جرائم الإخوان المنسية
الجمعة، 16 ديسمبر 2016 11:58 ص
يخطئ من يظن أن الحركة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب التي سميت لاحقًا «الحركة الوهابية» كانت منسجمة مع طبيعة المجتمعات العربية في شبه الجزيرة وقتذاك، ولكن العكس هو الصحيح، إذ كانت المجتمعات الخليجية قد قطعت شوطًا في التخلص من الحياة البدوية نحو الحياة العصرية بحسابات القرن الثامن عشر، بدء التحول للحياة المدنية المعاصرة أطلق عليه «بن عبد الوهاب» البدع والخرافات والبعد عن الدين والتوحيد كما قال في كتابه «كتاب التوحيد»، ونرى أن نفس هذا الفكر يطل برأسه اليوم من قبل التيار السلفي حيال كل ما هو عصري مهما كان متفقًا مع العلوم الدينية.
طُرد «بن عبد الوهاب» من الأحساء وكانت إمارة عصرية يحكمها بنو خالد شرق الجزيرة العربية، كما طُرد من ولاية البصرة العثمانية، حيث كان فكره غير مرحب به، بل حتى مسقط رأسه «العيينة» قام حاكمها بطرده -بناء على طلب حاكم الأحساء- إلى الدرعية حيث كان أجداد آل سعود يحكمون هذه المدينة الصغيرة الواقعة اليوم بالقرب من الرياض.
تحالف «بن عبد الوهاب» مع الشيخ محمد بن سعود الحاكم الأول للدولة السعودية الأولى، وهو مصطلح أُطلق على الدولة في كتب التاريخ لاحقًا لأنه أثناء الدولة السعودية الأولى والثانية كان يطلق عليهم «الوهابيون» فحسب في مصر والدولة العثمانية وفي الوثائق البريطانية وفي عموم شبه الجزيرة العربية.
«بن سعود» كان ينوي الإغارة على الدويلات الخليجية وقتذاك بعد أن أجرى أول اتصال مع بريطانيا، وأتى «بن عبد الوهاب» ليضفى العباءة الدينية على هذه الحملة، ولم تكن بريطانيا بعيدة عن هذا التحالف، كما رصد الكاتب البريطاني مارك كرتس في كتابه (Secret affairs: Britain’s Collusion with Radical Islam)، «العلاقات السرية.. التواطؤ البريطانى مع الإسلام الأصولي» نقلا عن الوثائق البريطانية.
يُعتبر الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو مؤسس الفكر السلفي الذى عاش حتى اليوم، وان كان المؤسس الأول هو أحمد بن حنبل، والمؤسس الثاني هو تقي الدين أحمد بن تيمية، ولكن الإرث الفكري لكليهما كان قد نُسي قبل أن يقوم «بن عبد الوهاب» وتلامذته بإحياء الفكر السلفي.
لم تدم الدولة السعودية الأولى ودخل الجيش المصري عاصمتها «الدرعية» وألقى القبض على حاكمها وأُرسل مكبلًا إلى القاهرة ثم إلى السلطان العثماني حيث جرى إعدامه، ولكن مجتمعات نجد والأحساء والحجاز لم تتأثر كثيرًا بالدعوة الوهابية عكس الكويت وقطر في هذا الزمن.
أما الدولة السعودية الثانية فقد شهدت اضطرابات عدة وانتهت بحرب أهلية بين الأمراء، ما سهّل على حكام إمارة حائل الشمريين غزوها وضربها.
وحتى مع تأسيس عبد العزيز آل سعود للدولة السعودية الثالثة لم تكن الوهابية قد استطاعت التغلغل في مجتمع الأحساء ونجد والحجاز، وكان لأهل الحجاز على سبيل المثال مطالب سياسية بدستور ومجلس برلماني على غرار ما ظفرت به مصر عقب ثورة 1919.
مع مجيء حقبة الخمسينيات من القرن العشرين كانت الوهابية قد تلقت هزيمة نكراء في الداخل السعودي بل في الدول الخليجية ذات الأغلبية السنية في قطر والكويت وما سمي لاحقًا «الإمارات العربية المتحدة»، وبدأت الأصوات الليبرالية المتأثرة بالحركة الليبرالية في مصر عقب ثورة 1919 وفي سوريا ولبنان عقب ثورات الجلاء بالإضافة إلى التيارات اليسارية الاشتراكية المتأثرة بالتيارات الشيوعية والبعثية ولاحقًا الناصرية ترفع صوتها، وبدأت شعبية الرئيس جمال عبد الناصر تتحول إلى مطالب حقوقية، الباحث السعودي عمر البشير الترابي في دراسة بعنوان «الإسلام السياسي في الخليج.. خطاب الأزمات والثورات» قال «إن وجود الإسلاميين فى الخليج فى النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين ضعيف جدًا، هكذا كان استقدام الإخوان للمملكة العربية السعودية تحديدًا هدفًا مهمًا للغاية حتى لو لم يتم اضطهادهم داخل جمهورية مصر العربية».
لم يكن آل سعود بعيدين عن عملية تأسيس تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، جنبًا إلى جنب مع بريطانيا الراعي الرسمي للحركة الوهابية والدول السعودية الثلاث، حيث أغدق السلطان -ثم الملك لاحقًا- عبد العزيز آل سعود على التنظيم الجديد بالمال والغطاء السياسي، رغم أن تنظيم الإخوان ومؤسسه الشيخ حسن البنا لم يكن سلفيًا على النمط الوهابي، وكتب مؤرخ الإخوان عباس السيسي في كتابه قائلًا «نظم الإخوان المسلمين لعبد العزيز آل سعود حينما زار مصر سنة 1945 عرضًا عسكريًا ضخمًا فىي القاهرة، ثم عرضًا عسكريًا آخر في الإسكندرية»، والقيادي الإخواني محمود عبد الحليم أشار فى كتابه «الإخوان المسلمين.. أحداث صنعت التاريخ» إلى أن السعودية فرضت أسماء إخوانية على وفدي السعودية واليمن إلى مؤتمر لندن في الأربعينيات.
وقد حاولت السعودية مرارًا تنبيه وإنقاذ البنا من اغتياله، القيادي الإخواني عبده الدسوقى في كتابه «في رحاب الحج .. الإمام البنا والحج للإخوان المسلمين» كتب أن البنا في رحلة الحج الأخيرة إلى الأراضي السعودية عام 1948 حظي بتوفير سيارات آمنة لموكبه من قبل الحكومة السعودية التي كانت تتشكك في محاولة لاغتياله على الأراضي السعودية، والباحث السعودي عبد الله بن بجاد العتيبي في دراسته بعنوان «الإخوان المسلمون والسعودية.. الهجرة والعلاقة» أشار إلى أن الحكومة السعودية حذرت البنا من العودة إلى مصر عقب موسم الحج عام 1948 وأن المعتقلات والمشانق في انتظارهم إلا أنه فضل العودة.
عقب اغتيال حسن البنا عام 1949 توارى التنظيم عن الأنظار قليلًا قبل أن يكون على رأس التحرك الأمريكي حيال الشرق الأوسط مع اشتعال الحرب الباردة، وتم تعيين حسن الهضيبي مرشدًا جديدًا عام 1951.
هكذا قررت السعودية ولاحقًا قطر والكويت وما يعرف اليوم بالإمارات العربية المتحدة استقبال الإخوان الهاربين من الأنظمة اليسارية والقومية العربية في مصر وسوريا والعراق، وكان الهدف هو ضرب المد الناصري والتواجد الليبرالي في المجتمع والجامعات خاصة بين الشباب، لا يوجد أفضل من الإخوان المثخنين بجراح اعتقالات 1954 في مصر لتخويف المجتمع السعودي مما أُطلق عليه «البطش الناصري اليساري الشيوعي الكافر».
مثلما صنعت إيران حزب الله من أجل اختراق لبنان ثم لاحقًا أصبح التنظيم أكبر من أن يعمل خارج البلاد وتم استدعاؤه للمشاركة مع الجيش الإيراني في الحرب العراقية الإيرانية «1980 – 1988»، ولاحقًا تم استدعاء ميلشيات «حزب الله» لقمع الشعب الإيراني في انتفاضة 2009، فإن السعودية رغم صناعتها تنظيم الإخوان إلا أنها قامت باستدعائه داخل المجتمعات الخليجية لوقف المد البعثي والقومي العربي والناصري واليساري، واتفق زعماء الإخوان مع حكام الخليج على تسلم المؤسسة التعليمية في الخليج بالكامل سواء المدارس أو الجامعات.
نكمل من دراسة الباحث السعودي عبد الله بن بجاد العتيبي قوله «مقارعة الحجة بالحجة الدينية فعل لا يقدر عليه جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن العناصر الإخوانية التي تم إطلاقها داخل المؤسسات التربوية السعودية قادرة على ذلك»، كما تسلم الإخوان عملية إدارة كل الجميعات الخيرية باعتبارها غطاء شرعيًا وقانونيًا لتحويلات مالية يرسلها العرش السعودي إلى الإخوان في دول أخرى.
الباحث السعودي منصور النقيدان في دراسته «الإخوان المسلمين في الإمارات.. التمدد والانحسار» يشير إلى أن أولى خطوات الإخوان عقب تسلمهم إدارات التعليم العام في أبوظبي ودبي كان إلغاء حصص الموسيقى وحاولوا مرارًا إلغاء حصص اللغة الإنجليزية.
في التشكيل الوزارى الأول لدولة الإمارات عقب تأسيسها، حصل الإخوان على مقعد وزاري، حيث أصبح «سعيد بن عبد الله سلمان» وزيرًا للإسكان، ثم تمت ترقيته في يوليو 1979 لكي يصبح وزيرًا للتربية والتعليم ورئيسًا لجامعة الإمارات، عام 1977 دخل إخواني آخر مجلس الوزراء هو «محمد بن عبد الرحمن البكر» وزيرًا للعدل والشئون الإسلامية والأوقاف.
الباحث البحريني غسان الشهابي في ورقته البحثية «الإخوان المسلمين في البحرين.. تحولات العقود السبعة» أشار إلى أن رأس حربة الحركة الوهابية والسلفية في البحرين كان تنظيم الإخوان الذي عمل على نشر الحجاب في البحرين والعباءة الخليجية لأن كليهما -بحسب الباحث البحريني المرموق- لم يكن منتشرًا في البحرين حتى أوائل الخمسينات، وبحسب الدراسة فإن العباءة الخليجية للمرأة لم تكن لها وجود في الكويت أيضًا قبل أن يبدأ الترويج لها على يد تنظيم الإخوان.
هكذا يمكن القول بأن تسلف المجتمع الخليجي بالشكل المتعارف عليه في القرن العشرين لم يتم إلا على يد أبناء تنظيم الإخوان المسلمين، رأس حربة الحركة الوهابية والحركات السلفية في شبه الجزيرة العربية، وأن السلفية والوهابية لم تكن لتستمران لولا الإخوان وأن كليهما مهما اختلف مع الإخوان فهو اختلاف على اقتسام الغنائم سياسيًا وليس المغانم نفسها، وأن السلفية والوهابية مجرد أقنعة وتنظيمات اخترقها الإخوان يوم ذهبوا للخليج وأصبحوا منذ فجر هذا التاريخ قوتها الضاربة.
وأتت آخر مراحل الاندماج وتمكين الوهابية فكريًا على يد الإخوان بظهور سيد قطب وتأسيسه لفكر السلفية الجهادية وتقديمه غطاء تنظيريًا وفكريًا لكل ديباجات القتل ورفع السلاح والعنف في الدعوة الوهابية، ما وفر للعروش الخليجية إطلاق موجات عنف لا تنتهي منذ بداية السبعينات وحتى اليوم.
وللأسف بعض مفكري اليسار المصري في إطار عملية الانتقام المنظم من سيرة الرئيس أنور السادات ينظرون إلى استدعاء تنظيم الإخوان من السعودية إلى مصر في السبعينيات باعتباره فتح الباب أمام أسلمة مصر، متناسين أن هزيمة اليسار العربي والقومية العربية في يونيو 1967 فتحت الباب أمام صعود الإسلام السياسي، وأن لتنظيم الإخوان في مصر دورًا لا يُستهان به في انتفاضة 1968.
وتناسي العلمانيون في مصر عمومًا واليسار خصوصًا أن الفكر الإسلامي المحافظ سدد ضربات كبري قبل السبعينيات في مصر بعقود، مثل دعوات التكفير التي صدرت من عمامات أزهرية بحق الشيخ علي عبد الرزاق على ضوء كتاب «الإسلام وأصول الحكم» عام 1925، ود. طه حسين على ضوء كتاب «في الشعر الجاهلي» عام 1926، ود. محمد حسين هيكل على ضوء كتاب «ثورة الأدب» عام 1933.
واتهامات التكفير التي طالت أبو الليبرالية المصرية د. أحمد لطفي السيد طيلة سنوات عمره، خاصة حينما ترشح لعضوية مجلس النواب في عشرينيات القرن العشرين، وتبرؤ الأسر من أبنائها العاملين في الحركة الفنية مطلع القرن العشرين، وحفلة التحرش الجماعي التي تعرضت لها الفنانة كاميليا عام 1951 وتمزيق ملابسها في قلب شوارع القاهرة، وصولًا إلى حلم عباس الأول حاكم مصر ما بين عامي 1848 و1854 بتدشين امبراطورية مصرية وهابية سعودية ما بين مصر وشبه الجزيرة العربية، وقام بتهريب عدد من أمراء آل سعود السجناء في السجون المصرية منذ حملات إبراهيم باشا، ما دعم الدولة السعودية الثانية وبث الروح في الدعوة الوهابية، ولم تكن بريطانيا بعيدة عن المشهد، إذ إن عباس الأول كان شديد التقارب مع لندن عكس والده محمد علي وعمه إبراهيم باشا.