«الإصلاح» الذى يهلكنا
السبت، 06 أغسطس 2016 03:50 م![«الإصلاح» الذى يهلكنا «الإصلاح» الذى يهلكنا](https://img.soutalomma.com/Large/201703120115111511.jpg)
التناقض اللغوى ظاهر فى العنوان أعلاه ، فالإصلاح شئ مطلوب ومرغوب ، ويحيى من موات ، وينقذ من هلاك ، والمفترض أن نستزيد منه لا أن نستكفى ، لكن كل شئ تلوث فى مصر ، حتى اللغة تحورت وتزيفت ، وانخلعت فيها المعانى عن مبانى ألفاظها ، وصار الإصلاح ـ الاقتصادى بالذات ـ كلمة سيئة الصيت ، ما إن تسمعها حتى تتحسس دماغك ، ودعك من تحسس جيوبك ، فلم يبق فيها شئ قابل للمس غالبا ، والإصلاح الذى جربوه فينا سنينا عددا ، انتهى إلى خراب مستعجل بالجملة ، دمر اقتصاد البلد ، وأنهك عافية التنمية ، ودفع أغلب المصريين إلى ما تحت خطوط الفقر والبطالة والمرض والعنوسة والبؤس .
وهم يعودون اليوم إلى ترديد نغمة الإصلاح نفسها ، ويعزفون ذات الأسطوانة المشروخة ، والتى أصمت آذاننا على مدى ثلاثين سنة مضت ، وبذات الوصفة التى لا تتبدل ولا تتغير عناصرها ، ويعدون الناس باقتصاد السمن واللبن والعسل ، ولكن بعد أن تأخذ جرعة الدواء المر كاملة ، ذات الدواء الذى أخذته البلد مرارا ، ولم ينته بها أبدا إلى شفاء ولا إلى شبهة تحسن ، بل انتهى الدواء إلى استفحال الداء ، والعودة إلى ذات الوجع منقحا ومزيدا ومضاعفا ، وفى كل مرة ، يعودون إلى ذات الجرة ، فالمهم أن يرضى عنا صندوق النقد الدولى وأخوه البنك الدولى ، والمطلوب غاية فى البساطة ، مجرد حزمة "قرارات صعبة" من إياها ، خفض لدعم المواد البترولية إلى أن يتم شطبه كليا ، ومضاعفة أسعار تذاكر المترو والقطارات والمواصلات والنقل ، وزيادات إضافية متلاحقة فى فواتير المياه والكهرباء والخدمات الحكومية ، فوق الغلاء الذى تضيفه ضريبة القيمة المضافة ، إضافة لتعويم سعر صرف الجنيه ، والاعتراف الرسمى بعظمة وأبهة جنون الدولار ، ورفع الأسعار المرتفعة الملتهبة أصلا إلى مقام الجنون نفسه ، وخفض الإنفاق الاجتماعى ، وتجميد الأجور والمعاشات على هزالها وتدنيها المفزع ، والتضحية بما تبقى من أصول الملكية العامة ، وخصخصة و"مصمصة" البنوك والشركات الاستراتيجية الرابحة ، وكل ذلك حتى تعتدل موازين الموازنة المنهكة ، ويصفو لنا مزاج صندوق النقد الدولى ، ويتكرم بمنحنا قروضا ، قيل انها تصل إلى 12 مليار دولار على ثلاث سنوات ، وزادت البشريات إلى توقع اقتراض 21 مليار دولار جديدة ببركة شهادة الصندوق ، وكأن البلد "ناقصة ديون" ، فقد بلغت ديوننا الخارجية إلى 54 مليار دولار حتى ما قبل ثلاثة شهور ، وإضافة القروض الجديدة إلى غيرها مما تعلم ولا تعلم ، قد يقفز بهم الديون الخارجية إلى حاجز المئة مليار دولار ، فوق ما نعرفه من حجم الديون الداخلية التى تناهز إجمالى حجم الناتج القومى ، وإضافة تلال الهم على رأس "الزبون" الذى هو المواطن العادى ، ومن بعده أولاده وأولاد أولاده من أجيال تأتى ، وحيث تكون الحكومات الحالية ، والحكومات التى تلحق ، قد ذهبت إلى قبور النسيان ، ونجت من كل حساب أو عقاب دنيوى ، وصارت سطورا سوداء فى دفاتر الذكريات الأليمة .
ولا يغرنك الكلام اللطيف الذى يسوقونه ، ومن عينة "وطنية" برنامج الإصلاح ، أو تشجيع الإستثمار الذى تحول عندنا من زمن إلى "استحمار" ، أو العبارة المضجرة إياها عن عدم المساس بمحدودى الدخل ، فالكلام هو نفسه الذى قالوه للناس مرارا ، وكان المخلوع مبارك يردد العبارة ذاتها ، وهى كلمة عنصرية بامتياز ، تتحدث عن محدودى الدخل إياهم ، وكأنهم جماعة من المعوقين بالخلقة ، أو كأن الأقدار شاءت لهم وضعهم المتدنى ، وليس السياسات والاختيارات الحاكمة ، والتى جعلتهم من "منهوبى الدخل" لا محدودى الدخل ، وزادت فى أعدادهم تباعا ، وحتى صاروا أغلبية المصريين ، وبنسبة تصل إلى تسعين بالمئة من الشعب المصرى ، لا تملك بالكاد سوى ربع الثروة الوطنية ، بينما يملك 9% من المصريين الناجين مؤقتا ربعا آخر ، وتملك شريحة الواحد بالمئة من الأغنياء نصف الثروة بالتمام والكمال ، وهؤلاء لا يجرؤ أحد على الاقتراب من ثرواتهم وممالكهم و"كومباونداتهم" ، ولا كنس فسادهم الذى شفط دخل البلد وأصولها ، ولا فرض نظام الضرائب التصاعدية المعمول به فى كل الدنيا ، فأعلى حد لضريبة الدخل فى مصر 22.5% لاغير ، بينما المتوسط العالمى يصل إلى خمسين بالمئة ، إضافة لإقامة أوكازيون ضرائب مجانى للأغنياء ، فقد جرى وقف العمل بالضريبة الهزيلة التى كانت تقررت على أرباح البورصة ، وألغيت الضريبة الاجتماعية الإضافية ، وكانت نسبتها 5% لاغير على من تزيد أرباحهم على المليون جنيه سنويا ، والأنكى أن السلطة رفضت كل النداءات العاقلة التى صدرت حتى عن بعض رجال الأعمال ، وتغاضت عن طلب جمعية المستثمرين برفع الحد الأقصى للضرائب إلى ثلاثين بالمئة على الأقل ، فليس من طبع حكوماتنا أن تفكر فى شئ من العدالة الاجتماعية ، ولا حتى بعد ثورتين كأنهما لم تحدثا أصلا ، والأفضل عندهم هو العودة إلى ما كان ، وتحميل الفواتير كلها لأغلبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى ، والعودة إلى تجريب المجرب المخرب ، ومنذ دخل صندوق النقد الدولى على خط اقتصاد مصر بكثافة مع النصف الثانى للثمانينيات ، وأوصى بروشتة "التثبيت النقدى" و"التكييف الهيكلى" ، وهى مصطلحات أنيقة تبدو ملغزة لعوام الناس ، لكن المصريين العاديين فكوا شفراتها وغرقوا فى مآسيها ، وعلى مدى ربع قرن سبق ثورة خلع مبارك ، ولم تؤد الوصفة إياها إلا إلى النتيجة إياها ، وهى زيادة غنى الأغنياء ومضاعفة فقر الفقراء ، وانزلاق غالب الطبقات الوسطى إلى هوة الفقر السحيق ، ونشر الاضطراب والقلق الاجتماعى والسياسى ، وإغراق البلد فى ديون تودى باستقلالها وكفاءة اقتصادها ، وعلى نحو ما حدث فى غزوات الصندوق لبلدان كثيرة فى العالم ، فلم يدخل "صندوق النقد الدولى" بلدا إلا وخربه ، وهو ما جعله يحمل بجدارة صفة صندوق "النكد" لا صندوق النقد .
ولم تكن العودة إلى صندوق "النكد" الدولى مفاجئة ، فقد بدا كل شئ غامضا فى الاقتصاد مع تولى السيسى للرئاسة ، وبدت الإشارات الأولى إيجابية إلى حد ملحوظ ، فقد جرت زيادة بدور الدولة فى الاستثمارات ، وتوافرت موارد هائلة من خارج الموازنة الحكومية ، وكان اللجوء للجيش مفهوما ، فخبرة الرئيس عسكرية أساسا ، وهو يستريح أكثر لتنظيم الجيش وكفاءته وانضباطه الطوعى الصارم ، وهكذا دخل الجيش بقوة أعظم إلى ميدان الاقتصاد ، وكانت المشروعات الوطنية الكبرى ساحته الأساسية ، وأدار ورشة عمل غير مسبوقة ، عمل فيها ما يزيد على المليونى مهندس وفنى وعامل مدنى ، تحت إشراف وإدارة هيئات الجيش ، وقاربت تكاليفها على التريليون ونصف التريليون جنيه مصرى بحسب التقديرات الرئاسية المعلنة ، كان الإيقاع السريع لعمل الجيش ، مع توسع رقعة نشاطه فى مجالات صناعية وتجارية وزراعية شتى ، كان هذا التطور مؤشرا على تقدم قوة مبادرة جديدة ، تبنى نوعا مستجدا من رأسمالية الدولة ، أطلقنا عليه مبكرا صفة "رأسمالية الجيش" ، راحت تزاحم "رأسمالية المحاسيب" الموروثة عن أيام المخلوع مبارك ، وتخلع عنها بعض امتيازاتها المتراكمة ، وبالذات فى مجالات العقود الجديدة مع الاستثمارات العربية والأجنبية المتاحة ، وبما حقق إنجازات مرئية فى توفير الطاقة الكهربائية بالذات ، إضافة لعدد من مشروعات الإسكان الاجتماعى والاستصلاح الزراعى ، غير أن انشغال رأسمالية الجيش الجديدة ، وصرف طاقتها فى مشروعات البنية الأساسية من حول قناة السويس ، وفى شبكة الطرق والأنفاق المتطورة ، والمدن الجديدة فى الصحراء ، وغيرها مما بدا من مشروعات الثمار المؤجلة ، كل ذلك حد من انفتاح طاقة الأمل والعائد المباشر الملموس فى اقتصاد الدولة الجديد ، خاصة مع غياب اختيارات سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة ، وإحلال فكرة المقاولة محل فكرة السياسة ، واللجوء إلى معالجات اليوم بيومه ، والتهاون فى كنس الفساد واسترداد الأموال المنهوبة ، وسيطرة جماعات المصالح على الحكومة والبرلمان والجهاز الإدارى للدولة ، وبما أدى إلى فوضى ضارية فى مشهد الاقتصاد بالذات ، أضافت إليها الضغوط الخارجية مددا بتقليص السياحة وعوائد عمل المصريين فى الخارج ، وأحرقت الأرض تحت أقدام الرئيس بجنون الدولار وتدمير الجنيه ، وهو ما فاقم من الأزمة ، خصوصا مع عجز الرئاسة عن توفير تعبئة شعبية فى أوساط الرأى العام ، واللجوء إلى الاقتراض والاستدانة غير المحسوبة ، والاستعانة بطاقم إدارة اقتصادية من "الفرز العاشر" مما كان أيام المخلوع ، وهو ما أدى إلى انتكاسة شاملة ، والعودة إلى وصفة "صندوق النقد الدولى" المهلكة اقتصاديا وسياسيا .
وقد وعدنا الرئيس السيسى بالبحث عن أفكار وبدائل خارج الصندوق ، لكننا نعود الآن لوضع الأسرى داخل الصندوق نفسه ، وإلى لعنة الإصلاح القديمة ذاتها .