضًا الكلمات والأعمال التي يستطيعون بها أن إثارة الناس والسيطرة على عقولهم لتحويل معتقداتهم وأنماط سلوكهم غير المرغوب فيها، إلى معتقدات ووجهات نظر جديدة، وفي كثير من الأحيان ارتبط الانقلاب السياسي بعامل الدين مستغلًا سطوته وقوته لتحقيق أطماع سياسية بحتة، وتغيير معتقدات الناس السياسية والدينية والاجتماعية.

 

نعم لم تخطئ قراءة «العنوان»، فالسطور السابقة ليست مقتبسة من كتاب عن علم النفس أو الفلسفة، بل هي رؤية خطها قلم مدير المخابرات العامة الأسبق صلاح نصر في كتابه «الحرب النفسية – حرب الكلمة والمعتقد».

 

 

وفي ذكرى وفاته التي توافق، أمس 5 مارس، تستعرض «صوت الأمة» بعض المعلومات عن نصر الذي تأثٌر واهتم بعلم النفس والتاريخ، وكان السبب وراء اعتباره الأب الروحي والمؤسس الحقيقي لجهاز المخابرات، خاصة بعد أن وظّف تلك الاهتمامات في العمل الاستخباري، فتوالت النجاحات التي استندت على «تجنيد» العملاء، في فترة وصفها المختصون بـ «العصر الذهبي لجهاز للمخابرات المصرية».

 

بعيدًا عن إثارة الجدل التي خلفتها شخصية صلاح نصر منذ اتهامة في قضية الانحراف وحتى يومنا هذا، نجد أن هناك جوانب أكثر شغفًا في شخصيته لم يتطرق إليها أحد، فإذا دققت النظر إلى خطواته الواثقة وهو يدلف من سيارة «أوبل» متجهًا إلى قفص الاتهام، مرتديًا نظارته السوداء التي اشتهر بها، وابتسامة رسمتها ريشة فنان مدادها الثقة بالنفس على قسمات وجهه، فستجد تصوير حي لتلك الأفكار التي توغلت في تشريح النفس البشرية.

 

 

نسجت الأساطير حول «الرجل القوي» في الحقبة الناصرية، وأغلبها كانت تحمل رائحة (البتشولى و Diorissimo) أشهر العطور النسائية فترة الستينيات، لكنها لا تغدو عن كونها روايات، توجه سهام الاتهام لرجل لا يملك درع الدفاع عن النفس.

 

 

 

 

«إنه مهما حاول البشر أن يؤذي المؤمن فالله يعلم ما في النفوس ولكل امرئ ما نوى.. لست أول من افترى عليه في الأرض، ولكن إيماني بالله سبحانه وتعالى ورضائي بحكمه هو عقيدتي التي لا يمكن أن يزحزحها إنسان على البسيطة»، هكذا صاغ «نصر» حروفه في رسالة لأسرته، من وراء القضبان في يناير 1968، ردًا على هذه الاتهامات، وتأكيدًا على دفاعه قال: «إن تاريخ أبيكم مهما حاول أحد النيل منه فلن يستطع، ومهما نبحت الكلاب المسعورة، فالتاريخ لا يمكن أن يزيف وهناك من المؤمنين من سيكتبون الحقيقة».

 

 

ميول «نصر» في دراسة الطب قبل أن يلتحق بالكلية الحربية، لم تندثر ولم تمحها الحياة العسكرية من ذلك الجانب الفلسفي من وجدانه، بل استمر فى الإطلاع والتنقيب بين دفات الكتب عن ما يروي ظمأه في تحصيل العلم، وإعادة صياغته بما يخدم مهامه كرجل مخابرات من الطراز الأول، فنجده تأثر كثيرًا بعالم النفس الحيواني «إيفان بافلوف» مكتشف نظرية الانعكاس الشرطي، ومؤسس علم «غسيل المخ»، حسبما قال عنه اللواء محمد رشاد، وكيل جهاز المخابرات الأسبق، الذي رفض كل الاتهامات التي طالت «نصر»، متهمًا ضمير الأخير بالتسبب في الاغتيال المعنوي الذي طاله، حينما قال إنه بعد نكسة يوليو، كان أمامه خيار من اثنين، إما أن ينقلب على عبد الناصر لصالح المشير أو العكس، إلا أنه رفض الانقلاب على ايًا منهما، فحُمل أوزارهما فأصبح سبب النكسة. 

 

يتذكر «رشاد» أحاديث الآحاد التي نقلها رؤوسائه عن «نصر»، فيصفه بـ«الأب الروحي»، الذي عزّز من قدرات كل الأجهزة الأمنية المصرية، بالعلم والتعلم، حينما وضع حجر المؤسسية في العمل الأمني، وصاغ كل العلوم المتاحة في إطار يخدم نظريات الأمن القومي، بل ساهم فى تطوير مفهومه ليشمل كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعد أن كانت تنحصر على المفهوم العسكري فقط.

 

 

«هناك من تغريهم الحياة، فالوسادة الناعمة تغري الكثيرين على أن يفقدوا مبادئهم لينعموا ويتمرغوا.. ولكن حينما تبلى الوسادة يصبحون لا شيئ.. ما أجمل أن تعرف النفس حقيقتها قبل أن تحاسب الآخرين»، في هذا المقتطف من خطاب نصر الموجه لأسرته، أسقط رجل النظارة السوداء رغد الحياة على الوسائد، التي اتهم حتى اليوم باستغلالها في السيطرة على أدوات جمع المعلومات من مشاهير النساء، لكن الوسادة بُلي نسيجها عندما داهمت الجلطة جسد «نصر» في يوليو 67، وفتق رتقها في مثل هذا اليوم 1982، عندما قرر القدر طوي صفحة هذا فيلسوف العهد الناصري.