الثيولوجيا العربية وتحولاتها.. من الاعتدال إلى العمل المسلح

الأحد، 27 نوفمبر 2016 04:03 م
الثيولوجيا العربية وتحولاتها.. من الاعتدال إلى العمل المسلح
حسن مشهور يكتب:

عند تأمل الحالة الدينية للمجتمع العربي –في شقها المنادي بالحاكمية- سنلحظ أنها مرت ولا تزال بأطوار من التحولات، مما يجعل عملية تناولها ومن ثم الحكم عليها شائكة إلى حد ما، لكن لا يملك المتأمل سوى محاولات العمل على رصدها وتأطيرها، الأمر الذي قد يفضي ذات يوم للحكم عليها بمنظور هو الأكثر عقلانية وبحياد تام.

حقيقة قد يكون اعتقاد الراديكالية السياسية العربية؛ بأن الأحزاب الفاعلة على المشهد البوليتكالي قد أضحت غير قادرة على إدارة العمل السياسي، وبلغت درجة من الضعف في أدائها؛ هو ما جعل هؤلاء الأصوليين يسارعون لامتهان العمل السياسي سعيًا للوصول للسلطة وإقامة دولة الخلافة، التي ينظر إليها هؤلاء الحركيون بأنها ستكون إيذانًا بعودة الحضارة الإسلامية التي غمرت العالم في فترة زمنية من التاريخ.

إن المتأمل لتحولات الجماعات الدينية للعمل السياسي يدرك أن ذلك قد تم في فترة مبكرة من تاريخنا الحديث، وعندما جرى حظر بعضها كجماعة «الإخوان المسلمين» – على سبيل المثال - في مصر، فإنها لم تمتثل لهذا الأمر بل سارعت لتصفية خصومها السياسيين كما جرى في حادثة اغتيال محمود فهمي النقراشي رئيس وزراء مصر في ديسمبر من عام 1948م.

وحتى عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952م، فإن الجماعة ما إن أدركت بأن هناك محاولات لإقصائها عن المشهد السياسي مجددًا؛ حتى سعت لاغتيال رئيس وزراء مصر -آنذاك- الراحل جمال عبدالناصر في منشية البكري في أكتوبر 1954م، إلا أن تلك المحاولة التي منيت بالفشل قد نتج عنها عملية تصفية سياسية طالت الجماعة وأعاقت مدها الثيولوجي السياسي إلى حين.

لكن ما إن حلت الستينيات حتى كانت الجماعة قد استعادت عافيتها وجربت العودة للعمل في الظل وخططت لتوجيه ضربة موجعة للسلطة، إلا أن السلطات المصرية قد أجهضت ذلك عبر حركة استباقية في عام 1965م، تمخض عنها تفكيك الجناح المسلح للجماعة وإعدام مفكرها، وزج الكثير من أعضاء التنظيم في المعتقلات، في حين قرر البعض الهجرة للدول الخليجية والعربية، ولاحقًا سعى لنشر فكرة إسلاموية الفعل السياسي هناك.

في أواخر الستينيات كان العالم العربي يمر بمرحلة تفاعلية اجتماعية تعمل بالاتجاه المعاكس للدين ولا تتفق مع الثيولوجيا الدينية بأي شكل من الأشكال، وأعني بذلك حركة «المد الشيوعي» الذي طال العالم العربي، حيث جذبت أطروحة «ماركس» وأفكاره عن الثورة الأممية الكثير من المواطنين العرب وأغرتهم باتباعه.

كما كان هنالك أيضا الوجود الفاعل لبعض التيارات الفلسفية والاجتماعية على الساحة العربية، كالمذهب الوجودي الذي مهد لظهوره عربيًا الدكتور عبدالرحمن بدوي في سِفْره العلمي الشهير «الزمن الوجودي»؛ وكذلك الحضور القوي لتيار الهيبية الإنجليزية الذي أصبح تقليعة عمت العالم وأغرت الكثير من الشباب بتقليده.

هذه التيارات الحضارية الغربية الجاذبة لشبابنا وهذا المد الأوروبي المُسْتَعرِب، بالإضافة لحالة الصدامية القائمة بين الإسلامويين المتطرفين والأنظمة القائمة -آنذاك- قد جعل من شباب الأمة العربية يشعرون بالعزوف عن كل ماهو إسلاموي بمسحة ظلامية تكفيرية، ويعيشون حالة هي أبعد ما تكون عن التفكير بالدين أو التمظهر في شكلانيته التي كان أبرز ملامحها -آنذاك- إطلاق اللحية وتقصير «الجلابية» وارتداؤها.

لكن ما إن قارب عقد الثمانينيات على الحلول حتى عادت تيارات الإسلام السياسي للتشكل وللعمل الميداني من جديد، الأمر الذي تمخض عنه حدثان رئيسيان كانت لهما دلالتهما ويعطيانا تصورًا جديًا عن مدى القوة والنفوذ الذي وصلت إليه جماعات الإسلام السياسي آنذاك، أحدهما كان اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات على يد جماعة خالد الإسلامبولي في حادثة المنصة الشهيرة، والآخر حادثة احتلال المسجد الحرام من قبل جماعة «جهيمان العتيبي» في المملكة العربية السعودية.

وعلى الرغم من قدرة الحكومات العربية في مصر والسعودية على احتواء تداعيات هذين الحدثين، إلا أنها قد دخلت في سلسلة طويلة من حالات الشد والجذب لم ينقذها منه إلا فكرة فتح آفاق أخرى لهذه الجماعات وإشغالها بجهادية أخرى تصب فيها تطرفها وصداميتها ونزعتها الدموية ورغبتها في إلحاق الأذى بالآخر.

فأُخْرِجَ للعالم سيناريو جهادي جديد عُنون بـ«الجهاد الأفغاني» وكان أبرز رموزه عبدالله عزام وأسامة بن لادن، إلا أن حلقاته لم تطل، إذ ما إن أعلن المعسكر الشرقي عن عزمه الانسحاب من أفغانستان حتى قررت هذه الجماعات الإسلاموية العودة لأوطانها واستكمال مسلسلها الجهادي هناك، فشهدت مصر سلسلة من العمليات الإرهابية في التسعينيات، كان من أبرزها محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق مبارك في أديس أبابا، وعملية استهداف السياح في الأقصر، وكذلك سلسلة الصدامات المسلحة بين السلطة في السعودية والحركيين في الفترة الممتدة بين عامي 2000 – 2007م.

وإن المحرك القوي الذي ظل يشكل حافزًا لعرّابي الإسلام السياسي ويغريهم بمواصلة العمليات الإرهابية ضد الأنظمة القائمة – في تقديري- هو اعتقادهم الجاد بأنهم إذا ما وصلوا للسلطة فإنهم سيحققون حلم الدولة الإسلامية وسيملأون الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورًا.

مع قدوم العقد الثاني من الألفية الميلادية الجديدة، شاء الله أن تحقق أمنية جماعات العمل الديني السياسي بوصولهم للسلطة في مصر، وتحديدًا عقب ثورة 25 يناير 2011م، فكيف كانت النتيجة؟.

حقيقةً فإن أبسط المراقبين يشهد بأن أداءهم كان مخيبًا للآمال، فقد تم توزيع الحقائب الوزارية السيادية بين رموز التيار الإخواني، ومُنحت الوظائف التنفيذية في المؤسسات والشركات الرسمية لأفراد ينضوون تحت لواء التيار كذلك، كما أن المؤسسة السياسية الرسمية التي كان جلها من رموز العمل الديني السياسي الإخواني قد دخلت في خلافات مع باقي القوى السياسية في البلد، وكذلك في خلافات مع بعض الدول العربية المجاورة، الأمر الذي أفقدها حضورها الوطني وجعل الجميع يتوجس من تفاعلاتها الثنائية معه، فكان ذلك إيذانًا بفشل الإسلام السياسي في إدارة شئون البلاد والعباد وعجل بقيام ثورة مضادة في الثلاثين من يونيو 2013م، أعادت السلطة من يد الجماعة ليد الشعب.

وحاليًا، يبدو جليًا أن المواطن العربي بشكل عام قد وصل إلى قناعة مفادها أن هذه الجماعات والأحزاب الإسلاموية ينبغي أن تحصر عملها في العمل الدعوي فقط وألا تقارب العمل السياسي مجددًا، لخيرها ولخير الأمة العربية والإسلامية بالمجمل.

[email protected]

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق