صناعة الموت بقلم حسن البنا
الأحد، 25 ديسمبر 2016 03:53 م
تابع العالم في دهشة لقطات الفيديو الصاخبة لضابط الداخلية التركي وهو يقتل السفير الروسي في أنقرة علنًا، ثم يردد أناشيد تنظيم الإخوان فوق جثة القتيل، وقبل أن يستفيق العالم من دهشته بثت شبكة الإنترنت ثلاثة أفلام قصيرة مروعة عن الأب الذي قام بتلغيم ابنتيه دون العاشرة من أجل تفجير قسم للشرطة وسط العاصمة السورية دمشق.
لسنوات طويلة نجحت أمريكا في برمجة عقول النخب العربية عبر فكرة محددة طرحتها كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي وقتذاك، ألا وهي أن الإرهاب الديني هو نتاج قمع اجتماعي وسياسي وأمني، وأن إرهاب الإسلام السياسي هو نتاج المجتمعات التي انتجت هؤلاء بالفقر والجوع و المرض وغياب الحريات و سيادة القبضة الغليطة للأمن.
ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فكيف لأحد عناصر القبضة الأمنية الغليظة في تركيا، وهو ابن عائلة من الطبقات الغنية، أن يتحول إلى عنصر في جبهة النصرة، يغتال الضيف من ظهره علنا؟ وهل كان الملياردير السعودي أسامة بن لادن يعاني من القمع و الظلم الاجتماعي والفقر والجوع بينما الرجل كان يقضى إجازاته السنوية في أوروبا؟ و هل كان الطبيب أيمن الظواهري ابن واحدة من أشهر الأسر المصرية العاملة في القطاع الطبي الأكاديمي النخباوي، يعاني من الفقر و الجوع أو القبضة الأمنية؟ وإذا كان هنالك قبضة أمنية تصنع الإرهاب من الأساس؛ فكيف تنعم أسرته حتى اليوم باحترام المجتمع ويعمل منها العشرات في المستشفيات والجامعات؟
وإذا كانت دول الشرق الأوسط تصنع الإرهاب بأجوائها السياسية والأمنية والاجتماعية، إذن ماذا عن عشرات الشباب الأوروبي والأمريكي المسلم الذي عاش في مجتمعات مخملية رغداء ثم فجأة بدأ ينخرط في اعتداءات بلجيكا وفرنسا و ألمانيا وأمريكا، وصولا إلى ترك الآلاف من الشباب المسلم في أمريكا وأوروبا حياة الرفاهية والسفر إلى العراق وسوريا وليبيا من أجل الانضمام إلى تشكيلات التنظيمات الأصولية الإسلامية، رغم تمتعهم بكامل حقوق المواطنة من جنسية وتأمين وتوظيف وتعليم في بلادهم الأوروبية والأمريكية؟
هل تقمع الشرطة شعبها في لندن؟ أم أن هنالك انسداد طائفي في بروكسيل؟ هل هنالك غياب للحياة الحزبية في باريس؟ هل الحكم العسكري في برلين هو السبب؟ هل الدستور العقيم في جنيف هو المشكلة؟ أم أن غياب تداول السلطة في روما هو الأزمة؟ و ماذا عن الحياة البرلمانية في استكهولم؟
في واقع الأمر، إن الفكر الإرهابي هو برمجة فكرية حقيقية تحدث للإسلامي منذ الصغر، لا علاقة لها بالمجتمع و ظروفه بل لها علاقة مباشرة بالأسرة الإخوانية التي ينشأ بها، في بادئ الأمر وضع الشيخ المؤسس حسن البنا اللبنة الأولى لهذا الفكر عبر مقال بعنوان «صناعة الموت» نشر في مجلة النذير بتاريخ 26 سبتمبر 1936 ، حيث كتب قائلا: «أجل.. صناعة الموت؛ فالموت صناعةٌ من الصناعات؛ من الناس من يحسنها فيعرف كيف يموت الموتة الكريمة، وكيف يختار لموتته الميدان الشريف والوقت المناسب، فيبيع القطرة من دمه بأغلى أثمانها، ويربح بها ربحًا أعظم من كل ما يتصوَّر الناس، فيربح سعادة الحياة وثواب الآخرة، ولم تنتقص عن عمره ذرة، ولم يفقد من حياته يومًا واحدًا، ولم يستعجل بذلك أجلاً قد حدَّده الله».
ولكن، كيف يتم برمجة الإسلامي منذ صغره مهما كانت طبيعة المجتمع؟ يخطئ من يظن أن الانتماء في أسرة إسلامية عموما وإخوانية خصوصا، هو أمر طبيعي أو يعني أنك تنشأ بشكل فطري سليم كما يجري في كافة الأسر الأخري ، ففي واقع الأمر هنالك طقوس أخرى مخالفة تماما، للطبيعة التربوية التي ينشأ عليها الإنسان العادي، والمذهل أن أغلب أبناء التيارات المدنية لا تعرف هذه المعلومات عن أصدقائهم و رفقاء ميدانهم الإسلاميين.
ففي بادئ الأمر، هنالك منهج دراسي مستقل عن النظام التعليمي الخاص بالبلد التي تقيم بها الأسرة الإخوانية/ الإسلامية ، حيث لكل مرحلة عمرية الكتاب الخاص بها، مجموعة كتب الرشاد في تربية الأبناء للأطفال، المرحلة التالية لطلاب الإعدادية مجموعة كتب بعنوان «من مبادئ الإسلام»، مجموعة كتب «في رحاب الإسلام» لطلبة الثانوية العامة والجامعات، أما من التحق بالتنظيم في مرحلة ما بعد التعليم الجامعي يجب أن يدرس مجموعة كتب «في نور الإسلام».
ولكن، من يقوم بتدريس هذه المناهج و أين ومتي؟
يقول القيادي الإخواني على عبد الحليم محمود، في كتابه منهج «التربية عند الإخوان المسلمين»، وهو الدليل الذي لا غنى عنه للأسرة الإسلامية عموما والإخوانية، خصوصا أن هنالك سلسلة من الاجتماعات الأسرية، التي تعقد بشكل دورى بين الأسر الإخوانية كل حسب منطقته، وقد قسمها محمود الذي يصنف من ضمن أبرز علماء الأزهر في عصره بما يلي:
1. الأسرة: وهي تعتبر أصغر وحدة تنظيمية في الجماعة والمسئول عنها يسمى نقيب الأسرة، وفيها يدرس الأفراد مناهج تربوية وثقافية وسياسية مقررة من قبل الجماعة تهدف لتكوين شخصية الفرد المسلم وتصحيح ودراسة العقيدة وتوثيق الروابط بين أفرادها وزيادة التعارف والتفاهم والتكافل فيما بينهم ويكون لها لقاء أسبوعي.
2. الكتيبة: وهي تجمع أكبر من الأسرة وتضم عدة أسر ويلتقي أفرادها مرة شهريا ويبيتون هذه الليلة سويا، وتهدف الكتيبة إلي تنمية الجانب الروحي لدي الأفراد وتقوية صلتهم بالله عن طريق التنفل وقيام الليل وعقد المزيد من الترابط لدى عدد أكبر من الإخوان، وأيضا تهدف إلى تعويد الإخوان على الطاعة والانضباط ومجاهدة النفس والتزوّد بالعلم والمعرفة، وتعويد الإخوان على محاسبة أنفسهم بأنفسهم، ولذلك يوزع أمير الكتيبة كشفا لمحاسبة النفس على كل عضو.
3. الرحلة: هي وسيلة تربوية متممة للوسائل التربوية الأخرى، وهي مثل الكتيبة تغلب عليها التربية الجماعية، وفيها يتاح للمشاركين حرية في الحركة والتريض والتدرّب والصبر على بذل الجهد وتحمل الجوع والعطش، بمقدار لا تسمح به ظروف لقاء الأسرة ولا ظروف لقاء الكتيبة.
والأصل في الرحلة أن تكون لعدد من الأسر الإخوانية، وقد تكون لمجموعة من المنضمين انضماما عاما أو أخويا، والمكان الأفضل للرحلة يكون بعيدا عن شغب المدينة وخلوي، وأن يرتحل إليه صحروياً كان أو ريفياً، وقد تكون الرحلة للإخوان العاملين، أو لعائلات الإخوان، لزيادة التعارف والمودة مع مراعاة ألا يختلط الرجال بالنساء، أو رحلة لأبناء الإخوان، أو رحلة لبنات الإخوان، أو رحلة للدعاة من الإخوان.
4. المعسكر أو المخيم: تعد المعسكرات في تاريخ الجماعة امتدادا وتطبيقا لنظام الكشافة. بدأ استخدام هذه الوسيلة مع بداية نشأة الجماعة، وتهدف إلي التجميع والتربية والتدريب وإكساب الإخوان مهارات قيادية وجدية وتعويد المشاركين في المعسكر على ممارسة الحياة العسكرية الخشنة والصبر والالتزام، دعما لفكرة الجهاد في سبيل الله.
5. الدورة: وفيها يتجمع عدد غير قليل من الإخوان في مكان خاص لتلقي أنواع من المحاضرات والمدارسات والبحوث والتدريبات حول موضوع معين من المواضيع التي تتعلّق بالعمل الإسلامي، ومن خصائص الدورة، الدراسة المكثفة حول موضوع بعينه علمي أو تدريبي، والأساتذة المستعان بهم في الدورات يكونون علي أكبر قدر من الخبرة والتخصص في الموضوع المدروس، ويحدّد الموضوع بعد الحوار وتبادل وجهات النظر.
6. الندوة: وفيها يتم استضافة عدد من الخبراء والمختصين للإسهام في دراسة موضوع أو مشكلة، ولا يشترط أن يكون المدعوون أو المحاضرون من الإخوان، وهي وسيلة تربوية ثقافية فكرية، تزيد من الرصيد الثقافي عند السامع وتمكنه من الإلمام بأطراف مشكلة من المشكلات، والتعرف على أنسب الحلول لها.
لا يوجد إسلامي أو إخواني من أسرة إخوانية إلا وتربى لسنوات حتى فترة انتهاء الدراسة الجامعية على هذا الأسلوب، حيث يجتمون أسبوعيا أو شهريا، ويتم التعارف والجلسات الودية بجانب جلسات التعليم، ولاحق الخروج في رحلات مشتركة إلى مناطق نائية، حيث يتلقون تدريبات عنيفة تحت مسمى الكشافة علما بأنه برنامج تدريبي عسكري قتالي في المقام الأول خرج العشرات من عناصر روابط التشجيع الرياضية وفرق الكشافة الاخوانية، التي أدارات ميادين الثورة حتى لو لم يكن لهم الأغلبية في هذه الميادين، بالإضافة إلى القدرة على قيادة الجموع الحاشدة للتوريط في الاشتباكات كما فعل أبناء هذا التنظيم مرارا بطول وعرض ثورات الربيع العربي.
نحن أمام تنظيم أخوية كامل حقيقي لا مجازي، يتلقى فيه الفرد تدريب فكري وتربوي وقتالي منذ الصغر، يتم برمجته فكريا، مهما حاول الانسلاخ عن التنظيم ومهما كان صادقا في الانسلاخ، فإنه لا يوجد شيء اسمه إخواني أو إسلامي تائب أو انشق عن الجماعة الأصولية.
حتى لو أدمن الخمر وزيارات علب الليل، حتى لو انخرط في علاقة خارج إطار الزواج الرسمي مع صديقته أو حتى صديقه، أشهر «إلحاده» أو أعلن البيعة للعلمانية، في كافة الأحوال يبقى الأصولي أصوليا مهما فعل وحاول بعد هذا البرنامج التدريبي والبرمجة الفكرية.
هذه البرمجة هي السبب في التنسيق السريع والدائم والمتطور فيما بينهم على وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى في الحياة العامة حتى لو اختلفت جنسياتهم وأعمارهم، بل وحتى لو اختلفت المستويات المادية والطبقية والتعليمية التي ينتمون إليها.
لذا لا عجب وقت الجد، أن نرى طوابير العلمانيين والليبراليين والاشتراكيين والتنويريين من أصول إسلامية، يهرولون إلى «عصر اللمون»، إلى المرشح الإسلامي في انتخابات الرئاسة 2012، أو الدفاع عن بؤر إرهابية باستماته أو تبرير الإرهاب والادعاء أن هنالك جهات أخرى غير التنظيم الأصولي، هي التي تدبر العمل الإرهابي، ولا عجب أن نرى أشخاصا تربوا في أسر مخملية داخل مصر أو مجتمعات تسودها الرفاهية خارج مصر، قبل أن يقرر في لحظة معينة أن يؤدي واجب السمع والطاعة ويذبح كائن في العقد التاسع من عمره كما جرى في إحدى كنائس فرنسا صيف 2016.
أو أن يترك جنسيته الأمريكية أو وظيفته في أهم العواصم الأوروبية، ويهرول إلى هضاب الشام وصحاري العراق بحثا عن أبناء الكنائس المشرقية والطوائف المسلمة غير السنية من أجل سفك الدماء والرقص على جثث القتلى، مرددا أناشيد الطفولة الإخوانية.
أخر شيء في هذه المنظومة هو سلوك الدولة أو المجتمع الذي تربى فيه، هؤلاء مبرمجين فكريا وعقليا وتربويا، لهذا السلوك حتى لو انتسبوا لأهم عائلات العالم وعاشوا في أكثر دول العالم ثراء و تدثروا بأعظم الدساتير الحقوقية علي وجه الأرض.