أعطني حريتي أطلق يدي
الأربعاء، 01 فبراير 2017 10:57 م
هل تذكر قصيدة الأطلال لشاعرنا العظيم إبراهيم ناجي.. وجملته الشهيرة التي تألقت فيها أم كلثوم: أعطني حريتي أطلق يدي؟! هل تتذكر مشهد ميل جيبسون في فيلم «بريف هارت».. وهو يصرخ بأعلى صوته «حرية.. حرية» ومعها جملته الشهيرة: يمكنكم أخذ أرواحنا, لكن لن يمكنكم أبدا سلب حريتنا؟!
والسؤال الذي ألح عليّ بحثا عن إجابة هو.. هل جملة إبراهيم ناجي هي الأصح أم ميل جيبسون؟ بمعني آخر هل يستطيع أحدهم أن يسلبنا حريتنا أو يعطيها لنا! وما هو مفهوم الحرية ومدي أهميته في طريق بناء إنسان الحضارة؟
للحق، كتبت عن الحرية مرات ومرات، وفي كل مرة أمزق كل ما كتبته وأعيد الكتابة من جديد، كيف لي أن أسطًر في كلمات يسيرة ذلك الشعور المتوهج المُتلألئ بالنور والنار؟!
تلك الهبة الربانية ذات التاثير السحري علي نفوس البشرية، أتعلم.. أنت تملك من النعم الكثير، لكن لا شيء يوازي شعورك بالحرية وتحررك الداخلي! هذا الذي ما إن داعب أعماقك، حتي كدت تلمس بيديك عنان السماء، وصرت والسعادة أصدقاء، وأحست مشاعرك بلذة لا يوازيها أي متع في الحياة.
لا أبالغ إن قلت أن الحرية هي قدرتك علي لمس «الروح» في أعماقها الخفية، فتأتيك أصداء عدة من أعماق روحك التي– بتحررك – تكون لمست أغوارها، فالآن فقط تكون حررتها، فنسمع صوتك رناناَ بميزاتك المتفردة، وترسم لمستقبلك خطواته المميزة الخاصة بك.
كقوى الكهرباء، هي تصل ما بين العقل والقلب والروح والجسد فينصهروا في بوتقة واحدة! فتتكون قوة ثقتك بذاتك، وبالتجربة وممارسة حريتك مرة من وراء مرة، تتطور شخصيتك فإذا ما اخترت أن تضبطها على معيار سلطتك الأخلاقية، ظهرت لنا «حكمتك».
تنفس معي أنفاس أول حروفها «حاء» خارجاً من أعماق جوفك كما يحدثنا علم التجويد، تلك الأعماق التي أَهلّت عليها التراب أيها المصري صاحب أقدم حضارة عرفتها الإنسانية، يوما وراء يوم، عقد من وراء عقد، مُتبعا غيرك من الأمم، متخلفا عن ركب الحضارة.
هلا نقبت داخلك عن معدنك الحر النفيس، باحثا عن ذاتك، عن صوتك الداخلي، الذي يُحدثك دوما أنك تستطيع تغيير حالك مهما بلغت بك صعوبة الأحوال والتحديات.
ولأن «الحرية» هي أساس لبناء الإنسان ولبداية طريق الحضارة الإنسانية، كانت دوما الأمم تتخلف عن ركب الحضارة إذا ما اغتالت أنظمتها حرية أفرادها فصاروا كالقطيع سائرين دون فهم ولا إرادة، فلا نفعت بهم أممهم يوما ولا هم- أنفسهم - نفعوا.
جاءوا الدنيا وذهبوا دون أن يتركوا للحضارة أثرا يدل علي وجودهم، عزيزي القارئ بالطبع أنت لا تتذكرهذا المشهد، وأنت داخل رحم أمك العزيزة، حيث تعيش لتأكل وتنام ويتمدد جسدك طولا وعرضا، ورئتيك تكتمل نمواً، دون أي إرادة حرة منك في ذلك، فقط باتصالك بمشيمة والدتك.
ثم ها أنت تخرج من داخل ظلام هذا الرحم لنور دنياك، معلنا ذلك بأعلي صوتك، رئتيك هاهي تنفتح لتمتلئ باول أنفاس الأوكسجين، ومع هذا الانفتاح يكون ألمك، وصرخاتك الممتزجة بدموع فرحة من جاء الدنيا ليضع بصمته المتفردة الخاصة، تخيل لو كنت وقتها تقوي علي الحركة؟هل كنت تركتهم ينقلونك من هنا لهناك بين أيديهم كلعبة أو دمية لا تملك روحا حرة؟
هب أنك كنت– وقتها – تملك صوتا وقدرة علي الحديث، ألم تكن لهم قائلا: أيها العالم، جئت هنا من أجل رسالة عظيمة! صار لنا ذكرا وأنثي «حرية الاختيار» فيما نفعله وما لا نفعله. والسؤال هل الآن نحن مدربين كشعب مصري علي ممارسة الحرية؟
أم أننا مازلنا سجناء منظومات إدارية بيروقراطية، أسرية وتعليمية قبل أن تكون سياسية، فالوعي السياسي هو أعلي درجات سلم الوعي الإنساني، وبداية صعود درجاته لا يكون إلا بوعي الإنسان بذاته. مازلنا ننظر للمولود الجديد لنصنفه شكلا وموضوعا فيما توارثه عنا، دون أي نظرة أنه بالطبع ستكون له بصمته الخاصة.
مازالت «البنت لعمتها» و«الولد لخاله» و«اكفي القدرة علي فُمها تطلع البنت لأمها» مازلنا نخشى مناقشة أبناءنا في أفكارهم عن لماذا وكيف وما معنى ذلك؟ ما زلنا نملأ عقول أولادنا بالمزيد من الإجابات النموذجية للأسئلة الوجودية، عن الله، عن الوطن، عن معاني الإنسانية.
مازلنا نطلب من الولد والبنت أن يكفوا عن التعبير عن رأيهما الحر، بل قد يذهب بعضنا لاستخدام الضرب كوسيلة لردعهم عن حقهم الحر في التفكير، نحتاج لنسف كل المفاهيم البالية، فلا وجود للنسخة، في تفردك الإنساني – أيها المصري الحر– كل العظمة. نحتاج لتغيير أنظمتنا الإدارية التي تنشئ الإرادة الإنسانية داخل قوالب نمطية، مغتالة الحرية ومعها الضمير الحر وبالتالي الإنسانية.
نحتاج لأنظمة منفتحة منضبطة أخلاقيا، يتمتع فيها الطفل والمراهق والشاب بكامل حريته؛ فيتدرب شيئا فشيئا علي اتخاذ القرار السليم، ومن ثَم يختار هو بذاته اتباع بوصلته الأخلاقية باتباعه الحر لصوت ضميره. هذا الذي بالكاد تسمع صوته الخافت قادما من نفس ذات الأعماق الحرة، التي إن كتمت صوت حريتها, خُنِقَت معه في نفس ذات اللحظة صوت ضميرها. الحقيقة العلمية تقول أنه لا وجود للاخلاق ولا للضمير دون وجود حرية.. ولتكن المعادلة: حرية + ضمير (سلطة أخلاقية)= إنسان حضاري.
عزيزي القارئ.. جملة إبراهيم ناجي في قصيدته الرائعة «الأطلال» إذن «أعطني حريتي أطلق يدي» هي خاطئة، وجملة ميل جيبسون هي الأصح، فالحرية لا يعطيها أحدهم للآخر، لأنها ببساطة أعظم هبة وهبك الله إياه، بعد هبة وجودك في الحياة نفسها.
عزيزي كل مربي، أيا كان توصيفك: اترك لأولادك حرية اتخاذ القرار، استمع لتفرد صوتهم الخاص، وإن أخطئوا مرة فسيتعلمون ألف طريق للصواب. أما أن أصريت أن تكتم أصواتهم الحرة بفرض إجابتك النموذجية؛ فإن استجاب لك أحدهم، فاعلم أنك تقتل روحه فتُردِيه قتيلا نفسيا، وأن تمرد عليك الآخر، فكن علي دراية أن ذلك راجعا لمنظومتك المشيئة لإرادته الحرة.
فالحرية هي أساس للاتزان النفسي، وهي حياة الروح، كثيرون علي قيد الحياة، قليلون علي قيد أحرارها.. فليس كل حيّ .. يحيا بنبض «روحه الحرة» .. ولكن كل حر هو حيّ بنبض أنفاس الحرية.. هذا رأيي عزيزي القاريء.. ماذا عن رأيك؟