أغرب عملية «انتحار جماعي» في التاريخ
الجمعة، 25 نوفمبر 2016 12:38 م
انتشرت أنباء عن أغرب حادثة انتحار جماعي في التاريخ، في 18 نوفمبر 1978، داخل مدينة «جونز تاون»، بالقُرب من غيانا، بالقرب من سواحل أمريكا الجنوبية.
حيثُ قالت نشرات الأخبار إن 900 شخص توفوا، عقب تناول السم اختياريًا، بعدما أقنعهم أحد الأشخاص أنهُ المسيح المُنتظر، لذا من الأفضل أن يموتوا بدلًا من الحياة، فكانَ كما قالت نازك الملائكة في ديوانها: «يوتوبيا حُلمٌ في دمي أموتُ وأحيا على ذكره».
بدأت القصة من نُقطة بعيدة، عنوانها من حرّض هؤلاء الأشخاص على الانتحار، وهو الزعيم الديني، «جيم جونز».
ولد جونز عام 1931، داخل ولاية «إنديانا»، والده جيمس ثورمان جونز كان محاربًا في الحرب العالمية الأولى، وأحد ضحاياها، أما والدته فهي ليناتا جونز كانت امرأة مستقلة، وفي طفولته لم يلقَ جونز الرعاية من والديه، فوالدته كانت منشغلة في العمل، وقد قال لرعيته ذات مرة إنه لم يحصل على الحب، وإنه لا يعرف ما هو جحيم الحب.
كان بنظر الحي الذي يسكن به في ولاية «إنديانا» الطفل المؤذي والمزعج، والذي يُحب دائمًا أن يرتدي ثوب الواعظ الديني، حيثُ بدأ جونز حياة الوعظ الديني منذ صغره، فقد كان يقدم خطبًا دينية في المدرسة، وحسب وصف زملائه فقد كان واثقًا من نفسه على خشبة المسرح.
تخرج في المدرسة الثانوية، وكان مهتمًا في الطب. وحين كان يعمل بالمستشفى التقى زوجته، «مارسلين بالدوين»، وهي طالبة تمريض تزوجها عام 1949م، ودرس كطالب قس في الكنيسة الميثودية عام 1952، لكنه أراد أن يؤسس كنيسته الخاصة، كما جاء في الحلقة الوثائقية، «ما قبل الكارثة حادث الانتحار الجماعي في جونز تاون».
ومُتتبعًا حلم إنشاء الكنيسة الخاصة، أسس جونز «معبد الشعوب»، في عام 1956 داخل ولايته، واتبعت الكنيسة التعاليم البروتستانتية عام 1960، وتم تعيين جونز عام 1964 الأب الروحي لها، سادت العنصرية في الولايات المتحدة، وهو ما كان يزعج جونز، حيث التفرقة العنصرية حتى في الكنائس، فقد دعا لنبذ العنصرية والمساواة، وكان مع الفقراء والمضطهدين، خاصة من السود، كان يرى أن عائلته تمثّل قوس قزح، فقد تبنى وزوجته طفلًا أسود وآخر أبيض وثلاثة أطفال كوريين.
ونظرًا لاختلافه عمن حوله، خشى منه المقيمون في نفس المدينة، لذا تعرض للاعتداء والبصق من المارة في شوارع المدينة، كما وصلت رسائل تهديد له شخصيًا.
وفي عام 1965، قرر جونز أن يقيم مدينته المثالية، وينقل أتباعه إلى شمال كاليفورنيا، حيثُ كان قادرًا هناك على جذب المزيد من الأتباع، ممن لا يعرفون عنه شيئًا، وبالفعل حظى على احترام السياسيين الليبراليين في سان فرانسيسكو، كما بشّر جونز بالشيوعية في سياق المسيحية، ودعا إلى مجتمع متماسك على استعداد للتضحية من أجل الصالح العام، وجذب الأعضاء عبر وعود المعجزات كعلاج السرطان والعمى، ويقال إنه استخدم أسلوب الترهيب والإذلال والعزلة والتجسس وغسيل الدماغ.
لقد كانت أعوام الستينيات والسبعينيات مسرحًا لدعاة التحرر والانعتاق من كل دين أو ضابط، مما أدّى لظهور عشرات الطوائف الدينية الجديدة، كان معظم أعضاء هذه الحركات الدينية الجديدة من المراهقين والشباب البيض.
في عام 1974، بدأ جونز بتحركه لنقل أتباعه إلى «غيانا» وهي دولة اشتراكية في أمريكا الجنوبية، وأخذ معهُ أكثر من 1100 شخص من أتباعه إلى مشروع مدينة هُناك، سُميت بـ «جونز تاون»، وهُناك بدأت تصرفات جونز تصبح أكثر قسوة، فقد فرّق العائلات، وأجبر الأتباع على العمل اليدوي لساعات طويلة، واستمر بالتحقيق معهم وعزلهم عن العالم الخارجي، فأخبرهم بأن هناك انتشارًا للعنف والفوضى في أمريكا.
وكان يُفترض بهذه المستوطنة أن تكون «المدينة المثالية» أو «جنّة الله على أرضه» كما يسمّونها، ولكن كان كلّ من يصل إلى هناك يصاب بإحباط شديد وصدمة كبيرة لأنه لم يجد ما كان يتوقّعه، لقد كانت البيوت الخشبية الصغيرة التي تمّ بناؤها هناك لا تكفي لاستيعاب العدد الكبير من الوافدين، مما أدّى إلى تكدّسها لدرجة أنه كان ينام عشرات الأشخاص في غرفة ضيّقة لا تسع أكثر من اثنين، كما أن الفصل بين الجنسين كان مطبّقًا هناك لذلك كان يجبر الأزواج على الافتراق وكلّ منهم ينام على حدة.
وكانت الحرارة والرطوبة الكبيرة لا تُحتمل، مما أدّى لإصابة الكثيرين بأمراض خطيرة، كما أن معظمهم كانوا يُجبرون على العمل الشاقّ في الحرارة الشديدة أحيانًا لـ16 ساعة في اليوم دون انقطاع.
وفي البداية فقط، يحاول مساعدة الضعفاء والفقراء، لكنه خلف تلك الصورة، التى روجها على أنه الزعيم المحبوب وداعية الحبّ والسلام وصديق الفقراء والمساكين، كان يختبئ رجل مضطرب نفسيًّا يتراءى له أنّه المسيح بشحمه ولحمه، تارة يدّعي أنهّ فلاديمير لينين وتارة أخرى أنّه «نبيّ صدّيق».
وفي عام 1977، توجّه عضو الكونجرس الأمريكي، ليو رايان، مع صحفيين وأقارب أعضاء المعبد إلى جونز تاون، وبعد 3 أيام التقى بجونز وأتباعه، والذين عبّر بعضهم عن رغبتهم بترك المعبد، وبالفعل رتّب رايان الأمور لسفر 17 من الأتباع المنشقين إلى الولايات المتحدة، بينما كانت المجموعة تستعد للسفر مع عضو الكونجرس هاجمتهم جماعة مسلحة وأطلقت عليهم النار، ما أدى لمقتل رايان وثلاثة صحفيين وأحد الأتباع السابقين.
وحين ذاعت أخبار مقتل عضو الكونجرس، سارع جونز لإلقاء كلمته الختامية أمام رعيته، وأخبرهم بأن طائرة عضو الكونجرس كانت على وشك التحطم، وأن ذلك قد ينبّه الحكومة الأمريكية عن مكانهم، ما قد يشكل تهديدًا على حياتهم، كما أقنعهم بأن الجيش الأمريكي سيقصف مكانهم ويعذبهم، وقال إن الوقت قد حان للانتحار الثوري، حينها توسلت سيدة تُدعى كريستين ميللر لجونز بألا يفعلها، لكن الجموع هتفت ضدها.
وفي تمام الساعة الخامسة مساءً من الثامن عشر من نوفمبر عام 1978، وزع جونز مشروبات الفاكهة المسممة بالسيانيد، وقد سمم الأهالي أبناءهم الرضع والأطفال، ومن ثم أقدموا على تسميم أنفسهم تحت تهديد السلاح، ومن كان يفكّر بمخالفة الأوامر فسيواجه عقابًا شديدًا.
«لم يملكوا حياة، فملكوا موتًا»، كان هؤلاء المُنتحرين مثل مقولة الشاعر اللبناني، وديع سعادة، فبعد ساعات غص المكان بجثث المنتحرين من الأطفال والنساء والرجال.
وبينما تتعالى صرخات الأطفال الذين لم تحتمل أجسادهم النحيلة هذا الألم الكبير، وبينما يتلوى الكبار على الأرض يمينًا ويسارًا، كان جيم لا يزال يخطب بالناس ويحثهم على الانتحار من أجل الراحة والتخلص من هذا العالم، ولم يُلقِ بالًا لكل الألم الذي أحدثه لمن حوله.