الحكمة المفقودة
الأحد، 14 أغسطس 2016 03:26 م
خطيئة كبرى، أن تعتقد أن بناء المدرسة قد ينتج تعليما، أو تظن أن رخام في مستشفى قد يعالج مريضا، أو أن كنوز الأرض ستمنحك ساعة فوق عمرك.
لم يشفع لمبارك شق الطريق الدائري، ولا مترو الأنفاق، ولا المدن الجديدة، ولا تحويل شرم الشيخ إلى منتجع عالمي، ولا وضع الغردقة على خريطة السياحة العالمية، ولا المليارات التي ألقيت في بحر البنية الأساسية، ولن تجدي ترليونات الدنيا إذا وضعت في الحجر، طالما البشر فيهم من الألم والجهل والفقر والمرض ما يجعل العيون لا ترى، والآذان لا تسمع، والقلب لا يشعر ولا يحس.
المصريين أسرع شعوب الأرض تأثرا بالكلام العاطفي الجميل، لكنهم مثل بقية شعوب الأرض، لا يشبع بطونهم كلمات عن مؤامرات خارجية وداخلية، ولا يروي عطشهم وعود بأحلام أن بلادهم أم الدنيا وستصبح "قد الدنيا".
المصريون هم المكان الوحيد الذي إذا استثمر فيهم الحاكم، لن يقدر أحد على منازعته كرسيه، ولا سلطته، هم الأرض السوداء العفية، تغرس فيهم بذورا حقيقية يمنحوك ثمارا حقيقية، هم النيل القادم من الجنة يحمل فوق ظهر الخير وفي قلبه الخير مهما ألقيت عليه نفايات الطمع والفساد.
استثمر فيهم عبد الناصر، وحدد من أجلهم القيمة الإيجارية، ووزع من أجلهم ملكية الأراضي الزراعية، وضمن لهم تعليما وصحة واستقرار وأمانا، فشفعوا له هزيمة 67، وحولوا مشهد جنازته إلى واحدة من أكبر المظاهرات في التاريخ.
بغض النظر عن تقييم القرارات الاشتراكية، ومدى فاعليتها وجدواها الاقتصادية، فرئيس الدولة ليس رئيس شركة مطالب بتحقيق الأرباح، وتقليل النفقات عن طريق خفض أعداد الموظفين، ولا هو مطالب بالتلاعب في حسابات الشركة للتهرب من الضرائب، ليشبع رغبات المساهمين، لكنه مطالب بتحقيق عدالة اجتماعية، وسلام وأمن اجتماعي، ثم استقرار ثم تنمية ثم رخاء.
نحسبها بالورقة والقلم، حتى يعيد الرئيس حسبته من جديد، تحديد قيمة الإيجارات ظلمت الملاك هذا صحيح، وجعل الزمن يجورعليهم، وتحولوا من أغنياء إلى محدودي دخل، لكن كم عدد هؤلاء بالنسبة لمجموع شعب كان سواده الأعظم يسكن بالإيجار.
أنت تتحدث عن آثار سلبية جارت على مئات أو آلاف من الأغنياء، لكنها أنقذت ملايين من الطبقة المتوسطة والفقراء، أن تفتك قلة ذات اليد بهم وبأبنائهم، فمن هؤلاء فقط خرج الجنود الذين حاربوا في 73، ومن هؤلاء فقط خرج العمال والفلاحين والموظفين، ومن هؤلاء فقط خرج المبدعين والأطباء والمهندسين، وأساتذة الجامعات.
أنت تتحدث عن نهضة مصرية حقيقية قامت بمعلمين أناروا الأرض العربية بنور العلم، بمشايخ نشروا الدين الصحيح المعتدل في بقاع المعمورة، بمهندسين عمروا الأقطار العربية، بأطباء كانوا مقصدا للطب والعلاج من أرجاء العالم العربي والإسلامي، وبفنانين نهضوا بأحلام العربان وقوموا العقول المتحجرة وغرسوا في الصحراء بذور المحبة والحضارة.
صحيح أن أثرا سلبيا عاما ضرب العلاقة بين المالك والمستأجر، وأدى ذلك إلى انسحاب الملاك من بناء عقارات للإيجار فيما بعد، لكن تلافي الآثار السلبية لمثل هذه القرارات، كان على الحكومة تداركها على المدى المتوسط والبعيد، لكنها لم تفعل، وقررت ألا تلعب، فأخذت الكرة وتركت الملعب مفتوحا، لصناع العشوائيات.
هذا ما فعله السادات ومبارك بعد عبد الناصر، سلموا الشعب للأغنياء (تسليم مفتاح)، بدعوى التوجه لاقتصاد السوق، فسحب تجار السوق بساط الحياة من تحت أقدام الناس، وجعلوا الغثاء قيمة، والتهليب تجارة، والرشوة حق، والجهل تقربا إلى الله، والمرض قدرا، والهزيمة العسكرية فرحة في قلوب الشامتين، وبات الفوز في مباراة إفريقية منتهى الأمل، وحصول فريق كرة على درع الدوري منتهى الرجاء.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل راهنوا بكل تاريخ هذا البلد وعظمته على رجال الأعمال، فمنحوهم من الأراضي ملايين الأفدنة، ومن الأصول العامة مئات المصانع والشركات، فزادوهم غنى، وزادوا الشعب والحكومة فقرا، فأخذ أحمد عز حديد الدخيلة بليل، (المصنع الوحيد الذي كان ينتج خام الحديد) فتحول إلى إمبراطور، ومنحوا شبكة المحمول التي كانت تدر ذهبا لنجيب ساويرس، فتحول إلى ديناصور، وما حدث في الحديد والمحمول حدث في الأسمنت والأسمدة والصناعات المعدنية والغذائية والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى، أغلبها كان حكومات الجنزوري وعبيد ونظيف.
ورغم أن من حكمونا ذهبوا، لكن من راهن على الشعب، ظلت ذكراه ترفرف في القلوب، وصوره حتى الآن ترفع في المظاهرات، ومازال هناك أثرا لأعماله يحمي هذا البلد من الانهيار التام، بينما من راهن على رجال الأعمال والمستثمرين، تطاردهم اللعنات في قبورهم، وعلى أسرة المستشفيات.
الحكومات المصرية غالبا ما تفكر بطريقة "ست البيت" إذا ما ارتفعت الأسعار، فإن كانت "واعية"، تخفض من الإنفاق، وإن كانت "خايبة" تصرخ في منتصف الشهر ومطالبة "رجل البيت" بمزيد من النقود، لتكمل إنفاقها حتى نهاية الشهر.
كل الحكومات تدعي أنها "واعية" وتصرح بترشيد النفقات، لكنها في حقيقة الأمر "خايبة" تعيش حياتها كلها في الاستدانة (سواء من مرابي الحارات الشعبية أو من صندوق النقد) وهي تلاحق "آخر الشهر" الذي لا يأتي أبدا، بحل حقيقي.
كل الحكومات بلا استثناء لا تفكر بعيدا عن مستوى تفكير "ست البيت"، في حين أن رجل البيت يترك الحمل على الحكومة (ست البيت) كي تتصرف بمعرفتها، وكلما كان رجل البيت أقل في رجولته، كلما غض الطرف عن تصرفات "ست البيت" طالما الحياة مستمرة، فتبيع الدجاجة والبقرة، لتشتري بيضا وحليبا.
وهناك "رجل بيت" يعتقد أن الحل يأتي على حساب صحته ووقته، فيندفع لعمل ثان أو ثالث، أو أن يهاجر لبلاد الثقافة المختلفة، فإذا كانت الثقافة أكثر تخلفا، يأتي بتخلفه وينشره على من حوله، أما إذا كانت الثقافة أكثر تقدما، يتقوقع على نفسه ويحتفظ لعقله بالجهل الذي يريحه، ويعتبره قيمة عليه المحافظة عليها، وفي النهاية يرسل بالأموال التي لا تستر، ولا تربي، ولا تحمل قيما، فيعيش الأبناء بعضا من الوقت في حال ميسور، قبل أن تقضي أمراض السكر والضغط والقلب على رجل البيت، فينتهي أجله، وينتهي اليسر المؤقت، ويخرج من نفوس أبناءه سلوكيات العفن الذي سكن محل القيم المهدرة طيلة السنوات الماضية التي كان فيها بعيدا.
في حين أن رجل البيت الأكثر حكمة، والأرجح عقلا، يحافظ على القيم في صدور أبنائه، بقدر ما يحافظ على مستوى مدخراته مهما قلت، ومهما زادت الأعباء، ويستثمر هذه المدخرات (القليلة) في تعليم جيد ورعاية مستمرة للأبناء، فينتج إضافة لعائلته، ويجنى الجيل الثاني، ما استثمره فيه رجل البيت في الجيل الذي قبله، فتنموا العائلة وتكبر، وتحافظ على مجموع القيم، وتطورها وتبثها فيما حولها.
قدرة "ست البيت الواعية" مهما عظم إبداعها، لابد لها من "رجل البيت" الحكيم والعاقل، الذي يدير الحياة ليس بمنطق اللحاق بآخر الشهر، لكن بمنطق، اللحاق بالقيم، فإذا اجتمع الوعي بالحكمة، عبر الجميع جسر الأزمات، أما إذا افترقا، فالكوارث آتية لا محالة.