السوريون في مصر.. دُعاة حياة (تحقيق)
الثلاثاء، 03 يناير 2017 03:15 م
«أَلبي غَلْيَان عليك يا حبيبي».. كررتها السيدة السورية، وهي تبكي وتضرب بيدها على صدرها وكأنها تُروِّضُ صرخةً، تخشى من انطلاقها في الحافلة العامة التي تركبها؛ لتصل بها حي عين شمس، شرق القاهرة، حيث تقيم.
كان مانشيت الجريدة على حِجر السيدة الأربعينية يشير إلى «مقتل 80 من جيش النظام في غارات للتحالف على دير الزور»، وفي تفاصيله أن «قوات التحالف قصفت بالخطأ موقعًا لجيش النظام السوري؛ ما مهد لهجوم من جانب تنظيم داعش».
لا تفهم السيدة «همسة» أهداف «داعش» ولصالح مَن يعمل هو وبقية الفصائل المتناحرة على أراضي بلادها، لكنّ لديها إيمانًا كاملا، مثل والدها الذي هاجر بصحبة أولاده وأحفاده إلى مصر، بأن «الجميع تآمر على سوريا».
لا تعي «أم محمد»، الحاصلة على شهادة متوسطة، استراتيجية قوات التحالف أو أبعاد التدخل الروسي. لا يهمها، بعد توفير الطعام لأسرتها، سوى ابنها الكبير الذي تخلف عن السفر معهم، وظل عالقًا ببيروت؛ بسبب ثلاثة آلاف دولار لم يستطع توفيرها، حيث انسدت جميع الأبواب في وجهه هناك، ففضل العودة إلى بلده وتسليم نفسه إلى الجيش السوري.
لم تكن «همسة» تبكي في الحافلة خوفًا على مصير ابنها عندما علمت أن ثمانين من زملائه لقوا حتفهم. كانت تبكي قهرًا بسبب ما لاقاه «محمد» من عنت ومعاملة سيئة. قال لها في آخر مكالمة بينهما: «أنا عائد يا أمي.. ما عدت قادر أستحمل إهانات.. الموت أهون».
محمد، ابن السيدة همسة، لم يكن أمامه طريق سوى العودة لبلاده ومواجهة الموت، أما غيره من السوريين المقيمين بالقاهرة، ممن التقتهم «صوت الأمة»، جميعهم واجهوه بالفعل. غيّب الموت لهم قريبًا عزيزًا أو صديقًا حميمًا، فقرروا الثأر منه على طريقتهم الخاصة: جميعهم لا يبغون شيئًا من الحياة سوى «الحياة».
في شقة والد «همسة»، التي استأجرها عند مجيئه منذ أربع سنوات، استقبلنا صاحب الخمسة والسبعين عاما، بحفاوة. ننظر بفرح إلى علم مصر المعلق بحجم كبير على الحائط فوق رأسه، فيبادرنا: «صحيح.. مصر أم الدنيا».
يرفع «محمد بشير عبده» طرفي بنطاله، ويشير إلى بقايا الجروح التي خلفتها شظايا القنابل في جسده الواهن، وكأن الرجل العجوز يتبرأ من تهمة الهروب، فلم يعد له شيء في بلده بعدما تهدم منزله ومحل بقالته بمنطقة الغوطة الشرقية بدمشق العاصمة.
ابنته «همسة» أكدت على ذلك المعنى عندما حكت عن أيام صعبة، امتدت لستة شهور، كانت تبيت فيها على إحدى الطاولات بمصنع ملابس: «إحنا اتزنقنا بين طرفين (تقصد جيش النظام والجيش الحر) والاثنين بيحطوا علينا (تقصد الناس العاديين)»، فلم يكن هناك مفر سوى الرحيل.
يحتضن الجد «بشير» حفيدته «تُقى» ذات السنوات الخمس، يربت على شعرها وكأنه يستبشر خيرًا بالمستقبل، وفي الوقت ذاته هو فخور بماضيه وبأسرته الكبيرة: «أولادي وأحفادي هم دنياي. ربيت أبنائي على الطيبة والصدق وحسن المعاملة والأمانة ومخافة الله».
«بشير» لا يحب السياسة، ولا يحاول فهمها، ويراها «دنسًا»، لكن بصيرته تقوده إلى التسليم بأن جميع الأطراف تآمرت على بلده، مدفوعة بالشر، مؤمنًا بالمثل الشعبي: «عدو جدك ما يودك»، ومع ذلك، لا يزال لديه يقين بأن «الخير لم ينته بعد».
يرحب الجد بحفيده الذي يحمل اسمه، «بشير» ذي الخمسة عشرة سنة، الذي يتحدث بلكنة مصرية، وكأنه نشأ في حواري القاهرة.
يعشق الولد موسيقى «الراب»؛ ربما لإيقاعها السريع المناسب لتقلبات حياته القصيرة. تطلب منه عمته «همسة» أداء أغنية «سورية جنة» لمطرب الراب السوري «إسماعيل تمر»، فيسود الصمت للحظات قبل أن ينطلق صوته كصرخة: «ماشي بساحات الشام روحي بإيدي فوقي قناصة/ أنا إنسان حقي عيش ولك مو حقي رصاصة».
نلمحُ في عيني الجد لمعانًا، بينما يواصل حفيده أداء الأغنية بغضب مكتوم، وكأنه يختزل في صدره آهات جميع الثكالى والمكلومات: «شو يعني بدي افهم بس/ كيف سوري يقتل سوري والإسرائيلي بجولان دنس الورد جوري».
الحياة بألوان الشام في القاهرة
لا توجد إحصائية رسمية بشأن أعداد السوريين في مصر، ربما بسبب دخول عدد كبير منهم بطرق غير قانونية، لكن على أية حال، تشير أغلب التقديرات إلى أن عددهم يقترب من نصف مليون، تركوا وراءهم ملايين الحكايات المصبوغة بلون الموت، ليشكلوا ألوانا جديدة للحياة.
«مازن» شاب سوري كان يسكن في منطقة مخيم اليرموك بسوريا، قبل مجيئه القاهرة من ثلاث سنوات. يقيم الآن في «عين شمس» بصحبة زوجته وولديه، ويعمل في مطعم بالحي نفسه.
النسبة الأكبر من السوريين في مصر، تجدها في القاهرة والإسكندرية، ينتشرون في جميع الأحياء، لكنهم يبدون ككتلة كبيرة وواضحة في مناطق «6 أكتوبر، والعبور، والحرفيين»، أما طبقة رجال الأعمال منهم فتسكن «الرحاب ومدينتي».
اختار «مازن» مصر وجهةً له بعد أن سبقته إليها شقيقته وزوجها، مفضلا إياها على تركيا والأردن، أما لبنان فكان خيارا مستبعدا تماما بسبب غلاء المعيشة هناك، بالإضافة إلى سوء معاملة السوريين، حسب ما يؤكد الشاب السوري الذي كان يعمل معد برامج تليفزيونية ومؤلف مسرحيات.
يتأسى «مازن»، صاحب الـ38 عاما، على آخر مسرحية كتبها في العام 2009 بعدما منعت الرقابة السورية إخراجها. يبتسم بسخرية عندما يتذكر سبب المنع: «المسرحية كانت تحكي بشكل توثيقي عن الحقب التاريخية التي تعرضت خلالها هضبة الجولان للاحتلال، وطلبوا مني حذف ما يخص زمن الخلافة العثمانية، فرفضت».
لا يؤمن الشاب بالنظام السوري، لكنه يكفر أيضًا بالمعارضة، بجميع قوى المعارضة وأطيافها، ولن ينسى أبدًا تلك الطاولة في ذلك المطعم الفاخر الذي كان يعمل فيه بحي المهندسين. علم «مازن» أن المجتمعين حولها من مسؤولي النظام الحاكم، وفي اليوم التالي، وعلى الطاولة نفسها، كان عدد من ممثلي المعارضة يقتسمون فيما بينهم 23 مليون دولار.
يملك الشاب السوري حكايات كثيرة عن «داعش»، وكيف احتلت مدينة «تدمر» الأثرية. شاهدَ بنفسه أحداثًا دموية، وعاين مآسيَ يُهيِّجُ ذكرها العيون، لكنه يصر على ألا يحيد عن الطريق الذي اختاره: طريق الحياة.
تختلف ظروف «مازن» عن السيدة «همسة»؛ إذ يستطيع الأول توفير نفقات أسرته، وليس مضطرًا مثلها لطرق أبواب الجمعيات الأهلية، للحصول على دعم مادي أو بعض السلع غذائية، لكن الاثنان يتفقان على غياب أي دور لمفوضية شؤون اللاجئين العاملة بالقاهرة.
والاثنان، أيضا، وبرغم امتنانهما لما قدمته مصر، اشتكيا من البيروقراطية وأشياء أخرى يعاني منها المصريون قبل السوريين، مثل غياب المجانية عن خدمات كثيرة، كالعلاج في المستشفيات العامة، ودخول الحدائق والمتنزهات العامة والملاهي.
«مازن» اشتكى من مستوى التعليم الابتدائي ووصفه بأنه «أقل من المستوى»، وأكثر ما يزعجه هم المدرسون حاملو العصي و«الخراطيم»، فابنه في ثانية ابتدائي تعرض للضرب بـ«الخرطوم» لمجرد أنه أخرج «ساندوتش» من حقيبته، ويومه الدراسي ليس به «فُسحة».
يرى الشاب السوري أن أغلب المشاكل التي تواجهه في مصر، وراءها «الطمع»، فصاحب الشقة يدفعه طمعه لرفع إيجارها عندما يعلم أن المستأجر سوري، والمدرس يتجاهل العمل والشرح بـ«ضمير» في الحصة، ويلح على الدروس الخصوصية، طمعا في أموال ليست من حقه.
الخير لم ينته بعد
«مصر احتضنتنا وضللت علينا.. لينا أقارب فى بلدان أخرى عربية بدون ذكرها، بيتم معاملتهم كلاجئين وأحيانا كمتطفلين وفى بعض الأحيان كعبيد.. في مصر حسينا بآدميتنا وحسينا فعلا بمعنى كلمة (أم الدنيا)».
الفقرة السابقة «مجتزأة» من منشور لأحد السوريين، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، يحكي فيه صاحبه تجربته مع مصريين ساعدوه هو وأسرته الكبيرة على بدء مشروعهم الخاص.
كثيرة هي تلك القصص التي حكاها سوريون عن «شهامة المصريين»، ما يؤكد مقولة «الجد بشير": «الخير لم ينته بعد».
خالد عبد الرحمن، 65 سنة، يكاد يبكي وهو يتذكر كيف استقبله جيرانه المصريون عندما استلم شقته التي استأجرها في منطقة الهرم. يقسم الرجل أن الشقة امتلأت بالأثاث والأجهزة والطعام، خلال ساعات قليلة، بعدما كانت «على البلاط».
قبل الأحداث السورية بسنوات، كشف «عبد الرحمن» لزوجته عن أمنيته زيارة «النيل والأهرامات»، فاستنكرت عليه ذلك ومازحته: «يا رجل زُر الكعبة أولا». بمجرد أن تحقق حلمه ووطأت قدماه مطار القاهرة، سجد الرجل شكرا لله.
أسباب كثيرة وراء عشقه لمصر، أهمها أنها «الدولة العربية الوحيدة التي لم تُقِم للسوريين مخيمات».
«عبد الرحمن» أو «أبو محمد»، بعدما هرب من الموت بحمص في رحلة بها من الأحداث والمفارقات ما يملأ صفحات رواية كبيرة، يعمل الآن في ملهى ترفيهي للأطفال. يقف مسؤولا عن إحدى الألعاب، ينظر إلى الصغار بحب حقيقي، ويشملهم بعناية فائقة، وكأنه يرد الجميل للمصريين في أولادهم.
صاحب ملهى الأطفال سوري، هو وجميع من يعمل معه، ما يبرره «أبو محمد» بقوله: «الشعب السوري عطوف على بعضه»، بينما يعارضه زميله «سامر»، ويرى أن المسألة ليست «عطفًا» فقط، بل إن راتبه القليل (1600 جنيه شهريا)، لا يرضى به الشاب المصري.
أكثر المجالات المفتوحة أمام السوريين للعمل، تتمثل في محال الحلويات والمطاعم السورية، ومصانع الملابس ومحال الأزياء، وتكون أجورهم أعلى من أجور المصريين في المشروعات المماثلة لها، بينما تقل إذا ما اضطر السوري للعمل في مشروع يملكه مصري ويعمل به مصريون.
لم الشمل
كان صوت «سامر» يُعبِّر عن ضيق بشيء ما، ربما كان الأمر يتعلق بوضعيته الجديدة، فبعدما كان يعمل «مهندس ديكور» في بلده، أصبح الآن مراقبًا للأطفال وحارسًا لهم وهم يتقافزون على لعبة «اليويو»، لكن تبين لنا أن الأمر غير ذلك.
صاحب الأربعين عاما لم يكن ساخطًا على حياته، فهو، على الأقل، لا يزال يحيا طليقًا، لم يُقتل أو يُسجن، أو اضطر للتخفي في زي النساء، مثل غيره من أقرانه، ممن أجبرتهم ظروفهم على البقاء. فقط، يريدُ رؤية شقيقته. اشتاقَ إليها.
لم ير «سامر» شقيقته منذ خمس سنوات، فهي تعيش مع زوجها في ألمانيا، وبسبب الإجراءات المعقدة، فشلت أكثر من مرة في دخول مصر.
أبدى الرجل دهشته مما اعتبره «تعنتًا» من جانب السلطات المصرية مع السوريين المقيمين بالخارج، خاصة هؤلاء الذين لم يشهدوا «الأحداث»، وتساءل: «لو أن أحدًا كان يقيم في الإمارات، مثلا، منذ عشر سنوات، ماذا سيضيرك لو سمحت له بدخول بلدك ليرى أهله، بل سيفيد اقتصادك بما سينفقه على أقاربه المقيمين لديك».
بطبيعة الحالة، وجهة نظر «سامر» حول مسألة «لم الشمل» تُحترم، لكن مأساته الشخصية مع شقيقته لا تساوي شيئا أمام مآسٍ أخرى، ذكرها المحامي يوسف المطعني، المختص بشؤون السوريين بمصر.
إحدى تلك المآسي جاءت على لسان سيدة مصرية عجوز من الإسكندرية، عمرها 72 سنة، فوجئ بها «المطعني» في اتصال تليفوني، تهاجمه بعنف وتكيل له الشتائم، ظنًّا منها أنه مسؤول في الخارجية المصرية. هدّأ الرجل من روعها ووعدها بحل أزمتها إن استطاع إليها سبيلا.
السيدة العجوز كانت لها جارة سورية، مات عنها زوجها في السعودية، ومعها رضيعة لا يتجاوز عمرها ثلاثة شهور. الزوجة تريد الذهاب إلى المملكة لإنهاء مستحقات زوجها ولا تستطيع اصطحاب ابنتها معها، فاستأذنت جارتها أن تتركها لديها لمدة ثلاثة أيام فقط.
ذهبت السيدة السورية وكانت تأشيرات الدخول مفتوحة، وعند عودتها فوجئت بإلغائها، وظلت على تلك الحال، مُعلقة، لما يزيد على 70 يوما: لا هي تستطيع العودة لابنتها، ولا العجوز قادرة على إرسال طفلتها.
يقول «المطعني» إن «لم الشمل» تعد من أبرز قضايا السوريين المعقدة، ولا تُحل سوى بموافقة أمنية «شبه مستحيلة"، بدفع 3 آلاف دولار على جواز السفر الواحد، فيكون البديل التسلل بطريقة غير شرعية عبر الحدود الجنوبية مع السودان، ما يؤدي إلى مآس عديدة، خاصة أن رحلة التهريب تستمر لأكثر من 20 يوما من السودان، بين مدقات جبلية، حتى إن إحدى السيدات وضعت حملها أثناء تلك الرحلة.
بالإضافة إلى «لم الشمل»، فإن أغلب المشكلات القانونية التي تواجه السوريين، تكون نتيجة لدخولهم البلاد بدون «ختم» على وثيقة سفرهم، ومن ثم عدم حصولهم على «إقامة».
«المطعني» الذي يعمل على ملف السوريين في مصر منذ 5 سنوات، يؤكد أنه لا يبالغ إذا ما قال إنه يشهد كل يوم مأساة جديدة، آخرها وأكثرها تأثيرا في قلبه ما حدث لسيدة، كانت لديها ثلاثة أبناء، اثنان منهم اغتيلا، والثالث خرج معها إلى مصر، وحاول الهجرة إلى أوروبا عن طريق السلوم، فقُبض عليه ورُحِّل إلى سوريا ليُسجن هناك.
المحامي صاحب المبادئ، كان يبدو متأثرًا وهو يحكي عن تلك السيدة، بينما لم يخل الأمر من مقارنة، ليست في محلها تماما، بين أم: ابنها في سجن النظام، وأخرى: ابنها في جيش النظام.
لا محل للمقارنة إطلاقًا، هما وغيرهما من الثكالى والمكلومات، يعشن بقلب المتنبي عندما أنشد: «لا تحسبوا رقصي بينكم طربًا/ فالطير يرقص مذبوحًا من الألم».