وداعا للباحث عن الجمال في اللغة والحياة «فاروق شوشة».. استخدم الإعلام منصة إبداعية.. وانحاز للشعر العموي وسخر من دعاة القطيعة الشعرية للموروث
الجمعة، 14 أكتوبر 2016 11:22 ص
بوفاة الشاعر الكبير فاروق شوشة فجر اليوم الجمعة، عن عمر يناهز الـ80 عاما، يحق للشعر أن يبكي أحد مبدعيه الكبار، ويحق للغة أن تنتحب لرحيل «صاحب لغتنا الجميلة».
وعندما فاز هذا العام بأهم جائزة ثقافية مصرية في الآداب وهي "جائزة النيل" قيل بحق إن الجائزة الكبرى عرفت طريقها لمبدع حلق في سماء الإبداع المصري والعربي، على مدى أكثر من نصف قرن فيما تكشف الجولة المتمعنة في مسيرته الثرية عن رؤى هامة في قضايا الشعر واللغة والنقد ونظرات متبصرة في سياقات التاريخ الثقافي وولع بالجمال يقابله عداء طبيعي للقبح.
وفاروق شوشة بصوته العذب الحنون هو أيضا الإعلامي المتفرد، الذي استخدم الإعلام كمنصة إبداعية لصالح «اللغة الجميلة»" وكأنه الضوء الجميل ينساب بين الناس مبشرا بالجمال ومدافعا عن كبرياء القصيدة بقدر مايبحث دوما عن "الجمال في الانسان والطبيعة والفن والحياة".
وواقع الحال أن أي جولة متمهلة بعض الشيء في عالم فاروق شوشة، الذي سيبقى متوهجا رغم رحيله عن الحياة الدنيا، كفيلة بمتع ولذائذ متنوعة ومتعددة فضلا عن كثير من الدروس والقيم وفي مقدمتها قيمة الاخلاص للاإداع والإخلاص كإعلامي للوطن والشعب.
وابن «قرية الشعراء» في محافظة دمياط كان من المؤمنين بأهمية الدور الثقافي المصري في المحيط الإقليمي، وعلى امتداد الأمة العربية والناطقين بلغة الضاد ومن ثم ففاروق شوشة هو صاحب الدعوة المخلصة لاستعادة مجد مصر الثقافي والابداعي.
وإذ تتحرك مصر لتحقيق "العدالة الثقافية" فإن فاروق شوشة، عرف كأحد أبرز المثقفين الذين سعوا لطرح وتطوير مبادرات تستهدف مواجهة "حالة الحرمان والتهميش الثقافي" في بعض المناطق خاصة بالريف وتجسير الفجوة بين الرؤى النظرية والمستويات الأدائية مع عدم الانفصال واقعيا عن السياقات الاجتماعية والثقافية.
و طرح الإذاعي والشاعر الكبير فاروق شوشة قبل فترة من وفاته فكرة جديدة هي: «أكشاك الثقافة» التي ينبغي أن تقام في كل قرية ونجع لتلبي الاحتياجات الثقافية لملايين المصريين موضحا أن هذه «الأكشاك» يمكن أن تكون في صورة مكتبات متنقلة وتقدم أيضا عروضا سينمائية ومسرحية وانشطة فنية موسيقية وغنائية.
وفي هذا السياق قال فاروق شوشة: "آن الأوان لكي نحلم بثقافة تمشي على الأرض، تلامس الواقع وتشتبك معه بدلا من ثقافة المزاعم والرؤى والتصورات التي تندثر عادة بالكلمات الكبيرة البراقة"، معتبرا أن الواقع على مستوى الاحتياجات والإمكانيات يتطلب "ثقافة تمشي على قدمين ولا تحلق في الهواء" وهي "ثقافة مغروزة في طين مصر الذي يعيش فيه وعليه الملايين من ابناء الوطن في القرى والعزب والكفور والنجوع".
وفاروق شوشة صاحب "أحلى 20 قصيدة حب" ولد في مطلع عام 1936 بقرية الشعراء بمحافظة دمياط ودرس بمدارس هذه المحافظة الواقعة بدلتا مصر حتى نهاية المرحلة الثانوية ليلتحق بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة ويتخرج منها عام 1956 ونال في العام التالي دبلوم من كلية التربية بجامعة عين شمس فيما التحق بالإذاعة المصرية عام 1958 حتى اصبح رئيسا لها عام 1994.
وفي الإبداع الشعري يقول فاروق شوشة انه يترك نفسه على سجيتها ومايأتيه يلتقطه ويحرص على الا يضيع "لأنه كالبرق الخاطف "الذي يفاجئه في الطريق أو في العمل وإذا لم يسرع إلى التقاطه ينتهي بلا عودة. فيما رأى ان "لكل مرحلة من العمر تجلياتها وأسلوب الاستجابة لها ومايناسبها من الكلام".
ولئن بقى اسم الشاعر والإعلامي الكبير فاروق شوشة مقترنا بأروع واشهر البرامج الإذاعية والتليفزيونية ذات المضمون الثقافي وفي طليعتها "لغتنا الجميلة" و"أمسية ثقافية" فانه شغل خلال مسيرته الثرية مناصب هامة في الأبنية والكيانات الثقافية المصرية من بينها رئيس اتحاد كتاب مصر ورئيس جمعية المؤلفين والملحنين كما شغل منصب الأمين العام لمجمع اللغة العربية في القاهرة والمعروف "بمجمع الخالدين".
وهذا الشاعر المغرد بكل ما هو جميل والذي قام أيضا تدريس الأدب العربي بالجامعة الأمريكية في القاهرة دفعته غيرته على جماليات الشعر العربي للمطالبة "بطرد البغاث وكل الهوام من الساحة الشعرية" دون ان يعني ذلك اغفاله لضرورة وسنن التطور بحكم متغيرات الزمن و"المخاض الابداعي المتجدد".
وهكذا أقر فاروق شوشة في كتاباته وحواراته بأن حركة الشعر الجديد هزت القصيدة العمودية بعنف معتبرا ان "شعر التفعيلة فتح بابا لقصيدة النثر التي جاءت كرد فعل لعدم احكام الكثير من نماذج الشعر الحر" مضيفا: "اصبحنا نرى الكثير من مطولات الشعر الحر وقد فقدت معالمها كقصائد ولم تعد لها بدايات ونهايات اي انها تخلت عن فكرة الاحكام الفني الذي يضبط كل شييء بميزان شديد الدقة".
ومن هنا نزع فاروق شوشة "شرعية الشعر عن قصيدة النثر لأنها تخلت عن الموسيقية في الشعر " موضحا ان "الخيط الأساسي في اي بناء شعري هو خيط موسيقي" وهو كما يقول "لايضاف ولكن به يولد الكلام الشعري كما انه جزء من تكوين القصيدة وحاضر في جيناتها".
رأى فاروق شوشة أنه بدون "هذه الجينات الموسيقية في العمل الشعري لايكون الشعر شعرا" فانه اوضح ان من يبدعون قصيدة النثر وخاصة في الجيل الرائد امثال محمد الماغوظ وانسي الحاج او ادونيس "كتبوا لنا كلاما جميلا نستمتع به على انه ابداع جميل باللغة في صورتها النثرية عندما يصبح النثر عملا فنيا جميلا" غير ان هذا الجمال الذي قد يفوق احيانا الكثير من الابداعات الشعرية المتعارف عليها لايعني اضفاء صفة القصيدة الشاعرة على النثر مهما بلغ جماله.
وتجلى حنين فاروق شوشة وانحيازه للشعر العمودي في كلمات تنساب بصدق:"احس ان هناك جيشانا في داخلي يطمح إلى كبرياء القصيدة العمودية واسميه كبرياء لأن القصيدة العمودية في وجداني كانت تعني الشموخ والهيبة والكبرياء والسلطة الشعرية والأحكام".
وأضاف فاروق:"الآن لا أجد هذه الأشياء التي كانت تجعلني استشعر الزهو، هذا هو شعر أمتي، هذا هو إبداع لغتي وليس هذه الكتابات المهمشة التي يوحي إلي الكثير منها أنها مترجمة وأنها خلت من الوتر أو خيط الأمومة الشعري الذي لا يرى والذي يربط الشعر الراهن بأبيه وجده".
وبلهجة لا تخلو من سخرية حيال الدعوات المفرطة لما يسمى بالقطيعة الشعرية مع الماضي والموروث قال فاروق شوشة:"الذين يتكلمون عن قطيعة شعرية واهمون" فيما يتساءل:"قطيعة مع ماذا؟!..ماذا صنعت ليكون لك قطيعة معه؟!..انت تتمرد على اللغة فما هي اللغة التي امتسبتها لتتمرد عليها ؟! أنت تريد أن تفجر وتهشم فمال الذي بين يديك؟!..ماهو الموروث الشعري الذي تعرفت على جمالياته؟!".
وإذا كان من المسلم ب هان "الابن غير الأب وغير الجد" ولابد وان يكون الأمر هكذا بحكم سنن التطور ومتغيرات الزمن فان فاروق شوشة يدعو للتطور من خلال الشجرة الشعرية العربية وتمثل واستيعاب أصولها وجمالياتها وتجلياتها".
وفي الوقت ذاته كان فاروق شوشة يؤكد دوما على "اهمية التواصل بين المبدعين الحقيقيين" و"قراءة الآخر" ومن ثم "معرفة الآخر" مشددا على ان الشعراء الشباب الذين يمتلكون ادوات الابداع الحقيقي بما في ذلك القدرة الواثقة في كتابة القصيدة العمودية "يشكلون مصدر الخطورة على هؤلاء الذين لايملكون لغتهم".
كما اعتبر الشاعر الكبير فاروق شوشة هذا الفصيل من الشعراء الشباب الذين عرفوا لغتهم وجمالياتها بمثابة الدليل على امكانية التطور من داخل الشجرة الشعرية العربية الأصيلة "فهم يقدمون الكيمياء الشعرية الجديدة في بناء شعري راسخ اعتادته ذائقة الناس".
ولأنه عاشق كبير للغة العربية فالشعر عند فاروق شوشة "فن لغوي" ولأنه صاحب عين راصدة لتفاصيل المشهد الابداعي المصري فانه اهتم للغاية بشعر العامية وذلك خلافا لما يتصوره البعض عن "فاروق شوشة صاحب لغتنا الجميلة والأمين العام لمجمع اللغة العربية".
بل انه باح بأن اعجابه بشعر العامية يرجع لأيام طفولته في قرية الشعراء حيث اول شعر استمع اليه كان الشعر الذي ينشده شاعر الربابة وهو يروي السيرة الهلالية ليولد معنى الشعر في وجدان الصبي الصغير مصحوبا بالنغم ومنشدا بالعامية حتى كبر فاكتشف ان قصائد أمير الشعراء احمد شوقي للملحن والمطرب الموسيقار محمد عبد الوهاب تنافس في جمالياتها بعض قصائده الفصيحة.
فكأن "عامية احمد شوقي" ايقظت الفتى فاروق شوشة على جمال العامية ثم عرف قصائد العامية لبيرم التونسي فأذهلته ثم كبر اكثر ليعرف ا ن اول زجال في تاريخ الأدب العربي وهو الأندلسي "ابن قزمان" هو جد كل من يكتبون بالعامية في الشعر العربي وادرك ان للعامية جذورا بعيدة في الموروث الشعري العربي.
والعامية التي يكتب بها الفن هي "العامية الجمالية الفنية" كما وصفها فاروق شوشة وهي تتجلى في ابداعات صلاح جاهين وفؤاد حداد وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي، فلا هي عامية الشارع ولا عامية السوق كما انها بالتأكيد ليست "عامية البذاءة ولاالسوقية".
وشعراء العامية الكبار في مصر والعالم العربي وخاصة في لبنان تخرجوا من دواوين الشعر الفصيح قديمه وحديثه كما لاحظ الشاعر الكبير فاروق شوشة الذي قال:"انا احس ان ماء الشعر في الفصحى والعامية مشترك والجميع ينهل منه ويأخذ منه والمسافة الآن بين شعر العامية الحقيقي المرتفع المستوى وبين الفصحى تضيق احيانا بالثقافة والوعي والقاموس المشترك".
ولفاروق شوشة نظرات نقدية عميقة في بعض المقولات التي كادت تتحول الى مسلمات في الحياة الثقافية والأدبية المصرية والعربية مثل مقولة او فكرة "الأجيال" فهو لايعتبرها فكرة صحيحة ويضرب المثل بما يسمى بجيل الستينيات في مصر والذي يضم اسماء مثل محمد عفيفي مطر وامل دنقل ومحمد ابراهيم ابو سنة وبدر توفيق وغيرهم.
ففاروق شوشة لا يرى بين احدهم والآخر اية مشابهة من أي نوع على الاطلاق فيما يتعلق "باللغة الشعرية وطرائق التصوير" فيما ينفي عن تلك الأسماء التي وضعت معا ضمن ماسمي بجيل الستينيات صحة ماقاله بعض النقاد حول وقوعهم في شراك التقربرية والخطابية والمباشرة معتبرا معطيات الواقع العربي العصيب تتطلب "تعرية كاملة".
وفيما يتعلق بالنقد ونقاد الشعر قال فاروق شوشة: "النقاد مثل الشعراء مطحونون بلقمة العيش" و"الكتابة النقدية الحقيقية اصبحت تعرض صاحبها للعداوة ولاغلاق الأبواب والنوافذ اذا كان جادا" كما ان بعض النقاد الآن يفتقرون للقدرات اللغوية التي تمكنهم من النقد التفسيري والتطبيقي الذي يعكف على النصوص ويحلل جماليات الشعر.
ولم يغمط فاروق شوشة أفضال نقاد كبار تصدوا لنقد شعره بجهد و‘خلاص في الكتابة النقدية مثل الدكتور محمد غنيمي هلال وهو اول من كتب عن ديوانه الأول "الى مسافرة" والدكتور شكري عياد الذي كتب عن "لغة من دم العاشقين" وكذلك الدكتور مصطفى ناصف والدكتور محمود الربيعي الذي قام بتحليل نقدي لقصيدة "اجمل من عينيك لا" وهي احدى قصائد ديوان فاروق شوشة الصادر بعنوان:"العيون المحترقة".
واذا كانت "القراءة" باتت من اصعب الأشياء في هذا الزمن كما رأى فاروق شوشة فان "الكتابة" امست "اصعب الصعب" لأن هناك حساسيات قد تترتب على الكتابة وهناك من قد تسعده الكتابة غير ان هناك ايضا من قد تغضبه تلك الكتابة الأمر الذي يدفع بعض الكتاب والنقاد للصمت بغية الابتعاد عن المشاكل !.
ومجمع اللغة العربية بالقاهرة بدأت تركيبته تتغير كما لاحظ فاروق شوشة اثناء شغله بجدارة منصب الأمين العام لهذا الصرح الحارس للعربية مشيرا لدخول اعضاء اصغر سنا بالمقارنة مع مراحل سابقة ولافتا الى ان هؤلاء الأعضاء "اكثر حيوية واهتماما بالهم العام واكثر تحمسا لقضايا اللغة في المجتمع".
ونظرة فاروق شوشة لمجمع الخالدين تنطلق بوضوح من المنظور الثقافي الرحب داعيا للدفع في اتجاه "وظيفية المجمع الاجتماعية ومسؤوليته وانشطته الثقافية واهمية انفتاحه على الأخرين والحوار معهم واقامة علاقة حميمة مع المؤسسات المعنية باللغة وخاصة في التعليم والاعلام وتطوير مجلة المجمع لتتجاوز نشر ابحاث محكمة تستخدم في الترقيات الأكاديمية الى نشر ابحاث حية عن قضايا ساخنة".
وطالب فاروق شوشة بأن تكون لمجمع اللغة العربية "سلطة لغوية" تتابع وتقيم مايحدث في المجتنمع كله من اداء لغوي ومن ثم فهو يرى ان هناك حاجة في هذا السياق "لوثيقة اعلان الحقوق اللغوية" ومن الطريف حقا في هذا السياق ان تشمل اهتمامامته مايعرف "بعلم اللغة الرياضي".
فالاذاعى القدير والشاعر الكبير فاروق شوشة والذى شغل منصب الأمين العام لمجمع اللغة العربية قد وصف دراسة اعدها الدكتور محمد داوود الأستاذ الجامعى والخبير بالمجمع عن اللغة وكرة القدم بأنها "دراسة ممتعة ورائدة وغير مسبوقة" منوها بأنها "تضع اساسا لعلم اللغة الرياضى من خلال رصد حركة اللغة فى واحد من اوسع مجالات حياتنا الاجتماعية واكثرها تأثيرا اى مجال لغة كرة القدم التى تتسم بالتشويق والاثارة والمتعة ".
فاللغة..اى لغة تتطور وتنمو وتعرف المزيد من الكلمات التى يضيفها التعامل اليومى والتقارب مع العالم فضلا عن الكلمات الجديدة التى يضيفها الشباب من خلال العصر الذى يعيشونه فيما رأى فاروق شوشة ان هذه الدراسة عن اللغة وكرة القدم جاءت لتشهد على "عظمة اللغة العربية فى مرونتها وعصريتها واستيعابها كل جديد فى مجالات الحياة المختلفة وقدرتها على التطور وفاء باحتياجات العصر وعلى اهمية اللغة فى الارتقاء بفن التعليق الرياضى لخطورة لغة المعلق واثارها ايجابا او سلبا فى حياتنا اللغوية".
إنه فاروق شوشة المثقف المصري المتعدد الاهتمامات ما بين الشعر واللغة والطروحات والمقالات والاعلام الاذاعي والتلفزيوني والمتطلع في ابداعه للأمام دائما ولم يبالغ ابدا عندما قال عن نفسه:"رحلة الحياة بالنسبة لي تحولت الى خزان هائل من المعطيات والخبرات والرؤى".
انه المثقف "الباحث عن الجمال في كل شييء، فتحية "لروح طليقة تعانق البشر"..تحية للشاعر "صاحب الوجه الحميم والعطر المقيم الذي تزدهي حروفه وتنجلي كأنها الشعاع او كأنها الشرر"..تحية لمبدع مصري اصيل "سيبقى ابداعه الرحيب باسطا يديه وصوته الجميل مايزال رغم رحيله سلما الى الجمال وزادا لكل الباحثين عن الجمال"! وداعا للمبدع الجميل للباحث عن الجمال في اللغة والحياة.