جلباب حبيب العادلى!
الإثنين، 16 مايو 2016 06:23 م
ربما لا يوجد تعريف للغباء أفضل مما قاله ألبرت أينشتاين أذكى علماء الفيزياء النووية، فالغباء هو أن نتوقع نتائج مختلفة مع تكرار الشئ نفسه، وقد نضيف أن تكرار الخطأ نفسه يؤدى إلى نتائج أفدح فى السوء.
وأخطر ما يجرى فى مصر الآن هو «غباوة» السلطة، وفقر خيالها المدهش، وتدنى مقدرتها على التصحيح الذاتى، وعودتها إلى الاغتراف من معين الأخطاء القاتلة ذاتها، ناسية أن تكرار ما كان فى الاقتصاد والأمن والسياسة، لن يؤدى إلى شئ آخر غير مصير الذى كان، فقد خلع الشعب المصرى رئيسين فى أقل من سنتين ونصف، ودون أن يؤدى خلع الرأس إلى تغيير النظام، بسبب طبيعة الثورة التلقائية بغير تنظيم قادر يسند ويغير، وهو ما أدى إلى مراوغات وارتباكات فى طبيعة السلطة، فلم تصل الثورة إلى السلطة بطبائع الأحوال، وتغيرت وجوه الذين توالوا على مسرح السلطة، زالت الصفوف الأولى للسلطة القديمة، وآل القرار لعناصر من الصف الثالث إلى العاشر، وبكفاءة أقل، وبانزلاق أكبر إلى تقليد الكبار الذاهبين إلى السجن أو إلى العزلة، وكأن التقليد والاستعادة الحرفية للأخطاء ذاتها، كأن التكرار ينقذ «الشطار»، أو يجنبهم مصائر السجن والعزلة ذاتها.
ومع «عبقرية» الغباوة والتقليد والتكرار، تبدو المأساة أفدح مع بنية السلطة الحالية، وارتباكاتها التى لاتنتهى إلى حسم باتر، فثمة سلطة هى أقرب إلى «السلطة» بفتح السين واللام، سلطة منشقة على نفسها، رئيس جديد يحكم بالنظام القديم نفسه، رئيس يرتكز إلى سلطة الجيش بمعناها الرمزى القوى فى مصر، ويحقق إنجازات لا تنكر، تشرف عليها وتديرها هيئات الجيش، وتتم بسرعة وكفاءة وجودة منظورة، ويعمل بها إلى الآن ما يزيد على المليونين من المهندسين والفنيين والعمال المدنيين، وتكلفت إلى الآن ما يزيد عن التريليون جنيه مصرى بحساب الرئيس، لكن أغلب المصريين العاديين لا يكاد يشعر بآثارها الإيجابية الحالة، فأغلبها فى خانة مشروعات البنية الأساسية الكبرى، والتى لا تؤتى ثمارها بالطبيعة إلا بعد حين وسنوات، فوق أنها بعيدة عن عين وقلب المواطن العادى، ربما باستثناء مصانع ومزارع "جهاز الخدمة الوطنية" التابع للقوات المسلحة، ومشروع القمح الرمزى الموحى فى منطقة «الفرافرة» بالصحراء الغربية، وربما لهذا السبب تتولد المفارقة، فالرئيس يشكو دائما من نقص الاعتراف العام بإنجازاته، وتعهد بتقديم كشف حساب مع اكتمال نصف مدته الرئاسية الأولى، ولا بأس بكشف الحساب، لكن الرئيس لا يلتفت أبدا إلى كشف السياسة، ولا إلى كونه صار رئيسا للبلد كلها، وليس ـ فقط ـ قائدا أعلى للقوات المسلحة، ويعيش الرجل فى جلباب الجيش، ويفضل طريقة عمل الجيش، ويأتلف مع تنظيم الجيش وانضباطه المعروف، ويتصرف على طريقة مقاولات الإنجاز، لكنه لا يلتفت بما يكفى إلى ما هو أبعد من تنظيم الجيش، ويتناسى حتى لا نقول وصفا آخر، أن تنظيم المجتمع مختلف عن تنظيم الجيش، وأن فكرة «المقاولة» قد تفيد فى كفاءة الإنجاز الإنشائى، لكنها لا تغنى أبدا عن فكرة السياسة اللازمة لتنظيم الدولة وتنظيم المجتمع، وكلما ظهرت له مشكلات فى الدولة أو فى المجتمع، كان يكلف أجهزة الأمن بملء فراغ السياسة، وأن تتفاهم مع «جماعة البيزنس» لتأليف برلمان «سد خانة»، أو أن يكلف أجهزة أمن بإنشاء أحزاب «صوبة» رديفة للحكم، أو أن يعهد إليها بالتحكم فى الصحافة، أو إنشاء سلاسل من الإذاعات والقنوات التليفزيونية، ودون وجود "محتوى سياسى"، أو رسالة معينة يراد ترويجها، وقد توحشت هذه الظاهرة الفارغة من المعنى، وتنافست فيها أجهزة أمن متعددة، وتوالت صراعاتها البينية المدمرة، فلم يعد جهاز أمن الدولة هو الوحيد «الشغال» فى السياسة والإعلام، كما كان عليه الأمر أيام المخلوع مبارك، بل اقتحمت الساحة أجهزة أخرى، ربما بإمكانات أوفر، ولكن بخبرات أقل، وبتعارضات فى المصالح، وانقسامات فى خطوط الوصل والفصل مع مليارديرات جماعة البيزنس، والتى تملك بدورها ما تساوم به، فقد أنفقت بسخاء على شراء أحزاب وإذاعات وصحف وقنوات تليفزيونية، ونجحت فى تشارك السيطرة مع جماعات الأمن على مشهد الدولة خارج الجيش، فقد سيطرت على «المينى برلمان» المنتخب من «مينى شعب»، وقد فاز من فاز فى البرلمان بعشرة فى المئة لاغير من إجمالى الناخبين المسجلين، ولا يبدو انصراف الشعب مهما عند جماعات الأمن ولا جماعة البيزنس، فالمهم ـ عندهم ـ أن تمت المقاولة، وأن امتلكوا إطارا مؤثرا فى عملية ترويض واحتواء قرارات الرئيس، وتوفير منبر لرأسمالية المحاسيب تنافس وتناهض به رأسمالية الجيش النامية، وما جرى فى البرلمان جرى مثله فى تشكيل الحكومات، فقد كان مبارك يشكل حكومات رجال الأعمال، وتدهورت الحالة أكثر، وصارت الحكومة، ووزارات الاقتصاد بالذات، فى حوزة «خدم» رجال الأعمال، ناهيك عن الفساد المتوحش فى الجهاز الإدارى للدولة، وغياب أى إجراء جاد أو شبه جاد لاستعادة الأموال المنهوبة، والتى تبلغ قيمتها ـ بحسب الأرقام الرسمية ـ ما يناهز التريليون أى الألف مليار جنيه، فى مخالفات أراضى المجتمعات العمرانية والطرق الصحراوية وحدها، مع خضوع قرارات الحكم لسطوة النهابين، وقسوة قرارات رفع دعم الطاقة على أغلبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى، وهو ما يثير غضبا شعبيا عارما، تزداد خطورته مع إغلاق سبل السياسة السلمية، وسيادة فكرة «المقاولة»، وتغول القمع، وعودة أجهزة الأمن للتمدد والتمطى فى الفراغ المخيف.
وبالجملة، تبدو «دائرة الجيش»، وأدوارها المتزايدة، هى الشىء الوحيد المختلف عما كان عليه الوضع فى أخريات زمن المخلوع مبارك، ويبدو الرئيس ساكنا فى هذه الدائرة، ومعتمدا عليها بالأساس، فيما يظل مشهد السلطة الباقى كما كان عليه، وربما أسوأ مع أحوال الارتباك البادية، واشتعال السباق إلى حيازة الغنائم، وحرق الأرض تحت أقدام الرئيس، وحرق الاقتصاد بجنون مضاربات الدولار، وسعى «جماعة البيزنس» للتحكم فى اختيارات الاقتصاد، وإلى حد الإعلان الرسمى المباشر عن عروض «رشاوى» لشراء جهاز الدولة، ومفاقمة ظواهر الاحتقان والظلم الاقتصادى والاجتماعى والسياسى، فيما لا يتقدم الرئيس لتصحيح الصورة، ولا لوقف الفوضى فى كيان السلطة المملوكية المنقسمة على نفسها، وكلما لاح خطر اجتماعى أو سياسى شعبى، لجأ الرئيس إلى فكرة «المقاولة»، وترك الساحة نهبا لتقديرات وتصرفات أجهزة أمن غبية بطبعها، تلجأ بدورها إلى اجترار الخطايا القديمة، وارتداء جلباب «حبيب العادلى» خادم مبارك الأمنى الشهير، وتكرار الغباوة ذاتها، فى سياق مختلف، وفى أزمات توالت، لن يكون آخرها أزمة وزارة الداخلية مع نقابة الصحفيين المصريين، وهى أزمة تلخص المشهد كله، وليست مقصورة على جريمة اقتحام قوات الأمن لنقابة الصحفيين، وهى غير مسبوقة فى التاريخ المصرى، ولم يكن المقصود منها مجرد اعتقال مطلوبين، اعتصما فى النقابة لساعات قليلة، ولا مجرد تنفيذ أمر ضبط وإحضار، بل بدا القصد ـ من قبل ومن بعد ـ ظاهرا، وهو الانتقام من المغزى التاريخى لنقابة الصحفيين، ومن الاحتجاجات على سلالمها التى دقت أعناقا وخلعت رؤساء، وأذلت مبارك والعادلى وزمرته، وجعلتهم لمن خلفهم آية تتلى، كان المقصود هو التحطيم المعنوى لقلعة الحرية التى يخشاها الطغاة، وهو ما ظهر فى حرب وزارة الداخلية ضد الكتلة الغالبة من الصحفيين المصريين، والتى اعتبرتها حربا مصيرية، ومعركة "تكسير عظام" للمتمردين الوطنيين، وقصفا لمبنى النقابة العريقة، والتى تحولت إلى ملاذ لغضب الشعب المصرى، فالقصة الأصلية فى غضب الشعب من خلال نقابة الصحفيين، وليست ـ فقط ـ فى غضبة الصحفيين من دوس كرامتهم وكرامة نقابتهم، وهو ما يفسر طبيعة الحملة الكبرى لتشويه الصحفيين، والتى تجندت لها طاقات وملايين جماعة البيزنس، مع ملايين المصاريف السرية لجماعات الأمن، وانفسحت لها صحف وإذاعات وتليفزيونات رجال الأعمال، فيما انهمكت "جماعة الأمن" فى إحياء وشد عصب العملاء والتابعين المعتمدين فى البرلمان وأجهزة الإعلام، وتكليف "جماعة الأمن" بأداء أدوارها طبقا لمذكرة تعليمات جرى تسريبها بالقصد أو بالغفلة، ولم تخرج عن نصوصها أبدا دعاوى المتزعمين للحملة، ومن نوع «جبهة تصحيح المسار» وأشباهها، والذين احترقت أوراقهم قبل أن يجف حبرها، وارتطموا بصخرة انكشاف «الملاعيب» القديمة البائسة، وانكشاف أسماء «الفرع الصحفى» لكتائب «المواطنين الشرفاء» بالتعبير المصرى الساخر الدارج، والذين أرادوا تقليد تكتيك حبيب العادلى المشهور فى اختراق الأحزاب وتمزيقها، وتصوروا أن ما كان قد يصلح للإعادة والتكرار، وبهدف تمزيق نقابة الصحفيين هذه المرة، وهو ما انتهى إلى عكس المراد بالضبط، فقد يطمح وزير الداخلية الحالى إلى تكرار ما كان، وإلى استعادة «الغباوات» ذاتها، وارتداء جلباب حبيب العادلى مجددا، لكنه ـ ومن خلفه ـ ينسون شيئا غاية فى البساطة، هو أن شعب حبيب العادلى «تعيش أنت».