سجن الشباب عار علينا
الإثنين، 16 مايو 2016 06:32 م
على مدى عام كامل ، دعونا إلى تنظيم حملة وطنية واسعة لإخلاء سبيل عشرات الآلاف من المعتقلين أو المحتجزين بغير تهم العنف والإرهاب المباشر ، ووصفنا المطلوب مرات بأنه "إخلاء سبيل مصر" .
وباستثناءات عابرة لأعداد صغيرة أطلق سراحها ، فقد ظلت المأساة تتفاقم وتتضخم ، وصارت ورما سرطانيا فى قلب مصر الموجوعة ، وسيق المئات الإضافيين إلى السجن المغلظ فى الأيام الأخيرة ، ولمجرد أنهم اعترضوا على اتفاقية "تيران وصنافير" ، ونظموا مظاهرات سلمية محدودة ، خلت من الشغب والعنف ، ولم تصب فيها بأذى أى ممتلكات عامة أو خاصة ، وكان نصيبهم السجن لمدد تطاولت إلى خمس سنوات ، وصدرت الأحكام فى أيام ، وشملت شبابا أغلبهم دون سن العشرين ، ربما لا يعرفون أين تقع "تيران وصنافير" أصلا ، لكن الغضب متعدد الموارد شحن نفوسهم ، ودفعهم إلى مجرد التعبير عن رأى هم أحرار فيه ، وكان يمكن تركهم لحال سبيلهم ، أو الإفراج عنهم بعد ساعات من احتجازهم ، وعلى نحو ما جرى لمئات سبقت فى مظاهرات ماعرف بيوم "جمعة الأرض" ، لكن الرشد الموقوت لسلطة غاشمة سرعان ما غاب ، وبرزت روح انتقام عظيمة الغباوة ، وتجبر عليهم جهاز الأمن ، ووجهت لهم تهم عشوائية من نوع قلب نظام الحكم ، وكأن الحكم ريشة فى هواء ، يلعب بها الشباب فى مباريات ـ أو مظاهرات ـ "الكرة الطائرة" ، فالحكم الذى يخاف من تظاهر مئات لا يستحق البقاء ، وقد تظاهر ملايين الفرنسيين ضد قانون العمل برغم إعلان حالة الطوارئ ، وبرغم موجة إرهاب عاتية تعرضت لها باريس ، ولم يقل أحد هناك أن ضمان الأمن يتعارض مع حق التظاهر ، ولا اتهموا المتظاهرين بالسعى لقلب نظام الحكم ، ولم يقبض إلا على عدد محدود من المتظاهرين ارتكبوا أعمال عنف وشغب ، ويحالون إلى محاكمات لاتنتهى عادة إلى سجن نافذ مغلظ أو مخفف ، بل يحرص القضاة على أن تكون أحكام السجن فى حال التظاهر مشفوعة دائما بإيقاف التنفيذ مع الغرامة .
ومن العبث بالطبع أن نتحدث بالعقل إلى جهات الأمن ، فقد جبلت على مواريث الغباوة ، ولا أن نتحدث عن قضاة الأحكام المغلظة ، فهم يحكمون بما تيسر لهم من أوراق ، ومن تكييف للتهم فى تحقيقات النيابة ، ومن قوانين ظالمة لم يصنعوها ولا شرعوها ، ومن نوع القانون العجيب الشاذ المعروف باسم قانون تنظيم التظاهر السلمى ، والمطعون عليه قضائيا أمام المحكمة الدستورية العليا منذ قرابة السنتين ، وقد صدر فى وقت تولى المستشار عدلى منصور لمسئولية الرئاسة المؤقتة ، ثم عاد منصور عقب انتهاء رئاسته للجمهورية إلى مقعده فى رئاسة المحكمة الدستورية ، ولا نريد أن نخاطر بتفسير سر تأخر المحكمة الدستورية فى نظر الطعن ، اللهم إلا إذا كان قضاة المحكمة الدستورية يستشعرون الحرج ، ويؤجلون النظر فى طعن على قانون أصدره رئيسهم ، وربما إلى نهاية فترة رئاسة عدلى منصور للمحكمة ، ونتمنى ألا يكون ذلك صحيحا ، وإلا كان معناه اتصال مأساة عشرات الآلاف من الأسر، غاب أبناؤها وراء الأسوار بسبب نصوص القانون الظالم ، ودون أن ينسب إليهم عنف ، ولا نية بالشروع فى عنف ، وكل جريرتهم ، إن كانت هناك جريرة من الأصل ، أنهم تظاهروا سلميا ، والتظاهر حق دستورى ، لا جريمة فيه ، وبغير إذن ولا ترخيص من وزارة الداخلية ، فالدستور يؤكد الحق فى التظاهر والإضراب والاعتصام السلمى ، وبغير ترخيص من وزارة الداخلية ولا من غيرها ، وبمجرد الإخطار القانونى المسبق ، بينما أسقط القانون الظالم نصوص الدستور القطعية من حسابه ، وجعل وزارة الداخلية هى الخصم والحكم ، وأتى بعقوبات مفزعة ، تجعل ممارسته الحق فى التظاهر السلمى مستحيلا ، وربما مقصورا على فئات ممن يسمون "المواطنين الشرفاء" بالتعبير المصرى الدارج الساخر، وهم زرافات من البلطجية وأرباب السوابق والبؤساء فى قاع المدن ، تجلبهم أقسام الشرطة من دفاترها إلى مظاهرات تعيسة كسيحة العدد ، وتصور لهم أنهم ذاهبون إلى معارك ضد "أعداء الوطن" ، وهى التسمية التى تلصق بالغالب الساحق من المصريين الناقدين ، وبالفئات الحية بالذات ، وعلى طريقة تكرر مأساة عسكرى الأمن المركزى فى فيلم "البرئ" ، والذى لعب دور بطولته ببراعة أحمد زكى أفضل ممثل فى تاريخ السينما المصرية على الإطلاق ، وجسد محنة مواطن نزعوا عقله وقلبه وضميره ، وحولوه إلى سكين يذبح أهله ، وإلى بلدوزر يدهس أسرته ، وعلى نحو ما بدا فى ممارسات قبيحة قديمة متجددة ، كان عنوانها الأبرز "حبيب العادلى" وزير الداخلية الأخير فى أيام المخلوع مبارك ، ويستعيدها الآن من يريدون إعادة ارتداء جلباب حبيب العادلى ، ودون وعى باختلاف الظروف بعد الثورة المصرية ، وتفتح وعى ملايين المصريين ، وسقوط حواجز الخوف ، وهو ما لا يدركه الحالمون بالعودة لارتداء جلباب حبيب العادلى ، فهم ينسون أو يتناسون شيئا غاية فى البساطة ، وهو أن شعب حبيب العادلى "تعيش أنت" ، وأن العادلى نفسه تحول إلى متهم مطارد ، ويحاكم الآن مجددا بجريرة إهدار مليارات الجنيهات فى مصاريف الأمن السرية ، وهى الجريمة التى تتكرر الآن ، ويظن مرتكبوها أنهم سيفلتون من عقاب قادم لا محالة .
ما علينا ، المهم الأن أننا بصدد مأساة متفاقمة ، تعانيها عشرات الآلاف من أسر المحتجزين فى غير تهم العنف والإرهاب المباشر ، وتحطم مستقبل شباب فى عمر الزهور ، وكل شاب معتقل هو أهم رأسمال فى حياة أمه وأبيه ، وكل أسرة صغيرة مكلومة ، ترتبط بأربع أسر أخرى على الأقل بعلاقات القرابة والنسب والمصاهرة ، وهو ما يعنى أننا بصدد دائرة متسعة جدا من انتشار الأحزان ، تطوى أعدادا قد تصل إلى حدود المليون مواطن مصرى ، تحترق قلوبهم وأكبادهم على ذويهم المحتجزين ، ويبيتون على ضيم ، وعلى كراهية ظاهرة ومستترة للصامتين جميعا ، فالساكت عن الحق شيطان أخرس ، وقد دعونا مرارا إلى مغادرة مقاعد الخرس ، وإدارة حملة وطنية لتبييض السجون السياسية ، ودون تمييز ولا استثناء سياسى أو جيلى ، ولم يتحرك أحد إلا لماما ، وفى صورة حقوقية باهتة ، يحسن أن نحذر من اختلاط فى أوراقها ، وتورط بعضها فى تمويل أجنبى نرفضه ، ونتحدى الدولة الكسيحة أن تصدر قانونا يمنعه ، وقد طالبنا بذلك على مدى ربع القرن الأخير ، ودون أن تستجيب الدولة المتورطة فى اقتصاد التسول وسياسة "الشحاتة" ، وهو ما يوجب الابتعاد عن هذا المستنقع كله ، وطرح قضية المعتقلين على بساط وطنى خالص ، يستهدف إنقاذ عشرات الآلاف من زهرة شبابنا ، وإنهاء أحزان قرابة المليون مصرى من المرتبطين بهم نسبا ، وأول وآخر دعوانا هى الالتزام بالدستور ، والذى تصطدم به تغليظات قانون التظاهر الظالم ، والذى تأخرت المحكمة الدستورية فى تقرير إنهاء العمل به ، ولا يتوقع أحد أن يلغيه "المينى برلمان" المنتخب من "مينى شعب" ، فهو أسير للذين صنعوه من جماعة البيزنس وجماعة الأمن ، ولا يتبقى بعد استنفاد السبل الممكنة نظريا ، سوى أن نضع الجرس فى رقبة القط ، وأن نحمل المسئولية للذى يتحملها فعلا ، فالرئيس السيسى هو المسئول سياسيا عن احتجاز عشرات الآلاف من الشباب ، وقد اعترف مرات بالمظالم الهائلة التى وقعت بحقهم ، ووعد بالإفراج عن دفعات ، ولم ينفذ سوى النزر اليسير العابر ، بل أن المئات القليلة التى أفرج عنها ، حلت محلها الآلاف من المحتجزين الجدد ، وقد يتحدث الرئيس السيسى عن إنجازات وإنشاءات مادية لا ينكرها أحد عاقل ، لكن الإنجازات المادية لا تحجب حقيقة الإخفاقات السياسية والإنسانية ، فلا يعقل أن يتحدث الرئيس السيسى عن 2016 كعام للشباب ، ثم يتحول العام نفسه إلى موسم لسجن الشباب ، ولا يعقل أن يشيد الرئيس بحماسة الشباب وغيرتهم على الوطن ، ثم لا يكون نصيبهم إلا السجن فى عهده ، ويملك الرئيس بصلاحياته الدستورية أن ينهى مأساة المليون مواطن مصرى ، وأن يقررعفوا شاملا ، يتم به إخلاء سبيل ذويهم ، ويحسب تفرقة صريحة بين الإرهاب والسياسة ، فالمتهم بالإرهاب له أن يحاكم ، والمتهم بالسياسة والتظاهر ليس مكانه السجن أبدا ، هذا إن كنا نريد إقرار الحد الأدنى من العدالة فى هذا البلد ، فذهاب الشباب إلى السجون عار علينا جميعا ، عار على من فعل وتواطأ ، وعار على من صمت .