عن المؤامرة والمتآمرين
الأحد، 04 سبتمبر 2016 04:46 م
هل توجد مؤامرة على مصر ؟ ، نعم بالتأكيد ، لكن سياسات واختيارات الداخل تسهل المهمة على المتآمرين .
وقد لايكون التاريخ كله سلسلة مؤامرات ، وهذا صحيح جدا ، لكن المؤامرة موجودة فى التاريخ ، وتعكس صراعات المصالح فى صورة تدابير وخطط ، وبالذات فى منطقتنا العربية ذات الأهمية الحيوية الفائقة ، وحيث تتكاثر الصراعات الدولية ، وحروب اقتسام النفوذ ، وتضارب خرائط الأطراف ، والتى قد تختلف على أشياء كثيرة ، لكنها تتفق فى شئ واحد ، هو منع بروز مشروع عربى نهضوى توحيدى الطابع ، وعلى طريقة السعى لإنشاء "إسرائيل" منذ زمن حملة نابليون بونابرت ، وخطة "سايكس ـ بيكو" لتقسيم المشرق العربى عقب الحرب العالمية الأولى ، واتفاقية "سيفر" لتخطيط العدوان الثلاثى على مصر عقب تأميم قناة السويس ، وإخراج مصر من جبهة الصراع مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى بنصوص ما يسمى معاهدة السلام ، وتدمير اقتصاد مصر وإضعاف جيشها بدواعى ومضاعفات وشروط المعونة الأمريكية ، وهو ما يجرى استطراده الآن ، بضغوط الاقتصاد والسلاح ، وإخضاع مصر مجددا لشروط وروشتات صندوق النقد والبنك الدوليين ، وإغراقها فى دوامة ديون ثقيلة ، تعصف بما تحقق من استقلالية قرارها الوطنى .
ولفظة "مؤامرة" لا تعنى تخطيطا سريا بالضرورة ، وفى كل الأحوال ، فهناك دائما جسم الجبل الغارق فى بحر الثلج ، لكن رؤوس الحراب تبقى مكشوفة ، ودواعى التآمر على مصر مفهومة ، فمصر أكبر دولة عربية ، و"رنة الإبرة" فيها تساوى زلزالا فى أى بلد عربى آخر ، وخروجها من نفق الانحطاط الطويل ، والذى استمر إلى الآن لأكثر من أربعين سنة ، وإفاقتها من الغيبوبة ، تقلب موازين المنطقة ، والتى بدت حلالا بلالا للأطيار من كل جنس ، وللقوى الدولية التى تتدافع على مناطق نفوذ عندنا وعند غيرنا ، وحتى لبلدان جوار تضخمت أدوارها على جثة الدور المصرى فى المنطقة العربية ، وعلى نحو ما نرى من أدوار لإيران وتركيا ، وحتى لأثيوبيا التى تصورت أنها ورثت الدور المصرى فى أفريقيا ، وكل هؤلاء يدافعون باستماتة عن مصالح تحققت ، وجرى اكتسابها فى غيبة مصر ، ولا مانع عندهم ، بل من الضرورى ، وكل على طريقته ، من التحالف الثابت أو الموقوت مع خطط ـ مؤامرات ـ الغرب الأمريكى البريطانى بمعية كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، وطبيعى أن تلعب امريكا الدور الأكبر ، وهى تحس أن مصر قد تضيع من يدها ، وهى التى حسبتها طويلا كنقطة ارتكاز جوهرية لواشنطن فى المنطقة ، مرات بالتعويل على السادات وخلفه المخلوع مبارك ، ومرة أخرى بالتعويل على هندسة السياسة المصرية الداخلية ، وجعل الغلبة ليمين دينى متعاون ، وطبقة نفوذ اقتصادى وإعلامى هائل لجماعة "رأسمالية المحاسيب" .
ولم يعد فى القصة سر يحجب ، ومراكز التفكير والأبحاث الأمريكية تتحدث بصراحة ، وتحذر الإدارة الأمريكية من التمرد المصرى الناعم ، وتحذر من عواقب "طلاق فعلى" يجرى بين القاهرة وواشنطن ، وتدعو لإنشاء توافق جديد يبدو صعبا ، وإلى استكشاف طرق جديدة ، وهو ما يفسر تدفق وفود "كونجرس" ورجال أعمال على القاهرة ، وفيما بدا كأنه "جس نبض" متصل ، فى الوقت الذى تباعدت فيه زيارات الوفود الأمريكية التنفيذية الرسمية ، فوزير الخارجية الأمريكى يعبر كثيرا إلى عواصم المنطقة ، ولكن دون أن تكون القاهرة واحدة من محطاته ، وكذلك فعل نائب الرئيس الأمريكى ، وحتى الاتصالات الهاتفية تبدو مقطوعة بين البيت الأبيض وقصر الرئاسة المصرية ، والمعونة الأمريكية إياها ، ما إن يفرج عن جزء منها ، حتى تعود فتنحبس وتتلكأ ، بينما زيارات قادة عسكريين أمريكيين لا تنقطع إلى القاهرة ، وتجرى مباحثات لا تخلو من ابتسامات للكاميرات ، لكنها لا تخفى انسدادا متزايدا فى سبل التفاهم ، فلم يعد من شئ كما كان ، ولم تعد الأمور إلى سلاستها القديمة ، فقد تطور فى مصر "تفكير براجماتى" بنزعة استقلالية ، لا مانع عنده من أخذ ما قد تعطيه أمريكا ، لكنه ليس مستعدا لدفع الحساب ، ولا لتقييد انفتاح السياسة المصرية على روسيا والصين ، وميلها لانتقاء حلفاء منفردين من الاتحاد الأوروبى ، وعلى نحو ما يجرى مع ألمانيا وإيطاليا فى الاقتصاد واستثمارات الطاقة ، وما يجرى مع فرنسا فى مجال شراء السلاح المتطور ، وهو ما يقوض احتكار أمريكا الرئيسى لتسليح الجيش المصرى، وتحكمها فى نوعيات السلاح المتاح ، وبحيث تبقى الجيش المصرى عند مستوى قدرات منخفض ، يكفل دوام التفوق الحصرى المطلق للجيش الإسرائيلى ، ويحجز قدرة مصر عند مراتب متدنية جدا فى مجال صناعة السلاح ، وليس بوسع احد أن ينكر ما جرى من انقلاب متسارع فى موازين التسليح المصرى ، وبصفقات معروفة مشهورة مع فرنسا ، وبصفقات أهم وأخطر ، أغلبها غير معلن مع روسيا بوتين ، وبالذات فى مجالات القوة الجوية والدفاع الصاروخى ، وبموارد هائلة من احتياطى مالى محتجز، لم يمانع الرئيس السيسى نفسه فى الكشف عنه فى حوار صحفى رسمى جدا ، خصوصا فى ظل تواضع الميزانية العسكرية المصرية المعلنة ، وعجزها عن توفير موارد مناسبة لشراء السلاح ، أو تطوير صناعة السلاح الذاتية ، وقد شهدت الأخيرة قفزات تطوير محسوسة فى "مصانع الإنتاج الحربى" و"الهيئة العربية للتصنيع" ، فضلا عن الاستعدادات والتدابير والتجهيزات الجارية لإنشاء مشروع "الضبعة النووية" بالتعاون الممتد مع روسيا ، وهو مشروع أكبر من مجرد توفير طاقة نووية كهربائية ، بل فتح ملموس لطريق الطموح المصرى فى امتلاك وتكريس المعرفة النووية ، وقد تأخرت مصر فيه طويلا ، وأعيقت عن الوصول للهدف بضغوط أمريكية حاكمة للقرار المصرى عبر أربعين سنة مضت ، ناهيك عن تقدم الجيش المصرى لإلغاء مناطق نزع السلاح فى سيناء بمقتضى المعاهدة المشئومة ، وفرض واقع عسكرى جديد لا تراجع عنه ، يعود به الجيش المصرى إلى ملامسة خط الحدود التاريخية مع فلسطين المحتلة ، وهو ما لم يحدث أبدا منذ ما قبل هزيمة 1967 ، وكلها ـ مع غيرها ـ تطورات لا ترضى عنها أمريكا ، وتسعى لتقويضها بضغوط الاقتصاد ، وبدوائر سياسة تملك قرارها فى خارج مصر وداخلها ، وبدوائر "بيزنس" من مواليد المعونة الأمريكية فى مصر ، وبأعمال الظل المخابراتى المخترقة للمجتمع وبنية السلطة ، فثمة اختناقات كثيرة فى الكواليس ، وضغوط محمومة للى الذراع وخنق العنق ، فلن تنسى أمريكا للسيسى أنه خالفها وخذلها ، وفعل ما فعل عقب هبة عشرات ملايين المصريين فى 30 يونيو 2013 ، ودون أن يصغى لنصائحها أو يشاورها، ثم أنها ـ أى واشنطن ـ لن تنسى له ما فعل بعدها ، وبالذات فى إضعاف وتقويض الاحتكار الأمريكى الغالب لتسليح الجيش المصرى ، وبما أدى فى النهاية إلى جفاء متزايد بين القاهرة وواشنطن ، ليس بسبب انتهاكات حكم السيسى لحقوق الإنسان كما تعلن واشنطن أحيانا ، بل بسبب انتهاكه لدستور التبعية لأمريكا فى مصر ، وسعيه "البراجماتى" إلى تنويع مصادر السلاح وموارد السياسة العربية والخارجية ، وفى مخالفة المخططات الأمريكية فى حروب سوريا واليمن وليبيا المجاورة بالذات ، واتساع رقعة التفاهم المصرى العسكرى والسياسى مع روسيا بالذات ، وطبيعى ـ مع ذلك كله ـ أن تتصرف أمريكا بمقتضى مصالحها ، وأن تسعى لمعاقبة حكم السيسى ، فهى لا تريد لمصر أن تفيق من غيبتها وكبوتها تحت ظل أى نظام ، وهو ما يستشعره السيسى ، وعبر عنه مرة فى لقاء مغلق مع عدد من المثقفين المصريين، وقال بالنص ـ وبالعامية المصرية ـ "أمريكا كانت بترفع سماعة التليفون وتملى أوامرها" ، وأضاف "ولأن ده ما عدش بيحصل . .
هنعانى ونفضل نعانى" ، وهو اعتراف صريح بوجود ضغوط أمريكية ثقيلة ، عاد ليعلنه ضمنا فى حوار تليفزيونى بمناسبة مرور عامين على حكمه ، سأله المذيع عن علاقة مصر بأمريكا ، وكان جواب السيسى أنه "غير ملزم" بثوابت السياسة الخارجية المصرية فى الثلاثين سنة الأخيرة ، وتلك إشارة صريحة إلى نهاية زمن التبعية التلقائية لأوامر واشنطن فى مصر .
لا خلاف ـ إذن ـ على خطط ومؤامرات وضغوط أمريكية تجرى ، لكن حكم الرئيس السيسى يضعف نفسه بنفسه ، وينزلق إلى خطيئة الخضوع للضغوط ، بتبنى ما يسميه "برنامج إصلاح" اقتصادى ، هو برنامج تخريب بامتياز ، وبما يقوض شعبية كانت للسيسى ، فضلا عن اتصال ممارسات القمع الأعمى ، والعودة للتلاعب بورقة التطبيع مع إسرائيل ، وإحلال فكرة "المقاولة" محل فكرة "السياسة" ، والتراخى فى كنس امبراطورية الفساد ، ومحاباة المليارديرات والأغنياء ، والتجبر على الفقراء والطبقات الوسطى ، وإهدار الموارد فى المنتجعات والسفه الاستهلاكى ، والتباطؤ فى بناء اقتصاد إنتاجى ، وكلها اختيارات تهزم وتهدم ما تحقق من إنجازات ، وتسهل مهمة المؤامرة الأمريكية على مصر وفيها ، وتزيد من اهتراء النظام ، وتدعم خطوط المؤامرة ودواعى الانهيار من داخل النظام نفسه ، وتلك هى "أم المآسى" .