من عصر القوميات إلى عصر التفتت: حتمية جديدة للتاريخ ؟
السبت، 23 يوليو 2016 04:42 م
نعم .. هل هى حتمية جديدة للتاريخ ؟ وهل هذا أوانها المقدور ؟ وهل قادت تصرفات البشر أرضا ودولا منذ نهاية القرن الثامن عشر ، حين برزت القوميات ، إلى الخريطة السياسية العسكرية ، بل والمناخية الجارية جريا والصاعدة صعودا ، بلا هوادة ؟
أم أن الحتمية المقدورة هى من قاد البشر ، أرضا ودولا ومناخا إلى انتقال اعصارى من عصر القوميات والامة الواحدة ، الى عصر الفتات ، والتفتيت ، والتشظى ؟!
هذا هو السؤال وتفريعاته المترتبة عليه ، وتلك هي المشكلة ، وذاك هو المأزق التاريخي ، الذي تمر به البشرية جميعا ، وفي القلب منها ، الشرق الأوسط ، وفي قلب القلب منه ، العالم العربي .. الذى هو منطقة ومركز دوران الأرض ، بتكوينها الدينى و الجيولجي ، وتركيبتها البشرية ، ومنمنماتها الطائفية والعرقية والسياسية جميعها .
لقد مضي التاريخ دينيا ومذهبيا يقود البشر إلى حضارات نهضت على أسس دينية نقية المنابع صحيحة التطبيق ، منها الحضارة الغربية المسيحية ، وقبلها الحضارة العربية الاسلامية ، ومع نشوء الأفكار السياسية التى تمردت على فكرة الحكم الالهى ، واعلان العصيان علي الملوك والخلفاء والامراء الذين انتهكوا جوهر الدين ، واستعملوه لتبرير الحرام السياسي والعسكري ، بل والاخلاقي ، ، نجح فريق من القادة السياسيين والعسكريين متأثرين بفكرة الأمة الواحدة ، ذات اللغة الواحدة والارض الواحدة ، والمصير الواحد ، نجحوا في تنفيذ فكرة الدولة القومية . كان مولد عصر القوميات في نهاية القرن الثامن عشر وازدهر طوال القرن التاسع عشر ، وكان للثورات الصناعية والليبرالية أثر كاسح على نمو الدولة القومية ، وبخاصة مع الحقوق الانسانية التى اقرتها دساتير ترعى الحريات العامة وتحمي الحريات الخاصة لحد التقديس .
يمكن القول أيضا ان عصر القوميات ذاته بدأ يتخذ اتجاها فرعيا ببطء ، حين ذهبت مجموعات قومية إلى التوحد السياسي والعسكري والمالي الي حد كبير ، رأيناه في نموذجين لم يصمدا لحركة التاريخ ، هما الاتحاد السوفيتي ، الذي تفتت بفعل التناقضات الداخلية التى فجرتها ضغوط رأسمالية وتكنولوجية غير مسبوقة ، والآخر هو الاتحاد الأوربي المتداعى ، خرجت منه المملكة المتحدة ، فأنذرت بتساقط نشيط لبقية قطع الدومينو .
أسرعت بريطانيا إلى الخروج ، استجابة لهاجسها التاريخى بأن الاندماج في الكيانات الكبيرة لم يعد يصلح لاستقبال الانفجار الكبير القادم ، ولأن بريطانيا تجيد قراءة التاريخ السياسي للعالم ، ولأنها صانع أساسي لتاريخ قطاعات جغرافية شاسعة منه ، فإنها قرأت مبكرا عناوين واشارات العصر القادم .. عصر التفتيت .
استوفت اذن الدولة القومية كل شروط الصلاحية الزمنية ، وبدا التاريخ كانه يتململ ، وينفض اثقال البشر وأخطائهم وخطاياهم عن كاهليه وظهره . أصحاب الحظ الطيب هم الذين يتململ التاريخ تحتهم ولا ينفضهم أو يركلهم ، لكنه لايتوقف عن ارسال هزات خفيفة ،الي متوسطة القوة من آن لآخر . الولايات المتحدة تعيش حاليا مرحلة التململ . أجزاء من اوروبا ، ربما تغط في السبات السياسي ، لكنها جميعا قد يباغتها الثوران الداخلي . في الولايات المتحدة توجد العلامات والنذر والرسائل .. التراجع الاقتصادي المستمر ، وزيادة الاحتقان العرقي والاجتماعي بين السود والبيض ، وصعود اليمين المتطرف الرافض أصلا للكيانات الكبيرة ، وترامب نموذجا . لقد حصل دونالد ترامب علي ترشيح الحزي الجمهوري ليخوض انتخابات الرئاسة الامريكية ، وسواء فاز الجمهوري المتعصب المتطرف كاره المسلمين والسود ، أو لم يفز ، فإن روح الفاشية والعداء واجواء التوتر والكراهية والتوجس ، صارت بمثابة حزام ناسف في خصر الفيدرالية الامريكية ، يبدو هيكليا حتى الآن ، لكنه سينشط مع اشارة البث المنتظرة من الحتمية التاريخية بأنه آن الآوان للزوال، والانتقال الى عصر التفتيت ، الذي ساهمت في صنعه بامتياز كل الادارات الامريكية ذاتها ، وبلا رحمة ، وكنا أيضا عربا ومسلمين تحت أحذيتهم وجنازير دباباتهم !
الدين الاسلامى شيد دولته وحضارته ، حين استمسك الخلفاء والحكام والولاة بالعدل والتسامح والمساواة . تساقطت الدولة الاسلامية والحضارة العربية الاسلامية ، حين وقع الشطط وضرب عرق الفتنة ، وصارفينا شيعة وسنة ، وتفرع من النهرين روافد وروافض ، نعاني وسنعاني منهما اعظم المعاناة ، ودماء غزيرة ستملأ الطرقات .
تتفتت القوميات الآن بفعل التطرف ، وهذا التطرف في الشرق قد انجب أو ايقظ التطرف في الغرب ، فالتطرف قادم الى فرنسا والي ايطاليا ، بل ان رئسة وزراء بريطانيا تيريزا أعلنت بعد اقل من عشرة أيام على توليها السلطة انها مستعدة لاستعمال السلاح النووى ولن تتورع عن قتل مئات الألوف من الابرياء ..!
وما حدث فى تركيا هو أن حاكما متطرفا يصارع حتمية التاريخ . يريد رجب طيب اردوغان المتطرف ، والراعي لجماعات الارهاب ، من دواعش الي اخوان ، ان يتصدر الموجة لينقل الي جيرانه تبعات وعواقب وتكاليف الزالزل التاريخي القادم . هو الفيروس لغيره ولمن حوله من دول المنطقة ، وهو من تطعم بالفيروس ليقي نفسه .
أين نحن كمصريين وكعرب من التكلفة الباهظة لركلة التاريخ لمؤخراتنا البليدة ؟
للأسف والأسى ان جزء عزيزا منا ، ينجرف إلى عين الاعصار منقادا إلى رؤية تعميه ، وإلى مصلحة ستنقلب عليه ، وأعنى بذلك المشاركة في تدمير سوريا الحبيبة ، تحت أي دواع أو مبررات ،لا تسعد الإ الشيطان ، والأمريكان !
ومن أسف أن عين الاعصار الكاسح يمكنها أن تفور فوران التسونامي ، لتكسح من ظن أنه بالأطراف .
ونحن في مصر ، ركبنا التطرف لمدة سنة وظاجن أنها لخمسة قرون تالية، ليعجل بالحتمية ويهدر الدولة الوطنية ، ويفتت القومية المصرية ، لكن وقع الأمر المحتوم . لاينسى التاريخ أن مصر هي أول دولة وطنية قومية ، وانها بمركزيتها وحصارتهاوعنفوانها ، سبقت التاريخ ذاته ، وحتمياته الجدلية ، وهو جاء من بعدها !
من هنا كانت الركلة المليونية التى وجهتها ثورة الثلاثين من يونيو٢٠١٢، الى دعاة اسقاط الدولة المصرية وتغيير الهوية ، ممن جاءوا في عباءة ٢٥ يناير السوداء ، عباءة اخوانية وشيعية معا ، وتلك معجزة شاذة ، ان اجتمع نقيضان ليخربا كيانا قوميا ، ثم يتواجهان فيما بعد لاستكمال مسلسل الخراب والتفتيت .
مانراه في العالم حاضرا هو تاريخ يتململ أو ليثور. الامة الحقيقية هى من تطوع بنيران وحدتها وانصهارها الابدي ، جموح التاريخ لعنفوانها الوطنىً، وتقبض علي هويتها بالنواجذ . تعبير قديم صحيح لكنه يستوفي وصف الاحتياج الذى ننشده .
مصر إذن، وفى الوضع الحالى تواجه التاريخ .. وتلك هى الروعة ، روعة المكان ورعة السكان !