كفى استخفافا بالشعب
السبت، 20 أغسطس 2016 03:54 م
تحتاج مصر الآن إلى تصرف عاقل ورشيد ، وإلى حوار وطنى شامل ، يضم خبراء البلد واتجاهاته كلها ، ويضع النقاط فوق الحروف بصراحة ووضوح ، قبل أن تقع الفأس فى الرأس ، ويندفع الوضع كله إلى انفجار اجتماعى لا تحمد عواقبه .
ولا خلاف على خطر الأزمة الاقتصادية الطاحنة ، وعلى ارتفاع فاتورة الديون الداخلية والخارجية إلى حدود مهلكة ، ووصلت إلى 97% من إجمالى الناتج القومى ، يقال للناس أنه يراد خفضها إلى 88% عبر ثلاث سنوات ، بوصفة صندوق النقد الدولى ، التى تبنتها حكومة الرئيس السيسى قبل مفاوضات الاتفاق مع الصندوق ، ومقابل قرض على شرائح متتابعة ، يبلغ إجماليها المفترض 12 مليار دولار ، تضاف مع الفوائد كديون جديدة ، وتضاف إليها قروض أخرى متوقعة من مؤسسات تمويل دولية ، تصل إلى 9 مليارات دولار إضافية ، مع ديون السندات الدولارية ، فوق استمرار إدمان الاستدانة والاقتراض ، ومواصلة سيرة "اقتصاد التسول" من كل من هب ودب ، وهو ما قد يقفز برقم الديون الخارجية بالذات ، والتى أعلن رسميا قبل شهور أنها وصلت إلى حدود 54 مليار دولار ، وهو ما يعنى ـ ببساطة ـ أن طريقة المعالجة الرئاسية تفاقم كارثة الديون بدعوى الحد منها ، وأن ديوننا الخارجية مرشحة للقفز إلى مئة مليار دولار ، كفيلة بإغراق الاقتصاد ، خاصة إذا أخذنا فى الحساب كوارث أخرى يخطط لها ، فحكومة السيسى اتفقت مع الصندوق على تعويم وشيك لسعر صرف الجنيه ، والتسليم الرسمى بأسعار السوق السوداء ، وإعادة حساب تكلفة الديون الخارجية وخدمة الديون بالسعر الجديد ، والذى قد يصل رسميا إلى 12 جنيه مقابل الدولار الواحد ، ولك أن تتخيل حجم الخراب القادم ، والذى تتحمله أجيال تلحق بعد نهاية رئاسة السيسى ، فالديون الخارجية وحدها ، قد تصل إلى قرابة نصف إجمالى الناتج القومى فوق عبء الديون الداخلية المريع ، وما من معالجة فى برنامج السيسى ، سوى ببيع الشركات الاستراتيجية الناجحة الرابحة جدا، خاصة فى مجالات البترول والبنوك ومحطات الكهرباء ، وبدعوى طرح أسهمها فى البورصة، وبنسب بيع ظلت تتصاعد فى التصريحات الرسمية ، من 20% إلى 40% حسب آخر اعتراف ، ودون ضمان ألا تصل النسبة إلى الخمسين بالمئة وتزيد ، وربما بيع البنوك والشركات الاستراتيجية بالكامل ، وهو ما يعنى إضافة الخراب فوق الخراب ، وحرمان خزانة الدولة من العوائد الضخمة للمنشآت الاستراتيجية ، ومقابل عوائد وقتية هزيلة تذهب مع الريح ، وتعريض الشركات نفسها لخطر الإفلاس والاندثار مع مضاربات البورصة، فالبيع سوف يتم غالبا للأجانب ، وهذا هو الهدف الجوهرى لوصفة الصندوق التى تبنتها حكومة السيسى ، وتماما كما جرى مع "الخصخصة" و"المصمصة" التى جرت فى عهد المخلوع مبارك ، وانتهت إلى تجريف القلاع الصناعية الكبرى ، وإفراغ الاقتصاد من محتواه الإنتاجى ، والتعويل على اقتصاد الريع والخدمات ، والمعرض دائما لتقلبات وانتكاسات ، بلغت ذروتها فى السنوات الأخيرة ، وأدت إلى شنق مصر بحبل الديون تمكينا لمحاولات إخضاعها ، وهو الخطر الذى تزداد مضاعفاته مع برنامج الرئيس السيسى ، والذى يتصور أنه قادر على فعل ما تجنبه الأولون، باشعال حرائق الغلاء فى كل اتجاه ، وتحويل حياة أغلبية المصريين إلى جحيم لا يحتمل ، برفع أسعار خدمات المياه والكهرباء وتذاكر المترو والقطارات ، ورفع أسعار كافة السلع الأساسية ، بتعزيز جنون الدولار وتدمير قيمة الجنيه ، وتجميد أجور العاملين بالقطاع الحكومى بقانون الخدمة المدنية ، والتى انخفضت قيمتها الفعلية إلى أقل من النصف مع موجة الغلاء والتضخم المرعبة ، والعاملون فى القطاع الحكومى لا يشكلون سوى ربع قوة العمل ، ويشكو السيسى من عبء رفع الحد الأدنى لأجورهم الذى جرى بعد الثورة، وإلى أسقف متواضعة تقترب من خط الفقر الدولى ، بينما 75% من العاملين المصريين فى القطاع الخاص ، ولم تزد أجورهم مليما ، بل انخفضت إلى أكثر من النصف ، وهؤلاء جميعا تحت خط الفقر المدقع ، هذا إن كتبت لهم النجاة من مصائر الطرد والفصل ، ولا يبالى الرئيس السيسى بآلام الناس ، ولا حتى بوعده ـ حين كان مرشحا ـ بتحسين أحوال المعيشة بعد عامين من الحكم ، وكانت النتائج مزيدا من الإفقار ، فالفرقة الناجية من المصريين ، التى تحصل على فرص عمل وتتلقى أجورا، ذابت دخولهم الهزيلة فى أفران الغلاء ، فما بالك بعشرات الملايين من العاطلين ، فالجحيم لا يرحم أحدا ، ومتوسط الأجور فى مصر ـ لمن يتقاضونها ـ هو عشر متوسط الأجور العالمية، وهو ما يتجاهله الرئيس السيسى ، ويطالب ذوى الأجور الكسيحة ، ومعهم الذين يعيشون بلا أجر ولا دخل ثابت ، يطالبهم جميعا بدفع السعر العالمى غير المدعوم لخدمات المياه والكهرباء والمترو وغيره ، وبدعوى أنه يريد البيع بسعر التكلفة العالمى ، بينما الإنسان المصرى يبيع جهده بعشر التكلفة ، هذا إن كان من الفرقة الناجية التى تجد عملا ، ولا يلتفت الرئيس إلى التناقض الفادح المروع ، ويعتبر دعم الخدمات والسلع عارا يجب التخلص منه ، وليس حقا اجتماعيا عادلا لأغلبية المصريين ، وتعويضا نسبيا عن تدنى الأجور وهزال الدخول ، ولا يكتفى الرئيس بإشعال حرائق غلاء الخدمات والسلع ، بل يريد حرق الناس بإلغاء دعم البنزين والسولار والمازوت وكافة أنواع الوقود ، ويعتبر ذلك عملا بطوليا ، لن يتردد ثانية ـ كما قال ـ فى اتخاذ قراراته الصعبة ، ودون مبالاة بغضب الناس ، ولا بتفاقم معاناة الأغلبية الساحقة من المصريين ، وبنسبة تصل إلى 90% من الشعب ، تضم جموع الفقراء والطبقات الوسطى ، يستخف بهم الرئيس جميعا، ويتصور أنهم سيهتفون بحياته فى جنازة الاقتصاد المصرى .
ولسنا من الذين ينكرون إنجازات تحققت فى عهد الرئيس السيسى ، وفى مشروعات كبرى ذات أولوية ، ومن نوع تعظيم قوة الجيش وتنمية قناة السويس والاستصلاح الزراعى وتوفير إمدادات الطاقة و"الضبعة النووية" وغيرها ، وإن كان الخلاف على مشروعات أخرى من لزوم ما يلزم ، جرى إنفاق مئات المليارات فيها ، مع أنها من مشروعات "البنية الأساسية" مؤجلة الثمار بطبيعتها ، وقد بلغ مجموع الإنفاق على المشروعات الكبرى ما قد يصل إلى تريليون ونصف التريليون جنيه بحساب الرئيس نفسه ، جرى تدبيرها فى الغالب من خارج الموازنة الحكومية المعلنة ، وكان ممكنا ـ ولا يزال ـ توجيه نصف هذه الموارد ، أى 700 مليار جنيه إلى الآن ، إلى تصحيح الخلل الرئيسى فى الاقتصاد ، وإكسابه طابعا إنتاجيا حقيقيا ، وتصنيع البلد على نحو ما جرى أخيرا فى بناء مجمع البتروكيماويات الهائل فى منطقة العامرية ، فهذا هو الحل ، وليس وصفات التخريب على طريقة صندوق النقد ، ولا خصخصة و"مصمصة" الشركات الاستراتيجية والبنوك العامة ومحطات الطاقة ، فكلها استثمارات عامة ، يجب الحفاظ عليها وتطويرها ، وتبنى برنامج عاجل لإنقاذ القلاع الصناعية العامة التى جرى تجريفها ، وتحديث الماكينات وخطوط الإنتاج ، وإضافة موارد ببيع أصول وأراضى المصانع القديمة فى قلب الكتل السكنية ، ونقلها مع تجديدها إلى أماكن جديدة ، والاستفادة بالطاقة الجبارة لهيئات الجيش فى بناء المصانع الجديدة ، وربط التصنيع العسكرى بالتصنيع المدنى ، وإنشاء مجمع صناعى عسكرى ، يضم "الهيئة العربية للتصنيع" و"شركات الإنتاج الحربى" وإدارة المشروعات العامة ، فالتصنيع الشامل هو الحل ومعيار التقدم ، وليس إقامة مدن عالمية ومنتجعات ومشروعات مقاولات ، لا توفر سوى فرص عمل موقوتة ، بينما التصنيع يوفر فرص عمل دائمة منتجة ، ويوفر إنتاجا يحل محل الواردات ، ويضاعف طاقة التصدير وجلب العملات الصعبة، وله الأولوية على ما عداه ، ليس فى الاستثمارات العامة وحدها ، بل فى القطاع الخاص المنتج ، فلدينا 1900 مصنع خاص مغلق مأزوم ، لا تحتاج لإعادة تشغيلها ، ومنحها كافة التسهيلات والإعفاءات الممكنة ، سوى مبلغ متواضع لا يتجاوز النصف مليار جنيه ، وقد سبقت مصر فى الخمسينيات والستينيات إلى إنشاء قاعدة صناعية ضخمة ، كانت توفر ما يقترب من ربع إجمالى الناتج القومى ، وشكلت مع الزراعة والتعدين عمادا قويا لاقتصاد انتاجى ، كانت حقوق العاملين فيه مساوية لعوائد التملك بالضبط ، وقفز بوضع مصر إلى مكانة مساوية لكوريا الجنوبية فى التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجى إلى ما بعد حرب أكتوبر 1973 ، فقد كان زمنا لنهوض شامل ، لا يتذكر منه الرئيس السيسى سوى ما جرى من حروب مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، ونسى ـ أو تناسى ـ ما جرى اقتصاديا بعد توقف الحروب ، ومرور أربعة عقود بلا طلقة رصاص على جبهة حرب عادلة ، وقيل للناس أن "السلام" ـ إياه ـ يجلب التنمية والرخاء ، ثم كانت النتائج على ما يعرف كل الناس ، وكان انحطاط اقتصاد مصر ، وإلى حد أننا لم نعد نصدر سوى ما قيمته 22 مليار دولار سنويا ، بينما صادرات كوريا الجنوبية سنويا 500 مليار دولار ، وواردات مصر الآن 80 مليار دولار سنويا، بينها 1200 مليون دولار لطعام القطط والكلاب ولحوم الطواويس والجمبرى "الجامبو" وغيرها من صنوف السفه الاستهلاكى ، برغم أن مصر حصلت خلال الأربعين سنة "سلاما" على قروض ومعونات ومنح بالكوم ، بلغت فى جملتها ما يزيد على 300 مليار دولار ، جرى نهب أغلبها وإهلاكها فى طاحونة الفساد ، الذى اكتفى الرئيس السيسى بالاشارة العابرة إليه ، ودون أن يقول للناس كم مليما استعاد من الثروات والأصول والأراضى المنهوبة ؟ ، وهى مبالغ تريليونية فلكية لو جرى استردادها ، وتكفى لسداد ديون مصر ثلاث مرات على الأقل ، لكن الرئيس السيسى تردد مرارا فى كنس الفساد ، وتحصيل حقوق البلد من ناهبيها ، والذين صاروا قوة الضغط الأولى على حكم الرئيس ، فهم طبقة الواحد بالمئة التى تملك نصف ثروة مصر ، ولا يريد الرئيس تحميلهم عبء ضرائب تصاعدية مفروضة فى الدنيا الرأسمالية كلها ، ولا إقرار الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية ، ويفضل التجبر بقراراته الصعبة على الفقراء والطبقات الوسطى ، ويترك سياسته تهزم إنجازاته ، وتدفع البلد إلى موارد التهلكة.