أقدار الخيانة
الأحد، 31 يوليو 2016 05:07 م
حملات التطهير المجنونة فى تركيا علامة نهاية ، فقد يصلح التطهير لتمكين نظم السياسة فى بداياتها ، وكما جرى جزئيا فى سيرة السنوات الأولى لثورة 1952 فى مصر ، وجرى بصورة شاملة فى السنوات الأولى لثورة الخمينى الإيرانية ، لكن حالة إردوغان فى تركيا مختلفة ، فقد مكث الرجل وحزبه فى الحكم لقرابة العقد ونصف العقد إلى الآن ، ونجح بالمناورة والتسلل والتدريج لا بالصدمة ، وانتقاله إلى أسلوب الصدمات الآن لايفيده فى التمكين أكثر ، فهو يتصرف بذعر المرعوب من خطر السقوط ، ويحطم كل شئ من حوله ، وتنتابه الريب فى الجيش والأحزاب والنقابات والقضاء والشرطة والأكاديميين والإعلام والمعلمين ، ويحشرهم أفواجا فى المعتقلات، وجاوزت إجراءاته إلى الآن حدود إيذاء المئة ألف شخص ، فوق إغلاق آلاف المدارس والجمعيات والمستشفيات وعشرات الفضائيات والجامعات ، ويريد تقزيم تركيا الكبيرة حتى تصبح على مقاسه الشخصى .
ويبدو إردوغان كأنما يخون نفسه ، فقد صعد نجمه بالخيانات الصغيرة ، وينتهى الآن إلى الخيانة الكبرى ، والتى قد تعصف به بعد انكشاف واحتراق أوراقه كلها ، فقد بدأ الرجل سيرته إلى السلطة بخيانة أستاذه نجم الدين أربكان ، كان الأخير قد وصل إلى منصب رئاسة الوزراء بالمناصفة مع تانسو تشيلر زعيمة حزب "الوطن الأم" فى أواخر التسعينيات ، وعصف اعتراض عسكرى ناعم برئاسة أربكان ، والذى سارع بعد خروجه من الحكم إلى تغيير تسمية حزبه إلى "الفضيلة" بدلا من "الرفاه"، وانشق إردوغان مع صحبه على أربكان ، وتركوه يواصل رحلته إلى أن مات فى حزب أسماه "السعادة" ، لايحصل على مقعد برلمانى واحد بسبب إخوانيته القحة ، فى حين تقدم إردوغان فى لباس جديد ، وأنشأ حزب "العدالة والتنمية" كتوليف هجين ، يضم جماعة إردوغان وفئات من النخبة اليمينية ورجال الأعمال ، ويعلن عن نفسه بوصف العلمانى المحافظ ، ولاينطق بحرف عن الإسلام ولا عن الشريعة ، ويترك تركيا على حالها ، تموج بدور الدعارة وحركات الشواذ جنسيا ، واعتبر أن الاقتصاد هو المحك ، وحقق نجاحا اقتصاديا باهرا فى العشرية الأولى لحكمه ، وغازل حلم الأتراك القديم بالانضمام للاتحاد الأوروبى ، وأفاده الانضمام للمجلس الأوروبى فى فتح أبواب واسعة لتصدير البضائع التركية ، كما أفاده فى تقليص هيمنة الجيش التقليدية على السياسة التركية ، وإلى أن ألغى نصوص الدستور التى تعطى للجيش حق الوصاية ، وكسب لتركيا حريات دينية كانت محظورة ، أتاحت للمحجبات ـ كغيرهن ـ حقوق التعليم والتوظف فى الدوائر الحكومية ، وكان يبدو كأنه يصالح تركيا على نفسها ، وينهى الفصام النكد الذى خلقه كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية ، والذى بنى نظما مجحفة بحقيقة تركيا الثقافية ، وكان يعتبر أن الإسلام هو سبب تخلف تركيا ، ومنع كل إشارة ظاهرة أو ضمنية لإسلام تركيا المسلمة بالغالب الساحق من أهلها.
بدأ إردوغان كأنه يقدم توليفة مغرية ، ونوع من الإسلام الناعم الموافق للمزاج التركى، وكان سنده الأعظم هو فتح الله جولن الذى ينقلب بضراوة عليه الآن ، فجولن هو أكبر رموز جماعة صوفية عميقة التأثير فى التربة التركية الثقافية التاريخية ، تعود جذورها البعيدة إلى مولانا جلال الدين الرومى القطب الصوفى الشهير، وتعود جذورها القريبة إلى جماعة "النور" وشيخها الأكبر سعيد النورسى ، والتى مثلت تحديا متصلا لدولة أتاتورك الكارهة للإسلام من أصله ، وأضفى عليها فتح الله جولن علامات وأمارات العصرية والحداثة ، وأعطاها طابع "الخدمة" فى مجالات الإعلام والتعليم ورجال الأعمال والقضاء والجيش ، وجعلها منذ ثمانينيات القرن العشرين ، أوسع شبكة تأثير وريادة فى المجتمع التركى ، كانت هى البنية الأساسية الجاهزة لدعم صعود إردوغان الاقتصادى ، فالذى صنع مجد إردوغان هو فتح الله جولن ، وهو ما يفسر جنون انقلاب إردوغان عليه الآن ، فقد انتقل إردوغان إلى خيانة جولن ، كما خان أستاذه الإخوانى أربكان من قبل ، وبدا السبب هذه المرة ظاهرا ، فقد أغرى إردوغان ما رآه من صعود لدور الإخوان فى بلدان الثورات العربية ، وشجعه على الحلم بدور لسلطان "عثمانلى" ، تكون الولايات الإخوانية العربية تابعة له ، ثم صدمه ما جرى فى مصر بالذات ، والإنهاء الدرامى لسيرة الإخوان بانتفاضة عشرات الملايين من المصريين فى 30 يونيو 2013 ، وهو ما لقى صداه بعدها بشهور فى مظاهرات ميدان "تقسيم" باسطنبول ، ثم كشف جماعة جولن لفساد إردوغان وعائلته وقادة حزبه ، وشعر إردوغان بالفزع والأرض تهتز من تحت أقدامه ، وزاد فى خشيته من أشباح انقلابات قد تدبر ضده ، وداخله الشك حتى فى قادة حزبه الذين تخلص منهم تباعا ، وعلى طريقة ما جرى مع عبد الله جل وأحمد داود أوغلو ، وإلى أن جرى انقلاب "البوكيمون" العبثى أخيرا ، وكان إردوغان يعلم به قبل أن يحدث ، وسمح بمروره توقيا لانقلاب أخطر ينتظره ، فقد تطور لديه إحساس عميق بقرب النهاية ، وبأن جهة ما قررت إنهاء دوره على المسرح التركى ، وهو ما يفسر تصفياته المتوالية فى الشرطة والقضاء والإعلام والإدعاء العام منذ نهايات 2013 ، والتى أعلن وقتها عن كشف مؤامرة مدنية ، ثم تفاقمت حالته "الوسواسية" بعد التمرد العسكرى الأخير ، وتحول إلى الشك فى كل شئ من حوله ، وبدا أن "عفريت" جولن شبح يطارده فى الصحو والمنام ، ولأن جماعة جولن سرية جدا ، وعهودها الصوفية تحمى أسرارها ، فلم يجد إردوغان غير سبيل التحطيم و"التلطيش" بالجملة ، وكل يوم يصدر قرارا أو مرسوما "هتلريا" بالاعتقال أو بالعزل ، وإلى حد يهدد بإفراغ تركيا من كل مؤسساتها المدنية والإعلامية والقضائية والعسكرية ، وكأنه يريد أن يخربها و"يقعد على تلها" ، فهو مهووس بطبع الخيانة، ويخشى أن خيانته لجماعة جولن سوف تنتهى به إلى مزابل التاريخ .
لقد بدأ إردوغان عده التنازلى الأخير، وقد يدعو بعد حملات التطهير إلى انتخابات مبكرة ، يفوز بها ويصبح سلطانا ، ينتظر أقدار الخيانة من بلاطه "العثمانلى" ، فقد عاش الرجل وصعد بالخيانة ، وأغلب الظن أنه سيموت بأقدارها القاسية .