انتقام "أمريكانى"
الخميس، 26 مايو 2016 08:14 م
فى لحظات الخطر، تحتشد نفوس الناس ، وفى لحظة إسقاط طائرة مصر للطيران القادمة من باريس ، تحولت مصر كلها إلى قبضة يد ، وتحولت الأحزان من نقمة إلى نعمة ، وأزاحت دموعنا ضلالة الغشاوات الكثيفة عن الأبصار.
وقد استشعر المصريون رائحة الغدر "الأمريكانى" فيما جرى ، وضغطت على الذاكرة المثقلة معانى حوادث توالت ، وبدت على قدر من الغموض الذى لاتنفك أسراره ، وبدت أهدافها موحدة فى سياق لا يخفى ، من حادثة إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء ، وإلى حادث القتل المحير للباحث الإيطالى الملغز جوليو ريجينى فى القاهرة ، وإلى حادثة إسقاط الطائرة المصرية الأخيرة فوق البحر المتوسط ، وبدا القاسم المشترك فى كل هذه الحوادث ظاهرا ، وهو "دق الإسفين" ، وتقويض علاقات مصر النامية مع أطراف دولية بعينها ، من روسيا إلى إيطاليا إلى فرنسا ، فقد نمت علاقات مصر مع روسيا فى مجالات السياسة والسلاح والتصنيع والمشروع النووى ، وتطورت علاقات البترول واكتشافات الغاز مع إيطاليا أكبر شريك اقتصادى أوروبى لمصر ، ودخلت على الخط صفقات سلاح وحاملات طائرات من فرنسا إلى مصر ، وبدا ظل هذه التطورات مرخيا مرميا على الحوادث الغامضة الدامية ، والتى قد تتلوها حوادث جديدة فى السياق نفسه.
ونعرف أن التاريخ ليس كله مؤامرات ، وأن داء تفسير كل شئ بالمؤامرة قد يغيب العقل ، وينشر نوعا من "البلاهة" العامة ، لكن الاحتكام للعقل ، ومراجعة حوادث التاريخ ودروسه وعبره وعظاته ، يقول لنا شيئا غاية فى البساطة ، هو أن التاريخ كله ليس مؤامرة ، لكن التاريخ ـ أيضا ـ لا يخلو من مؤامرات ، ولا من خطط تدبر فى خفاء ، خاصة إذا كان المستهدف بالمؤامرة فى حالة ارتباك ، ويبدو كأنه لا يعرف ـ بالضبط ـ من أين تأتيه الضربات ؟ ، ويسهل خداعه وتزييف وعيه ، وعلى طريقة ما يجرى فى مصر والمنطقة من حولها ، واستسهال توجيه الاتهامات حصريا إلى جماعة الإخوان أو إلى تنظيم "داعش" ، أو إلى صلات الجمع والتداخل المنظورة بينهما ، فقد يصح ذلك فى تفسير حوادث عنف وإرهاب داخلى ، لكنها قد لا تصح ، ولا تريح ، فى تفسير حوادث كبرى ، من نوع إسقاط الطائرة الروسية ، أو إسقاط الطائرة المصرية ، وقد كانتا على ارتفاعات وصلت إلى 37 ألف قدم ، وبعد زمن وصل إلى أربع ساعات طيران متصل كما فى حادثة الطائرة المصرية ، وهو ما يعنى أن التدبير الإرهابى قد يرد نظريا ، وعلى طريقة ما قيل أنه جرى بزرع قنبلة فى حادثة إسقاط الطائرة المدنية الروسية ، وكان أول ماورد للأذهان مع حادثة الطائرة المصرية ، وإن لم يلق الرواج نفسه إلى الآن ، فالمطلوب هو اتهام مصر لا اتهام فرنسا ، وترويج فكرة "زرع قنبلة" لا يحقق الهدف ، وينحو باللائمة والمسئولية على فرنسا ، وعلى نقص إجراءات الأمن والسلامة فى مطار "شارل ديجول" ، ودون أن يقود ذلك بالضرورة إلى غضب مصرى يدمر العلاقات مع فرنسا ، وهو ما يفسر طبيعة الروايات الأمريكية لما جرى هذه المرة ، والتى يجرى تسريبها عبر وسائل إعلام بعينها ، فقد فضلت الروايات الأمريكية نسبة حادث الطائرة الروسية إلى جماعة "داعش سيناء" ، وبهدف تدمير الثقة فى إجراءات الأمن بالمطارات المصرية ، و"دق إسفين" مؤثر بالسلب على العلاقات المصرية ـ الروسية المتطورة ، بينما مالت الروايات الأمريكية المروجة إلى لوم مصر ـ لا فرنسا ـ فى حادث الطائرة المصرية المنكوبة ، وروجت لكذبة مفضوحة عبثية ، تدعى مسئولية الطيار المصرى "الذى قد يكون حاول الانتحار" ، وعلى الطريقة ذاتها التى أغلقت بها ملف سقوط الطائرة المصرية فى المحيط الأطلنطى بالقرب من الشواطئ الأمريكية ، وهى الحادثة التى جرت عام 1999 ، وأنهت حياة مئات ، بينهم عشرات من خيرة العسكريين المصريين ، وادعت أمريكا وقتها ، أن الطيار المصرى الشهيد البطوطى هو الذى فعلها ، وأنه أقدم على الانتحار ، وبعد أن قال عبارة "توكلت على الله" ، مع أن كل المصريين ، وكل المسلمين ، ينطقون هذه العبارة المعتادة فى كل حين ، ولبعث الثقة والطمأنينة فى النفوس ، لكن الأمريكيين كان لهم رأى آخر عظيم الجهالة والصفاقة ، وعدوا العبارة المطمئنة دليلا قاطعا على نية انتحار الطيار (!) .
هذا التحول فى التفسيرات ، ومن مواقع تدعى العلم بما يخفى ، وبفضل امتلاك التكنولوجيا والخبرة المتقدمة ، وسلاسل الأقمار الصناعية الدوارة فى الفضاء اللانهائى ، واعتياد الناس تصديق الأمريكيين ، على محمل أنهم يعرفون أكثر ، كل ذلك ـ وغيره ـ جعل لأمريكا سلطة التفسير حين الغموض ، ومكنها من التلاعب بالأوراق ، فقد صدقت فورا على بيان منسوب لداعش فى الفضاء الإلكترونى ، ادعى المسئولية المباشرة عن حادث إسقاط الطائرة الروسية ، ودون أن يقدم دليلا ولا شبه دليل ، ولا حتى اسم منفذ العملية "المباركة" ، وكانت حجة واشنطن فى التصديق ، أن لديها معلومات مخابراتية تخصها ، تماما كما فعلت المخابرات البريطانية ، ولم تذكر المخابرات الأمريكية ولا البريطانية وقتها طبيعة مصادرها ، والتى تبين اسمها سريعا ، فقد نشرت صحيفة "جويش كرونيكل" اليهودية البريطانية وقتها تقريرا منيرا ، وكشفت أن المخابرات الإسرائيلية "الموساد" هى التى أعدت تقرير مسئولية "داعش" ، وهو ما يعنى أن هذه "الداعش" بدت كقناع مستعار فى القصة كلها ، وكغطاء لعملية مخابرات صرفة ، استهدفت تدمير علاقات مصر بروسيا ، وهو خداع يبدو أنه تكرر من ذات الأطراف فى عملية إسقاط الطائرة المصرية ، والتى توارى فيها هذه المرة قناع "داعش" ، وجرى الترويج لسيناريو انتحار الطيار المصرى الشهيد ، أو على الأقل تحميله المسئولية بأحاديث الدخان وفتح النوافذ ، ودون أن يتطرق أحد بالطبع لحقيقة ما جرى ، ولا لاحتمالات أكثر واقعية وقابلية للتصديق ، ومن نوع إمكانية إصابة الطائرة بصاروخ مناورات أمريكية ـ إسرائيلية كانت مقررة فى البحر المتوسط ، وعلى مقربة شديدة من ذات المنطقة التى سقطت فيها الطائرة ، وهو احتمال وارد جدا ، فياسا إلى الدقة المقصودة فيما جرى ، وتفجر الطائرة لحظة عبورها بالضبط إلى المجال الجوى المصرى من المجال الجوى اليونانى ، وليس بالضرورة أن يكون السبب فى صاروخ ، بل التشويش الإلكترونى ممكن جدا ، وإفساد أجهزة الطائرة عن بعد تستطيعه أمريكا بأكثر من غيرها ، ويسبب خللا مفاجئا ، سارعت أمريكا لتفسيره بترويج قصة انتحار الطيار المصرى (!) ، ومن المعلوم فى حوادث الطيران ، أنه لا توجد نتيجة قاطعة يمكن التوصل إليها حتى بعد انتهاء التحقيقات ، والتى قد يطول مداها إلى سنوات ، تكون القصص المروجة فيها قد كسبت الجولة ، وعلى طريقة ترويج أمريكا لقصة إسقاط طائرة ماليزية فوق أوكرانيا بصاروخ روسى (!) .
إذن ، فالقصة تنطوى على سياسة فى غالب الأحوال ، وليس على ادعاءات بتفسيرات علمية ولا شبه علمية ، وأيا ما كان السبب الدقيق فيما جرى للطائرة المصرية ، والذى قد لايعلن أبدا ، فإن الأثر المقصود ظاهر بلا ريب ، خاصة مع توالى حوادث متفرقة ، قصدت كلها شيئا واحدا ، هو عزل مصر عن أصدقائها الدوليين الجدد ، وإنهاك اقتصادها إلى حد الإفلاس ، ووقف التطور فى تسليح جيشها ، وإعادته إلى حظيرة التحكم الأمريكى الحصرى ، وهو ما يشير بالبداهة العقلية إلى المستفيد الأول من جرائم ارباك مصر ، وإجراء عمليات "خض ورج" و"غرام وانتقام" ، تعيد مصر إلى القفص الحديدى ، وبديهى أن واشنطن هى صاحبة المصلحة الأولى ، ومعها بالطبع ارتباطاتها وتوابعها فى لندن وتل أبيب ، وفى عالم التداخلات السرية مع جماعات الإرهاب وجماعات البيزنس فى مصر ، وقد قالها الرئيس السيسى مرة فى لقاء مغلق مع عدد من المثقفين ، قال السيسى ما نصه "أمريكا كانت بترفع سماعة التليفون وتملى أوامرها" ، وأضاف الرجل ما مفاده "ولأن ذلك لم يعد يحصل ، فقد عانينا وسنعانى " ، ولا يقول السيسى ذلك علنا فى العادة ، لا يقول للناس حقائق الكواليس ، بل يردد دائما عبارة غائمة عن "أهل الشر" ، ويفسرها إعلام الطبل والزمر بمبالغات فجة فى أوزان "الإخوان" و"6 أبريل" وبقية القائمة إياها ، ربما لصرف النظر عن الاتهام المباشر للأمريكيين ، ولإمبراطوريتهم السياسية والاقتصادية والمخابراتية الهائلة فى مصر ، بينما يعلم الرئيس بالذى لا يعلن ، ويعرف طريقة أمريكا التى تعلم فيها ، والتى تتدرج من التعنيف الدبلوماسى فى اللقاءات المغلقة ، ثم إلى الضغط والدهس الاقتصادى ، ووصولا إلى مرحلة أعمال المخابرات القذرة ، والتظاهر بمواساة مصر فى مصائبها ونوازلها ، والمشاركة البحرية والجوية فى عمليات انتشال الحطام والأشلاء ، وعلى طريقة "يقتل القتيل ويمشى فى جنازته" .
نعم ، يعلم السيسى من أين تأتى الضربات ؟ ، ويتصور أنه يمكن استرضاء الأمريكيين بالانفتاح أكثر على إسرائيل ، وليس بتعبئة شعبية وطنية ضد مؤامرات "الأمريكان" ، وهذا هو الخطأ الذى قد يجعلنا نخسر المعركة قبل أن نخوضها .