مصر ما بعد ترامب
السبت، 28 يناير 2017 11:09 ص
من المعتاد في رحلة صعود وهبوط العلاقات «المصرية – الأمريكية» أن كل مرحلة مميزة تعقبها مرحلة اضمحلال في العلاقات بين البلدين، عقب مرحلة «عبد الناصر – جون كينيدي» أتى الرئيس «ليندون جونسون» مع نكسة يونيو 1967، عقب مرحلة «السادات – جيمي كارتر» أتى الرئيس «رونالد ريجان» مع حادث المنصة 1981، وعقب مرحلة «مبارك – بيل كلينتون» أتى الرئيس بوش الابن بغزو العراق، 2003 ثم باراك أوباما بالربيع العربي.
كما أتى الرئيس ترامب ليحذف ما يمكن حذفه من تاريخ أوباما، فإن الرئيس الديمقراطي المقبول سوف يفعل ذلك مع إرث ترامب، وبالتالي ما هو غير قابل للحذف هو الإنجازات المستدامة، والتي يجب أن تقوم بها مصر فورًا استغلالًا لمرحلة «السيسي– ترامب».
وأعني بذلك «تجفيف منابع المؤامرة على مصر»، حتى لا يجد الرئيس الأمريكي المقبل المناهض لمصر سواء أتى بعد ترامب أو لاحقًا، ما يمكن أن يبني عليه الجولة الجديدة من المؤامرة، إننا بحاجة إلى ثورة تصحيح ناديت بها منذ عامين لتأسيس جمهورية قابلة للحياة أمام كل المتغيرات المستقبلية المتوقعة، وأعيد اليوم طرح الفكرة خصوصًا على ضوء المتغيرات الأخيرة:
1 – التعليم: إن النظام التعليمي في مصر هو أكبر حاضن لعوامل التطرف والإرهاب، ليس في نصوص دينية بل في طريقة تعليمية تلغي الفكر والإبداع وتكرس الحفظ وإلغاء التفكير والانتهازية التجارية، عبر كتابة ما هو مطلوب من أجل تحصيل الدرجات فحسب.
إن ما يجري للعقول المصرية في السنوات العشرين الأولى من عمر الإنسان المصري هو عملية اغتيال للعقل الجمعي المصري، وحان الوقت لنسف هذه المناهج وتدشين مناهج تعتمد على الفهم والفكر، لدى مصر ابن لها في كل جامعة كبرى حول العالم، وهناك تجارب دراسية مبهرة في ألمانيا وأمريكا فلمَ لا نستغل كل هذا، والملاحظ أن هذا النمط من الإصلاح لن يُكلف الدولة كثيرًا حتى يتم وضع ملف التعليم في البند الأخير.
كما يجب إعادة هيكلة مادة التربية الوطنية، وتعريف النشء بحقيقة تاريخ بلاده، وإزكاء الروح الوطنية المصرية في نفوس الطفل منذ الصغر، حتى لا يجد من يسوقه لاحقًا إلى فكر مضاد يرى في مصر حفنة من التراب أمام هرطقة لا تنتهي من تمجيد سفك الدماء.
2 – القضاء: قامت في مصر منذ عام 1919 ما لا يقل عن عشر ثورات وانتفاضات شعبية، ومع ذلك بقيت القوانين شبه جامدة، وأصبحت ثغرات القانون لعبة في يد الدفاع، ومع كل تعديل أو استفتاء دستوري كنا نرى العجب.
إننا بحاجة إلى ثورة تشريعية دستورية، ليس الغرض منها بأي حال مناكفة القضاء أو القضاة بل تيسير العمل عليهم بقوانين وبنود عصرية، سواء فيما يتعلق بالحياة السياسية أو قانون العقوبات وغيرها من آليات يجب أن تكفل سرعة التقاضي وعقوبات أكثر قوة لبعض الجرائم، فلا يُعقل أن نرى عقوبة أخرى غير الإعدام لمن يقوم بالاغتصاب الجنسي على سبيل المثال، كما لا يُعقل أن نرى أغلب زعامات التيار الإرهابي حتى اليوم دون حكم قضائي واحد ثابت، بل بعض منهم ومن شبابهم أبصر النور مجددًا، بينما دماء أبطالنا في الجيش والشرطة لا تزال تروي تراب سيناء الغالية.
على أن تنتهي هذه الثورة التشريعية بتعديل دستوري أو دستور جديد يعيد للدولة المصرية هويتها الدستورية بالنظام الرئاسي أو عودة دستور 1971 بتعديلات مارس2001، مع تعديل جديد، على أن يخضع كل هذا للتصويت الشعبي.
3 – الإعلام: تطلق التنظيمات الموالية للمؤامرة كل ست شهور بوابة إلكترونية للتدوين، بالإضافة إلى بوابة إخبارية، من أجل مخاطبة 40 مليون مصري يمتلكون حسابًا على موقع «فيسبوك»، ما يعني أن 40% من الشعب المصري يتأثرون بوسائل التواصل الاجتماعي.
وبينما تفرد المؤامرة مساحات ضخمة لكل شاب موالٍ لها من أجل الكتابة الإبداعية والخبرية والمقالات في كل المجالات، نجد الجبهة الوطنية جامدة تمامًا فيما يتعلق بالفضاء الرقمي، صحيح الإعلام الوطني قطع شوطًا مميزًا للغاية عبر شبكة (ON) وشبكة ((DMC، ولكن لا يزال كوكب وسائل التواصل الاجتماعي بلا رقيب ولا تنظيم قانوني أو إعلامي يمتلك التأثير الواجب داخل هذه المنظومة الأكثر تأثرًا بالمؤامرة والأكثر فعالية في تنظيمها طيلة السنوات الماضية.
نحن بحاجة إلى ثلاث بوابات إلكترونية صحفية على الأقل بأقلام وأيادٍ شابة، ومساحة لمقالات الرأي ترد على كل كبيرة وصغيرة يرددها شباب المؤامرة، فلا يُعقل أن يكون هذا المجهود الذى يقوم به مئات الشباب الوطنيين بدون أجر، حبيس موقع «فيسبوك» وتحت رحمة آليات التبليغ والحذف، بينما شباب كرّس وقته لسب الوطن يتلقى على المقال الواحد 500 دولار ويمتلك القدرة على النشر في عشر مواقع إلكترونية على الأقل دون أدنى حسابات، باستثناء قدرته على خدمة الهدف الذي يريده القائمون على المؤامرة.
4 – الاقتصاد: عقب تصريح مسئول صندوق «النقد الدولي» الأخير بأن خبراء الصندوق لم يتوقعوا ارتفاع الجنيه المصري أمام الدولار بالمعدل الذي حدث عقب قرار التعويم، أعتقد أنه يجب مراجعة هذا الاتفاق بالكامل، إذ إن المكاسب التي وعد بها الصندوق كانت بناء على توقع خبرائه لسعر صرف الدولار في حيز «12– 14جنيهًا» وليس ما وصل إليه اليوم، وبالتالي أغلب وعوده تُعتبر في مهب الريح من جهة، ومن جهة أخرى فإن حديثه عن ارتفاع الدين الخارجي معرض للزيادة أيضًا.
إذا لم تلتزم مصر بالإصلاحات المطلوبة تلقائيًا سيُعلق العمل بالاتفاقية مع صندوق النقد الدولي ويتم جدولة الشريحة الأولى ضمن الديون فحسب، وبالتالي هذا مخرج قانوني يحرر مصر من قيود هذا الصندوق الاستعماري، بينما لدينا رجل اقتصاد كفء مثل «د. سمير رضوان» لديه حلول وبدائل عن هذا القرض سبق وأن طرحها.
أما ضبط أسعار السوق فإن هنالك تجربة فرنسة في التسعيرة الجبرية، وتجربة أمريكية في عصر الرئيس فرانكلين روزفلت في إصدار قرارات تضبط تدهور الأسعار، فالسوق الحر وإن كان ينص على عدم تدخل الدولة إلا أنه ينص على حماية الدولة للمستهلك والمستثمر معًا، وما يجرى في السوق المصري اليوم هو عملية تسخين ممنهجة للمواطن العادي بغية تقليب مشاعره حيال الدولة.
مع نظام تعليمي قوي، ونظام قضائي لا يُكبل يد الدولة، ودستور ينسجم مع طبيعة الدولة المصرية منذ فجر تاريخها، وإعلام جديد عبر وسائل التواصل الاجتماعي يشكل المقاومة الإلكترونية لمحاولة الغزو الإلكتروني لعقول المصريين، بسواعد شابة بعيدًا عن العقول الجامدة التي تدير هذا الملف وتظن أن إهماله نوعًا من الإدارة، بجانب الإعلام التليفزيوني المميز في الفترة الأخيرة والطفرة المتوقعة في الصحافة، وأخيرًا تجربة اقتصادية وطنية لا تُعاقب المواطن الذي اختار الانحياز لوطنه، وقتذاك لن يكون للمؤامرة الأمريكية مكان بيننا، وليعد بوش أو أوباما للبيت الأبيض بمعجزة ما دون أن نخشي شيئًا.