أوهام القومية العربية
الأحد، 15 يناير 2017 10:15 ص
تبدو فكرة القومية والوحدة العربية في بادئ الأمر فكرة رومانسية خلاّقة، ولكن مع التمعن والإبحار في كتب التاريخ سوف نكتشف أننا أمام فكرة هزيلة هزلية لا تعرف كيف أقنعت الصبية الصغار قبل البالغين الكبار.
ففي بادئ الأمر لا يوجد أي ماضي سياسي للفكرة يُذكر قبل منتصف القرن التاسع عشر، إذ إن كل المشاريع الوحدوية في المشرق كانت إسلامية، أو امبراطوريات مصرية وعراقية أو فارسية، وبالتالي أنت أمام محاولة لتعريب أو علمنة جزء من التاريخ الإسلامي أو المصري أو العراقي أو الفارسي لمواجهة هذا التاريخ وتلك القوميات وخصوصيات تلك المجتمعات.
والحاصل أنه في منتصف القرن التاسع عشر لجأ الاستعمار البريطاني، في مخططه لتفتيت الدولة العثمانية، إلى فكرة صناعة القوميات ودعم أفكار الانفصال على أسس قومية، عبر استخدام نُخب سياسية وثقافية لترويج أن الولايات العثمانية الناطقة باللغة العربية يجب أن تكون دولة عربية مستقلة لها خليفة أو سلطان مستقل عن ذلك العثماني القابع في الأناضول.
الملاحظ أن الاستعمار لم يروج لفكرة القومية المصرية أو العراقية مثلًا، إذ إن القضاء على رجل الشرق المريض لا يعني أن تطلق المارد من القمقم، وكان أول من روج لفكرة القومية العربية هو جمال الدين الأفغاني عبر إطلاق الجمعية الماسونية العربية بتمويل من المخابرات البريطانية والمحفل الماسوني الاسكتلندي، وقد واكب ظهور الأفغاني في المنطقة العربية قيام بريطانيا بدعم فكرة القومية الكردية في عدد من الولايات العثمانية.
كما تم الاتصال بالزعامات الدرزية في جبال الشام، وحاولوا مع الكنائس القبطية والمارونية والآشورية، وكان الغرض هو صناعة أكبر عدد ممكن من الدعوات الانفصالية في الولايات العثمانية.
قبل هذا العمل الاستخباراتي لن تجد كلمة واحدة عن الوحدة أو القومية العربية في كتب التاريخ، إذ إن الأصول التاريخية والحضارية لكل تلك الدول مختلفة، ومع تطور العلم، خاصة علم الجينات، عرفنا أن أغلب شعوب جامعة الدول العربية لا تمت للجنس العربي بصلة، وفي مقال سابق تحدثت عن الدراسات العلمية التي أشارت إلى أن 90 % على الأقل من الشعب المصري يحمل نفس جينات القدماء المصريين أصحاب حضارة العشرة آلاف عام.
جديد هذا العلم دراسة نُشرت في مجلة «ناشونال جيوجرافيك» بعنوان (Reference Populations – Geno 2.0 Next Generation) تسرد تفاصيل سلسلة من الدراسات الجينية جرت مؤخرًا، تكشف أن 44 % فحسب من سكان لبنان من أصول عربية، بينما النسبة تنخفض إلى 4 % فحسب في تونس، ثم تنسف الدراسة فكرة القوميات الفارسية وتذهب إلى ما ذهبت إليه في كتاب «التتار المسلمين»وهو أن مصطلح «القومية الفارسية» ينحصر فحسب في أبناء الأقاليم الفارسية داخل إيران.
ووفقًا للدراسة، فإن 56% من سكان إيران من أصول عربية، و6% من أصول إفريقية، و2% من أصول أوروبية، ما يعني أن 68% من سكان إيران ليسوا من أصول فارسية، والمقصود من أصول عربية هنا هم أبناء شبه الجزيرة العربية، علمًا بأن إيران تحتل عددًا من الدول العربية السابقة وليس إقليم الأحواز «عربستان» فحسب.
البعض يقفز فوق العامل «الجيني-العرقي» بالقول إنها هوية مجتمع سواء الدين أو اللغة أو العادات والتقاليد، وفي واقع الأمر هذا حديث لا يقل هزلية عن حديث الجنس العربي الموحد، فمن جهة لا توجد دولة إلا وتلقت تعاليم الأديان ثم قامت بإضفاء طابع محلي عليها مستمد من خصوصيتها، ما أدى إلى خلافات فقية-لاهوتية ما بين الكنائس المسيحية والمذاهب المسلمة، بالإضافة إلى الممارسة الاجتماعية للدين ذاته.
أغلب المسلمين في مصر لا يطلقون على أبنائهم أسماء المسلمين في الخليج أو الشام أو اليمن أو الدول المغاربية والعكس صحيح، وهنالك اختلافات في العادات والتقاليد الاجتماعية بشكل كامل، بل حتى في أداء العبادات، وينطبق الأمر ذاته مع مسيحيي مصر مقارنة بمسيحيي الشام على سبيل المثال.
والملاحظ أن المصريين قاموا بتمصير المسيحية والإسلام وممارسة مذهب شعبي خاص بهم بعيدًا عن باقى المسميات، إذ عُرف عن القدماء المصريين تمجيد الحياة الآخرة والثواب والعقاب في إطار الحساب الإلهي بعد الوفاة، وتم تتويج هذه الفلسفة الدينية بالاهتمام بأضرحة الملوك والاهتمام بزيارتها، وكرر المصريون الأمر ذاته مع رجال الدين المسيحي الأوائل، ولاحقًا المسلمون في مصر هم الشعب السني الوحيد الذى يحتفي باضرحة «آل البيت» ولا يقبل المساس بها وشيّدها بالعرق والدم من مئات السنين.
رغم أن مشايخ الإخوان والوهابية والسلفية سجلوا اختراقات مهمة في المجتمع إلا أنهم فشلوا في محاربة هذا الإرث الحضاري في نفوسنا، حتى مع اتهامات بالتشيع والتشبه بالمذهب الشيعي لم يكترث بها المصريون في زيارتهم الدورية لمساجد الحسين والسيدة زينب والسيدة نفسية وغيرها.
أما الحديث عن وحدة اللغة العربية، فيكفي أن تفكر في التخاطب مع صديق عراقي أو جزائري بالعامية العراقية أو الجزائرية لتعرف وهم هذه الوحدة، كما أن كل شعب على حدة يفضل استخدام قواعد صرف ونحو معينة عن باقي شعوب الجامعة العربية، وقد أشارت العديد من الدراسات في علوم اللغة إلى أن كل شعب من هؤلاء يمكن اعتباره يتحدث لغة منفصلة عن اللغة العربية الأم، ويكفي القول إن نسبة كبرى من الكلمات التي ينطقها الشعب المصري في القرن الحادي والعشرين تنتمي إلى اللغات المصرية والإغريقية والرومية واليونانية والفارسية والعثمانية القديمة.
ثم إنه لا يوجد شيء اسمه قومية بناء على وحدة الدين أو اللغة، فهذا فكر صهيوني يسعى إلى تدشين القومية اليهودية بنفس الفكر، ولا عجب أن نرى أنصار القومية العربية يرددون نفس الحجج لأن كلتا الفكرتين ظهرت في نفس العصر عبر نفس الأجهزة الاستخباراتية الغربية.
ففي واقع الأمر دول جامعة الدول العربية لا يجمعها عرق أو جينات شعب واحد، ولا يجمعها ثقافة اجتماعية ولغوية ودينية واحدة، وحروبها الدينية خلفت ضحايا أكثر من حروبها ضد الاستعمار.
ختامًا: إن سرد هذه الحقائق العلمية والتاريخية ليس الغرض منها فصل مصر عن محيطها الإقليمي لأن هذا ليس انتماء للقومية المصرية بل تفكيك للدولة المصرية، ولكن المطلوب هو أن نفهم الإطار الذي يجب أن نتعامل عبره مع الشرق الأوسط، فالقومية المصرية تنظر إلى كل دول جامعة الدول العربية باعتبارها امتدادًا للأمن القومي للامبراطورية المصرية، وأنه لا بأس من تعاون عسكري أو اقتصادي تحت مسميات عربية، ولكن من دون أن ننخرط في التضحيات الرومانسية والمغامرات العاطفية، ولا يخجل مدعو التنوير والعلمانية من حقيقة أن مصدر هذه المشاعر الرومانسية هو زمن الامبراطوريات المسلمة، وأن محاولات علمنة جزء من تاريخ الدولة الإسلامية لمواجهة فكرة الدولة الإسلامية أمر هزلي للغاية.
لنعتبر الوحدة العربية فكرة أشبه بالوحدة الأوروبية، دون أن نبالغ في هزليات وحدة الدين والعرق والجنس واللسان والثقافة والمجتمع، لأنها ليست كذلك بالمرة.