من رحيق اللغة ابن زيدون

الأحد، 08 مايو 2016 05:09 م
من رحيق اللغة ابن زيدون
كمال الهلباوي يكتب


عاد إلينا بعد غيبة ، صديقنا المنوفى الخبير اللغوى الأحمدى الشلبى ، ليذكرنا بالاندلس وتاريخها ، و شعرائها وأدبائها، وفقهائها ، وفى مقدمة كل هؤلاء الشاعر العظيم إبن زيدون. يقول صديقنا العزيز:


"شهدت رياضُ قرطبة الفتانة؛ وملاعبها الفينانة؛ قصة الحب الملتهبة بين فتى الأندلس بل زينة شبابها وشاعرها المُفوه المثقف المرهف المرفه؛ ابن زيدون وزهرة وفراشة البيت الأموى؛ ولادة بنت المستكفى بالله؛ التى يًقال أنها كتبت بماء الذهب على عاتقها الأيمن:
أنـا واللـه أصلـح للمـعالى *** وأمشى مشيتى وأتيه تيها


وكتبت على عاتقها الأيسر:
أمكن عاشقى من صحن خدى *** وأعطى قبلتى من يشتهيها
والله أعلم إن كان ذلك حقاً أم كان إفتراءاً عليها.
كتبت ولادة الى ابن زيدون قائلة:
ترقب إذا جن الظلام زيارتى *** فإنى رأبت الليل أكتم للسر
وبالفعل ؛ التقى العاشقان؛ تحت جنح الظلام ؛برياض قرطبة الغناء الوارفة؛ يرشفان من رحيق وردها؛ وأزاهيرها رشفا؛ ويعبان عبا؛من كئوس العشق والهيام. وبعد قضاء ليلة هانئة؛ بكل صنوف الغرام؛ بعيدا عن أعين الرقباء. عبر ابن زيدون عن ذلك فى النونية قائلا:
سران فى خاطر الظلماء يكتمنا *** حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لم يستطع ابن زيدون؛ كتمان مشاعره؛ وكبح جماح خلجات قلبه؛ الذى كاد يطير من السعادة والزهو؛ ويطير معه لبه وصوابه؛ وتتطاير أسراره فبدت أمارات الحب؛ بادية على سكناته وحركاته؛ وقد تمكن فى نفسه الهيام والغرام. فقال:
ودَّعَ الصَبرَ مُحِبٌّ وَدَّعَك * ذائِعٌ مِن سِرِّهِ ما اِستَودَعَك
يَقرَعُ السِنَّ عَلى أَن لَم يَكُن * زادَ في تِلكَ الخُطا إِذ شَيَّعَك
يا أَخا البَدرِ سَناءً وَسَنا * حَفِـظَ اللَهُ زَماناً أَطلــَعَك
ً إِن يَطُل بَعدَكَ لَيلي فَلَكَم * بِتُّ أَشكو قِصَرَ اللَيلِ مَعَك


فى مستهل لقاءاتهما، نظم ابن زيدون مقطوعات قصيرة؛ مفعمة بالمشاعر الفياضة وصنوف من الرقة والعذوبة من نبع الأحاسيس الإنسانية المتوهجة؛ تلائم اللقاءات المتسارعة الإيقاع ونبضات القلوب الوالهة الوثابة؛ بصدق وحرارة عواطف جياشة؛ تعز عن النظير.


وقد ورد في كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لإبن بسام قوله:( كانت في نساء زمانها واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر. كان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر؛ يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها. تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أحساب، وطهارة أثواب، على أنها سمح الله لها وتغمد زللها، أطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها. كتبت - كما زعموا - على أحد عاتقي ثوبها، ما ذكرناه من شعر فى صدر هذا المقال.
وقد ورثت ولادة، عن أمها عينيها الزرقاوين وشعرها الأشهب؛وقوامها الممشوق الملفوف ؛وطولها المعتدل.إلى جانب رقتها وعذوبة عشرتها.


وكما جاء في كتاب (نفح الطيب) على البيتين السابقين أنها كانت مع ذلك؛ مشهورة بالصيانة والعفاف.


وقد شكك بعض النقاد والباحثون ؛ رغم ذلك فى خلقها وسلوكها ؛وإن أقروا بشاعريتها؛ وبجاذبية شخصيتها ؛وحضورها وحسنها مظهرا وجوهرا. وشك هؤلاء الباحثين ؛ أصابنا بالريبة والشك، فقد تراءى لنا ذلك التناقض الذي حمله قول بن بسام والمقري، إضافة إلى ما وصلنا منها؛ من شعر إباحي نعف عن ذكره. وهجاء مقذع؛ لا نحمده عند الرجال؛فكيف نسمعه من ولادة؟؟؟!!!!!!!..


ففى مجلسها، هام بها إبن زيدون، وملكت عليه قلبه وتعلقت هي به وأحبته بعمق، وجهرت بعشقها له إذا غاب عنها؛اشتعلت تشوقا إليه،
فقالت :
ألا هل لنا بعد هذا التفرق *** سبيل فيشكو كل صب بما لقي.


وقد كنت أوقات التزاور في الشتا *** أبيت علي جمر من الشوق محرق
كان الوداد والحب في أوجهما؛ بين ابن زيدون وولادة ، ولكن عهد السرور والهناء لم يدم، وأواصر الثقة لم تستمر؛ فتغير قلب ولادة نحوه ، وزًج بابن زيدون فى غياهب السجن؛ وراح يرسل توسلاته، لابن جهور؛ وزفراته المستعرة لولادة؛ دون صدى أو جدوى؛ فتحين فرصة الهروب من السجن؛ وفر إلى الزهراء؛ وتزامن ذلك مع مطلع الربيع؛ولما لم يجد صدرا حانيا؛ يهدهد وجده الممض؛ ويطفئ توهج وتأجج لهيب تشوقه الحار؛ لجأ إلى الطبيعة الفتانة؛ ليشكو إليها؛ بثه وحزنه؛ علها تكون أرحم من قلوب جامدة؛ ونفوس حاقدة؛ لا ترحم النابهين بل تسلبهم مزية المواهب؛ وأمارات التميز والتفرد، فكتب قصيدة لا تقل روعة ولا لوعة؛ ولا بهاء عن النونبة الخالدة؛ حيث يقول فيها:


إنّي ذكرْتُكِ، بالزّهراء، مشتاقا، * والأفقُ طـلقٌ ومرْأى الأرض قد راقَا
وَللنّســـيمِ اعـْتِلالٌ، في أصـائـِله * كـأنــما رَقّ لي، فاعْــتَلّ إشْــفَاقــَا
والرّوضُ،عن مائِه الفضّيّ، مبتسم * كـما شقَقتَ،عـنِ اللـَّبّاتِ،أطـواقَــا
يَوْمٌ، كأيّامِ لَذّاتٍ لَنَا انصرَمتْ، * بـتْـنَـا لها، حيـنَ نـامَ الـدّهــرُ، سرّاقَا
نلهُو بما يستميلُ العينَ من زهرٍ * جـــالَ النـّدَى فــــيهِ، حـتى مالَ أعناقَا
كَأنّ أعْيُنَهُ، إذْ عايَنَتْ أرَقى ، * بَكَـــــتْ لِما بي، فجــالَ الـــدّمعُ رَقَرَاقَــا
وردٌ تألّقَ، في ضاحي منابتِهِ، * فازْدادَ منهُ الضّحى ، في العينِ، إشراقَا
سرى ينافحُهُ نيلوفرٌ عبقٌ، * وَسْـــنَانُ نَـــبّهَ مِــنْهُ الصّــبْحُ أحْــدَاقَـــا
كلٌّ يهيجُ لنَا ذكرَى تشوّقِنَا * إلــيكِ، لم يعدُ عنها الصّدرُ أن ضاقَـــا
لا سكّنَ اللهُ قلباً عقّ ذكرَكُم * فــلم يـطــرْ، بجـناحِ الشــّوقِ، خفّاقَـــا


كانت تلك الرائعة إرهاصا لمطولات ابن زيدون الشعـرية، فلم تعد المقطوعات الشعرية كافية لاستيعاب تباريحه المستعرة؛ وآلامه النفسية؛حيث عانى لهيب الفراق والبعاد عن معشوقته؛ وأفول مجده الشخصى؛ ولم يكن مقبولا لشخصية بحجم ابن زيدون؛ وبحجم معاناته أن يتأوه فى صمت ، فثلث شعره تقريبا كان فى ولادة.


هنالك لم يجد صدرا حانيا؛حتى من محبوبته ولادة؛ التى تركته عرضة لنوائب البشر، وتقلبات الزمن؛ بل وأعانت عليه عدوه اللدود ابن عبدوس الداهية؛ الذى أذاقه ويلات الفراق ووحشة السجن.


ورغم نيله لقب ذى الوزارتين؛ إلا أن طموحه لم يقف عند هذا الحد؛ومن الغًبن والظلم ؛أن نحصر ابن زيدون فى قصص عشقه وغرامياته؛ وقصائده المشتعلة حرقة ولوعة وتشوقا وحنينا إلى ولادة؛فقد كان مثقفا ؛ماجد النفس؛ محمود السيرة ؛ كريم المحتد ؛ طموحا؛ ولم لا يطمح؟ وقد رأى من هم دونه فكرا وثقافة وموهبة ووجاهة؛ وقد فاقوه بدهائهم؛ومهارتهم فى تدبير الدسائس؛ والمكائد،فالموهوبون لا يجيدون أعمال الأفاعى.


وقد حقق ابن زيدون فى شعره ؛ ما نادى به نقاد العصر الحديث من نظريات ذاتية التجارب الشعرية؛ والوحدة العضوية؛ ودقة اختيار الألفاظ الحية الموحية؛ والموسيقى العذبة الرشيقة؛ والتصاوير المبتكرة ؛ومهارة صوغ الأساليب ؛ بما يحقق المشاركة الوجدانية؛ وتشخيص الطبيعة؛وحسن السبك ؛من ألفاظ عذبة موحية؛ وروعة المحسنات التى تنساب بلا تكلف؛ أو إقحام؛ أو حشو ممقوت؛ فعانقت الوجدان العربى ؛ وكأنما كل قارئ يغنى على ولادته الجميلة.


أعترف بهزيمتنا نحن - المتمسكين - ببهاء اللغة وفصاحتها ورونقها الفتان؛ والاضطرار الغير مبرر للتراجع للبعض ؛ ومسايرة الانحطاط اللغوى الذى بلغ مداه؛ بعدما فقدت المؤسسات الثقافية دورها المنوط بها؛ حتى مجمع اللغة العربية؛ لا صوت له أمام الهجمة الشرسة على لغتنا،من ألفاظها الجميلة.


والأمل فى الله ثم الأزهر الشريف؛ووزارة الأوقاف ؛ فلابد أن تكون هناك إدارات لدراسة الظواهر فى كل مناحى الحياة؛ فالدين ليس كلاما يرص رصا؛ أو خطبا رنانة؛ لكنه سلوك وعمارة وتنمية؛ لعل أهمها بناء الإنسان القادر على البناء فالإسلام تنمية؛ والتنمية أساسها العلم والعدل؛والمتدبر لآيات القرآن يجدها تزخر بالتوجهات التنموية كما فى قوله تعالى: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾.فياليت علماءنا الأفذاذ يوجهون الشعوب العظيمة صوب التنمية من خلال الدين، حتى لا يتركوا مجالا للتطرف والإرهاب.


ولمن يعى قال جبران خليل جبران :
هوَذا الفَجرُ فَقُومي نَنصَرِف *** عَن دِيارٍ ما لَنا فيها صَديق
ما عَسى يَرجو نَباتٌ يختلف *** زَهرُه عَن كُلِّ وردٍ وَشَقيق؟
وَجَديدُ القَلبِ أَنّى يَأتَلف *** مع قُلوب كُلُّ ما فيها عَتيق؟
انتهت رسالة صديقنا المنوفى ، وبقى لنا ألا نقف فقط عند الشعر والأدب فى الأندلس ، بل نقف عند ذلك التاريخ العظيم ، الذى انتهى مع الضعف والاستكانة ، وفتاوى الاستعانة، (طبعا بالأعداء) حتى أصبحنا نخشى على فلسطين وغيرها من بلاد العرب والمسلمين مصير الأندلس. وللحديث صلة .

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق