كيف ماتت الصحافة المصرية ؟!

الأحد، 11 ديسمبر 2016 10:00 ص
كيف ماتت الصحافة المصرية ؟!
د . ناجح إبراهيم


جمع رئيس تحرير إحدي الصحف الخاصة محرريه الشباب في بداية الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية السابقة وقال لهم في حماس أشبه بمن يخاطب جنوده قبل المعركة:أريد منكم أن تنجزوا تحقيقات تفضح السلفيين وتسقطهم معنوياً وفي الانتخابات.
فقال له أحد المحررين الشباب:فإذا لم نجد مثل هذه الأشياء ماذا نفعل ؟ فقال له بنفس الحماسة:من لا يجد أي أخبار أو تحقيقات يفبرك أي شيء يصلح لذلك أو يستضيف خصومهم ليوسعوهم شتماً .
تعجبت كثيراً حينما حكي لي أحد شهود الواقعة قلت له: يمكنك أن تخاصم وتعادى سياسياً من شئت،ولكن أن تفترى عليه أو تدعي عليه زوراً وبهتاناً ما لم يفعله فهذا لا يجوز شرعاً ولا قانوناً،ويعد نوعاً من التردي المهني والأخلاقي,وإذا كان هذا يحدث مع السلفيين الذين لا يصطدمون مع الدولة فكيف بغيرهم؟!.
وقال لي صحفي شاب من الأقاليم أنه يرسل تحقيقاته إلي رئيس التحرير فيختار أفضلها وينشرها باسمه.
قلت له:لابد أنك غضبت وتركت الصحيفة! قال:لا،أنا راضً لأنه ليس لي خيار سوى ذلك,وراضً عن مرتبي الذي لا يقبله الفراش،كل ذلك من أجل أن يعطيني ورقة العتق من عبوديته والتحرر منها.
قلت له :ما هي هذه الورقة ؟ قال : ورقة دخولي النقابة.
وهناك صحيفة خاصة يملى صاحبها مانشيتات الصفحة الأولى باستمرار تليفونياً علي رئيس التحرير,وهذه الصحيفة مشهورة بأن معظم مانشيتاتها وعناوينها تفوق أبو لمعة المصري الذي أضحكنا ونحن صغار,ورئيس التحرير لا يعترض لأن "من يعترض ينطرد ومن ذاق عرف".
وفي سياق آخر ظلت صحيفة خاصة تبتز أحد الوزراء الذين يحرصون علي منصبهم أكثر من حرصهم علي الدين والقيم,وظلت تنشر المستندات التي تدل علي سريان الفساد في وزراته,حتي إذا تواصل النشر وتعمق تواصل الوزير مع رئيس التحرير الذي دخل معه في صفقة لصالحه الشخصي,ولما تحقق له ما أراد توقف النشر.
ومثل هذه التحقيقات تتم عن طريق المحررين الشباب حسني النية الغيورين علي بلادهم والذين يكرهون الفساد والذين يعملون بجد واجتهاد في مثل هذه التحقيقات دون أن يشعروا أنهم جزء من مدرسة ابتزاز كبرى لا دخل لهم بها ولا مصلحة لهم فيها,وأن نتاج جهدهم وحماستهم لا يصب في صالح الوطن ولكنه يصب في جيوب آخرين ويبقي الفساد كما هو.
والغريب أن مدرسة الابتزاز تعد مدرسة متجذرة في الصحافة المصرية ولها فرسانها المعروفين الذين لا يشق لهم غبار،وبعضهم يبتز لصالحه شخصياً,وبعضهم يبتز لصالح الجريدة مثلما يبتز وزراة غنية والوزرات الغنية معروفة من أجل أن تساهم في اعلانات الصحيفة بعدة ملايين فيكون نصيبه القانوني منها 20% و80% تذهب لصاحب الجريدة.
في إحدي الصحف المصرية كان رئيس التحرير يتقاضى منذ سنوات أكثر من ثلاثين ألف جنيهاً وكان هناك صحفيون صغار لا تجاوز مرتباتهم 600 جنيهاً وبعضهم لا يجاوز مائتى جنيه,أما المحرر الصغير النشيط فلا يجاوز مرتبه 1200 جنيهاً وهناك قاعدة لدى بعض مديري تحرير الصحف الخاصة "أنك لا تعطي المحرر أكثر من ألف جنيه حتي يلهث باستمرار خلفك".
وصدق أحد كبار الصحفيين بقوله:"مرتب الصحفي الشاب أقل من دخل أي حرفى"مع أن مرتبات الصحفي في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية من أعلى المرتبات.
بعض الصحف المصرية تحولت منذ ثلاث سنوات إلي صحافة أشبه بصحافة الاتحاد السوفيتي مثل"البرافدا"أي الحقيقة والغريب أنها طوال عمرها لم تنطق بالحقيقة أو تشبه صحافة الستينات او صحافة تعبئة تستهدف حشد الجماهير بالدعايات الغير دقيقة,وصحافة التعبئة قد تكون مقبولة نوعاً ما إذا كانت التعبئة تتم بناءً علي حقائق لا يمارى فيها أحد وليس فيها أي كذب،ولكن أن تبني التعبئة علي خلاف الحقيقة فهذه هي الكارثة.
لقد هللت الصحافة في الستينات لكل شيء حتي لو كان ضاراً بالوطن,هللت لإلغاء الأحزاب,ولقوانين الطوارئ,ولتعذيب الإخوان في السجن الحربي ولتأميم الصحافة.
والغريب أن بعض الصحف المصرية لا تعتذر عن أي خطأ وقعت فيه فأساءت إلي إنسان أو مؤسسة ما دام هذا الإنسان ضعيفاً أو ما دامت تلك المؤسسة لا تستطيع أن تؤذي الصحفي والصحافة.
فقد صدرت معظم الصحف القومية وبعض الخاصة تتهم حسن مالك بأنه وراء أزمة الدولار وأنه كان يخفي نصف مليار دولار وأوسعوه شتماً وسباً وتبعهم معظم الناس,ومر أكثر من عام على سجنه والدولار في ارتفاع وتزايد والمشكلة تتفاقم,ولم تقم هذه الصحف بتكذيب الخبر أو الاعتذار له ولأسرته,وكذلك المستشار جنينة الذي أوسعوه سباً وشتماً ثم إذا بهذه الصحف نفسها تنشر من قضايا الفساد ما يشيب لو الولدان,والأمثلة علي ذلك أكثر من أن تعد.
يضاف إلي ذلك أن معظم الأخبار والتقارير التي يتم تكذيبها ويشتم أصحابها في الصحف تثبت الأيام صحتها ودقتها,دون اعتذار أو تصحيح أو تريث أو حتى وضع كل الاحتمالات,ومذهبهم الاحتمال الواحد الذي يدرك الجميع خطؤه ورغم ذلك يتم الإصرار عليه.
ولعل أبرز نموذج علي ذلك الطائرة الروسة التي أصرت كل الصحف علي شتم أي تقرير فني يؤكد تفجيرها متهمة كل من يدعى ذلك بأنه خائن ومتآمر,مع أن أصغر خبير في مكافحة الارهاب يستنتج أنها تمت بانفجار قنبلة من داخلها.
كان عدد الصحفيين عام 2010 قرابة 2000 صحفياً قفز في عدة سنوات ليصل إلي 12 ألف صحفي,هذه القفزة الغير منطقية تدل علي أن بعضهم دخل عالم الصحافة بطرق ملتوية بعضها مجاملة,وأخرى للقرابة والوراثة,وثالثة بالتدليس والغش,وبعضها للتقارب الايدولوجي وزيادة الأنصار،المهم أن عدداً كبيراً من هؤلاء يفتقرون إلي المهنية والحرفية,ولذلك يتقدم أكثرهم إلي المسابقات الدولية فيرسبون.
فقد تقدم آلاف لمسابقة محررين صحفيين في MBC فرسبوا جميعاً رغم سهولة الامتحان,وتقدم عده آلاف للعمل كمترجمين في BBC فلم ينجح منهم إلا واحد فقط,لأن معظم هؤلاء نتاج تعليم ضعيف وتدريب أضعف وليس لديهم صبر علي التعلم والتدريب ولديهم عجلة في طلب المادة قبل كل شيء.
ليس هناك كاتب في الصحافة المصرية الآن يتلهف القراء والمثقفون علي قراءة مقاله أو عموده أو ينتظرونه أو لا يستطيعون إتمام يومهم دون قراءته إلا فيما ندر.
تأمل كيف كان الناس ينتظرون بريد الجمعة ليقرأوا لـ"مطاوع",أو أهرام الجمعة ليقرأوا بصراحة لهيكل,أو لأنيس منصور في عمود الجمعة بالأهرام أو مصطفي شردي في الوفد,قليلون جداً من ينتظر الناس مقالاتهم,فالأمية زادت,والحريات ضعفت,والكتاب الكبار لا تجدهم ،والمهنية غائبة.
لقد تحولت الصحافة من رسالة إلي سبوبة مثل الطب تماماً,فبعض الصحف القومية أشبه بالنشرات الحكومية,وبعض إصداراتها لا توزع ألف نسخة والمرتجع منها أكثر من المباع ورغم ذلك تصر هذه المؤسسات علي استمرار مسلسل الخسائر ما دامت من جيب دافعي الضرائب.
لقد كانت الأهرام الصحفية رقم 5 علي مستوي العالم في زمن من الأزمان فأين الآن الصحف المصرية مهنية ومصداقية وحرية,وإخراجاً فنياً وتوزيعاً من الصحف العالمية.
لقد جاء قرار زيادة أسعار طبع الصحف بنسبة 80%كالقشة التي قصمت ظهر بعير الصحافة الورقية,والحقيقة أن ظهرها كان مقصوماً من قبل بالأسباب التي ذكرتها مع أسباب أخرى يطول المقام لشرحها,الصحافة المصرية وخاصة الورقية كانت تعاني موتاً اكلينيكياً وجاء هذا القرار ليقتلها ويجهز عليها.
لا صحافة حرة في أجواء تفتقر للحرية,الصحافة بنت مجتمعها والمجتمع في أضعف حالاته فكيف ستكون قوية,الصحافة الأمريكية والبريطانية قوية لقوة مجتمعها وللحريات اللا محدودة فيه ,الحرية المسؤولة العاقلة هي البداية الحقيقية لانطلاق مجتمعاتنا نحو الإصلاح والتجديد،والبداية الحقيقية لصحافة مصرية رائعة ومتجددة وعصرية ومهنية.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق