طوبى للأحياء أبدا
السبت، 14 يناير 2017 10:12 ص
في أكثر من مركز تجاري بمدينة أبوظبي، سوف يتوقف المارون أمام لوحات للجمال الخالص نسجتها أيادي الأفغانيات على السجاد اليدوي الذي تُنتجه أفغانستان منذ مئات السنين، وتتوالى الزخرفات والأشكال البديعة الناطقة بحب الحياة والانتماء إلى تراث عريق من الفن والإبداع، ويحكي عناق ألوان الفيروز والورود الذي غزلته أنامل نساء القرى الفقيرة في أفغانستان حكاية أخرى غير حكايات البؤس والدم والقتل والثكل التي أصبحت أول ما يرتبط بأفغانستان في الذهن.
هذه اللوحات الفاتنة هي ثمار «مشروع فاطمة بنت محمد بن زايد» الذي يوفر فرص عمل لأكثر من أربعة آلاف أفغانية، تقدم كل منهن بدورها المساعدات للمحتاجين من أبنائها وأسرتها الممتدة، ويتيح لمن يلتحق به من الكبار فرصة التدريب، ومن الصغار فرصة التعليم، وللجميع فرصة الرعاية الصحية المجانية.
وبذلك فإن المشروع يقدم مفهومًا جديدًا متكاملًا للعمل الإنساني المؤسسي، الذي يضمن توفير جملة من الفرص دفعة واحدة، ويتيح لها الاستدامة والنمو، وينطلق من إمكانات قائمة فعلًا ليطورها ويستخرج منها أقصى طاقاتها وقدرتها على العطاء.
لن يتوقف «مشروع فاطمة بنت محمد بن زايد» بالتأكيد، بل سيبقى وستتسع دائرة المستفيدين منه. وحين يتجول الزوار في «معرض التصميم- دبي» في منتصف مارس 2017، فإنهم سيشاهدون الجناح المخصص للمشروع وسط أجنحة يحتلها أكبر المصممين من مشارق الأرض ومغاربها، لكن جناح «مشروع فاطمة بنت محمد بن زايد» هذه المرة سيكتسي بعدًا خاصًا يختلف عما ارتبط به من قبل، إذ ستحفه - مباركةً وطيبةً - أرواح شهداء العمل الإنساني الإماراتيين في قندهار.
الخطر في قندهار لم يكن بالأمر المجهول، بل يمتد الخطر إلى كامل أفغانستان، ويجعل السير في أي موضع منها مغامرة غير مأمونة العواقب. وكان يمكن لدولة الإمارات العربية المتحدة أن تكتفي بتبرعاتها السخية ومساعداتها التي بلغت 2.5 مليار درهم للبلد الذي سقط فريسة للإرهاب منذ عقود، وانطلقت على أرضه وحوش بشرية تتقاتل فيما بينها، وتقتل الأبرياء من المواطنين، وتفرض عليهم الفقر والجهل باسم الدين الإسلامي وهو منهم براء، لكن الإمارات أرادت لمساعداتها أن تكون فاعلة، وأن تصل إلى حيث يجب تمامًا، وأن تُنفذ مشروعات بعينها تخفف عن الأفغان بعض ما يلاقون، وكان لزامًا أن يتولى الأمر أبناء الإمارات بأنفسهم لتكتسب مساعدات الدولة قيمة مضافة ناجمة عن إدارتها بوعي، انطلاقًا من خبرات متراكمة في تقديم المساعدات الإنسانية منذ تأسيس دولة الإمارات.
لا يتردد أبناء الإمارات إزاء أداء الواجب الإنساني مهما كان الخطر، وقد تواصل عملهم في أفغانستان سنوات طويلة، ولم تُثنهم صعوبة الحياة والتربص الدائم من الإرهابيين بكل من يمد يد المساعدة إلى الأفغان، وما يحرصون على إشاعته من الرعب من خلال ممارسات وحشية تقشعر لها الأبدان، والمسارعة إلى الفتك والقتل متى وجدوا إلى ذلك سبيلًا، ووسط العبوات المفخخة ورصاصات القناصة وهجمات القطعان المسعورة من الإرهابيين على القرى وأطراف المدن في جنح الليل كان أبناء دولة الإمارات يواصلون عملهم النبيل متسلحين بالإيمان والوطنية وقوة نداء الواجب.
خلال هذه الفترة، كانت دولة الإمارات تقوم بجهود سياسية ودبلوماسية لاستعادة الاستقرار إلى أفغانستان، ودعم الحكومات الشرعية والمبادرات الوطنية، وإتاحة فرصة للنجاة أمام الشعب الذي اتخذته الجماعات الإرهابية رهينة منذ عقود، وحرمته أبسط حقوقه في الحياة والتعليم والعلاج، وفرضت نمط حياة ممعنًا في تخلفه على كل بقعة استطاعت أن تمد سلطانها إليها، ومارست أسوأ أشكال البطش والتنكيل بزعم أنها تطبق الشريعة الإسلامية، مفتئتة بفعلها على دين الله السمح وشريعته التي تنبذ العنف والكراهية، وتعلي من حرمة الروح الإنسانية وقدسيتها.
للحظات الأخيرة دلالتها، وفي اللحظات الأخيرة كان شهداء الإمارات الخمسة مستبشرين ببدء العمل في مشروعات ثلاثة سبقتها مشروعات أُنجزت وآتت أُكلها، فيما مشروعات أخرى كانت تنتظر منهم مزيدًا من التحضير لإطلاقها.. كان السفير الإماراتي في أفغانستان وصحبه الأبرار قد وضعوا حجر الأساس لـ«دار خليفة بن زايد بن زايد لرعاية الأيتام» في ولاية قندهار، ووُقعت اتفاقية مع جامعة «كاردان» تتضمن تقديم منح لطلاب أفغان على نفقة دولة الإمارات، وقبل ذلك كان السفير وصحبه قد وضعوا حجر الأساس لـ«معهد خليفة بن زايد آل نهيان للتعليم الفني في العاصمة كابول»، الذي موَّلته مؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية. ويعرف الذين جربوا العمل الخيري والإنساني أيَّ سعادة يشعر بها من يرون جهود الخير وهي تُؤتي ثمارها.
البِشْر الذي فاضت به الوجوه والقلوب كان يمهد لبِشْر ولبُشرى أجل وأبقى. وهل هناك أفضل من أن يلاقي الإنسان ربه وهو يكد ويكدح لمد يد العون إلى أيتام فقدوا العون والسند، ولم يعد لهم من ملجأ بعد رحمة الله إلا القلوب التي انطوت على الخير؟.. أهناك أفضل من أن يكون آخر فعل الإنسان على الأرض تشييد صرح للعلم بعد أن فرض الإرهاب ظلام الجهل على الأبرياء؟.. أهناك أجمل من أن يلاقي الإنسان ربه وقد أسهم في شق طريق في قلب الصخر، أو أوصل المياه العذبة إلى أطفال وشيوخ وعجائز كانت المياه الملوثة توردهم موارد التهلكة، أو وفر الدواء لمرضى لا يملكون إليه سبيلًا؟.
طوبى للشهداء الراحلين إلى أكرم مكان، بعد أن أدوا أشرف مهمة، وصدقوا ربهم ووطنهم وأهلهم ما عاهدوهم عليه.. طوبى لمن ضربوا المثال الأروع في البطولة والفداء والعطاء، ولم يُثنهم الخوف أو التردد عن الاضطلاع بالمهمة المقدسة التي نذروا أنفسهم لهم.. طوبى للشهداء الأحياء أبدًا، المستبشرين أبدًا.
الإرهاب إلى اندحار، هذا ما تُعلمنا إياه دروس التاريخ وتجارب الأمم. ولن يزيدنا غدر الإرهابيين إلا تصميمًا على اجتثاثهم وتخليص العالم من شرورهم، ولقد كانت الإمارات سباقة إلى التحذير من خطر الإرهاب والتصدي له ممارسة وفكرًا، وسوف تواصل أداء المهمة لأنها توقن بأن ما ندفعه من ثمن من أجل التصدي للإرهاب يبقى أقل بكثير من تبعات التغاضي عن خطر الإرهاب أو تركه يتمدد، وأن قدرة الإرهاب على التمدد السرطاني تفرض مواجهته في كل مكان، وإيقافه في اللحظة التي يبدأ فيها تحركه المشؤوم.
وسيبقى أبناء الإمارات يقدمون المساعدات الإنسانية إلى إخوتهم في أفغانستان، ولن تُرهبهم المحاولات الغادرة التي تهدف إلى إبعاد كل من يمد يده بالخير إلى الشعب الأفغاني، ليتسنى لهم ممارسة جرائمهم البشعة بحقه دون عائق. وستواصل الإمارات إنشاء المدارس والمستشفيات ومحطات المياه والكهرباء وتوفير فرص التعليم وإقامة المشروعات التنموية، وستبقى تضحيات أبناء الإمارات محفورة في قلوب الشعب الأفغاني، مُجسدة الوجه الحقيقي للأخوة الإسلامية ولتعاليم الإسلام التي تحض على الرحمة والخير.
الإرهاب إلى اندحار، وسيلقى الإرهابيون القصاص العادل، ويدفعون ثمن ما اقترفت أيديهم، وستواصل النساء في «كابول وقندهار وغزني وخوست وقندز» نسج السجاد، وسيرسمن وجوه الشهداء وقد اتشحت بالطمأنينة والسكينة.
نقلا عن صحيفة «الحياة».