مصير معاهدة العار
السبت، 30 أبريل 2016 05:23 م
ماذا يجرى بالضبط على جبهة سيناء؟ ، وما هو مصير معاهدة العار المعروفة باسم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية؟. أسئلة كبرى تثور على جبهات السلاح والسياسة، وفى العواصم والأطراف، وفى منطقة عربية وإقليمية هائجة مائجة، لم تستقر بعد على مشهد ختام مفهوم، ولا على صورة أخيرة ، تظهر فيها ملامح الرابحين والخاسرين بعد زوال الغبار.
الطرف الأهم فى القصة كلها هو "مصر"، فهى البلد الباحث عن العودة إلى دور غاب عنها وغابت عنه ، بينما كانت المسارح مفتوحة لأدوار أخرى على الخرائط المستباحة، بينها الدور الإيرانى الذى وصل إلى ذروة تمامه بالاتفاق النووى ، والدور التركى الذى يميل إلى انكسار بعد ما بدا من انتصار "عثمانلى" موقوت، والدور الإسرائيلى الذى يتربص بنتائج خراب المشرق العربى، وحروبه العبثية الطاحنة، ويتعجل فى إعلان انتصاره النهائى، ويبدو مزهوا متعجرفا، على طريقة قرار نتيناهو بضم "الجولان" السورى إلى الأبد، وأحلامه المستحيلة بإخراس الصوت الفلسطينى المقاوم، وقمع هبة شبابه الغاضب ، وفرض الأمر الواقع فى صورة "إسرائيل الكبرى".
وبرغم فوضى الاختيارات الداخلية الراهنة فى مصر، ومخاطر الاقتصاد المعتل، إلا أن السياسة العربية والدولية تبدو مدروسة أكثر، وإن كانت تتسم بالحذر البالغ، فثمة خطوط حركة تبدو متكاملة، حركة إلى العمق الأفريقى لتمتين أساس الوجود المصرى، وحركة دولية تعطى البلد مرونة وحيوية أكثر فى اختياراته، تتقلص بها التبعية الموروثة للسياسة الأمريكية ، وتتنوع مصادر السلاح والاستثمارات وغايات النهوض، وتتسق مع تحرك تراكمى ملحوظ فى المحيط العربى الألصق بمصر، فيه قدر من الغموض وقدر من الوضوح معا، الغموض ظاهر فى قضايا مثل الأزمة السورية ، والوضوح أظهر فى قضية تدمج الاقتصاد والسياسة معا، وتريد أن تقيم تكاملا وظيفيا بين مصر ودول الخليج، تكامل بين الفوائض العسكرية المصرية والفوائض المالية الخليجية ، والتكامل بالذات بين مصر والسعودية فضلا عن دولة الإمارات، فالسعودية تتطلع إلى دور حاكم، ولا تبدو قادرة على النهوض بأعبائه وتكاليفه دون سند قوى من مصر، والقاهرة تفهم حدود الاحتياج السعودى ، وتستجيب له فى حدود تحفظ مصالحها ومرونة حركتها، فهى ـ أى مصر ـ توافق على مبدأ تحجيم النفوذ الإيرانى ، ولكن دون جعل إيران عدوا أول ، ودون التورط فى فتن السنة والشيعة ، ولا التماهى مع التقييمات الخاصة بالسعودية، إلا فى حدود العناوين العامة لربط أمن الخليج بأمن مصر، ومع ميل أكثر لاستخلاص توجه عربى لا تورطا طائفيا، والتركيز على أولويات مصرية، تنهض الاقتصاد من عثرته، وتدعم معنى القوة الشاملة لمصر، لا القوة العسكرية وحدها، وتقيم سياجا من قوة عربية مشتركة ، تعيد بناء مفهوم الدولة الوطنية فى عالمنا العربى، والتى لا تقوم بدون جيش قوى حارس ، ولا تغفل فى الوقت نفسه عن مكامن الخطر الاستراتيجى، وأولوية الخطر الإسرائيلى على مصر بالذات، فإسرائيل هى العدو الأساسى فى العقيدة الثابتة الراسخة المتصلة للجيش المصرى، وبصرف النظر عن وجود معاهدة سلام، تتعرض الآن لخلخلة ركائزها، ومن زوايا متعددة ، بينها زاوية الشراكة الوثيقة متعددة الوجوه مع المملكة السعودية المتحولة .
وقد نتفهم هواجس البعض من شراكة القاهرة الجديدة مع السعودية ، وفيها الكثير من ظلال التاريخ الذى لم يكن سعيدا دائما ، ويريد بعضنا سحبه على توقعات المستقبل ، ودون فهم كاف فى ظننا لطبيعة التحولات الجارية ، ففى السعودية تحولات فى بنية الحكم ، وجيل ملكى جديد تنتهى إليه المقادير والتصرفات ، ومع شعور متزايد بالخذلان الأمريكى للحليف السعودى الوفى ، وميل أمريكى للانسحاب عسكريا ، و"لم عزال" التحالفات القديمة ، والتطلع لعلاقات ديناميكية أفضل مع إيران ، والتركيز على اندماج أمريكا الاستراتيجى مع مصالح إسرائيل ، مع تداعى القيمة الاستراتيجية لبترول الخليج ، وكلها عناصر تجعل السعودية فى حالة بحث عن نقطة ارتكاز مختلفة ، لا يبدو فيها مشروع "الجسر البرى" بين مصر والسعودية حلقة فى مشروع الشرق الأوسط "الجديد" الذى صار قديما ، وتبدلت المعادلات التى حفزته فى تسعينيات القرن العشرين بعد "اتفاق أوسلو" الفلسطينى الإسرائيلى ، وسعى نخبة العدو وقتها إلى "إسرائيل عظمى" بدلا من "إسرائيل كبرى" ، ظهرت فيها خرائط سيناء كصلة ارتباط اقتصادى بين إسرائيل ومصر ودول عربية ، وبمشروعات طاقة وتجارة تخدم إسرائيل بالأساس ، وتجعل موانيها جسرا لتجارة العرب إلى العالم ، وهى خطط لم تختف تماما إلى الآن ، وإن تحولت أكثر إلى معنى التناقض والمنافسة مع مصر ، والكيد لقناة السويس بالذات ، ومع ربط المعنى الاقتصادى المعاكس بمعنى سياسى معاكس أيضا ، فنخبة العدو الحالية ، وفى الأمد المنظور ، أقرب إلى فكرة "إسرائيل الكبرى" ، عدوانية الطابع على نحو متصل ومتفاقم ، ومدفوعة بهواجس التقلص الديموجرافى اليهودى على الأرض الفلسطينية المحتلة كلها ، وهو ما يعنى أننا لن تكون بصدد مبادرات اقتصاد تتقنع بالسلام ، بل بتأجيج التناقضات التاريخية الأصلية من جديد ، وفى سياق من تراجع أثر أمريكا عموما فى المنطقة ، وميلها للتركيز على إيران وشرق آسيا ، وتراجع أثر أمريكا فى سياسة القاهرة بالذات ، ففى لقاء مغلق للرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى مع عدد من المثقفين ، قال الرجل بصراحة نادرة أن القصة تغيرت ، وأن واشنطن كانت تملى أوامرها "برفع سماعة التليفون" ، وأن ذلك لم يعد قائما ، وبدا أن ذلك هو تفسير السيسى لهجوم أمريكا والغرب على نظامه ، وكل ضعف فى علاقة واشنطن بالقاهرة يؤثر سلبا بالطبيعة على العلاقة مع إسرائيل ، خاصة أن وقائع جديدة تخلقت على الأرض بالأمر الواقع ، ولم تعد سيناء منزوعة السلاح كما كانت بمقتضى ملاحق ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ، وصار الجيش المصرى حاضرا بكامل هيئته ، وحتى حدود مصر التاريخية مع فلسطين المحتلة ، وهو ما لم يحدث منذ ما قبل هزيمة 1967 ، وقد جرى ذلك طبعا ، وعلى دفعات متوالية ، بنوع من التنسيق المصرى الإسرائيلى عبر القناة الأمنية المفتوحة ، لكن المحصلة صارت ذات مغزى مختلف ، فقوات الجيش المصرى دهست مناطق نزع السلاح فى سيناء ، وفرضت حضورها حتى فى المنطقة (ج) التى كانت منزوعة السلاح كليا ، وهذا الجيش المتزايد المتكاثف لن يعود أبدا إلى الخطوط القديمة ، و"دخول الحمام مش زى خروجه" كما يقول المثل الشعبى المصرى ، وهذا ما نعنيه بالأمر الواقع الإيجابى الذى تحقق ، وإن كانت الوسائل براجماتية ، لكنها استعادت مبدأ تفعيل السيادة المصرية عسكريا على سيناء كلها ، وهو مكسب بالغ الحيوية لضمان المعنى الوطنى لتنمية سيناء ، ولاتفاقية منطقة التجارة الحرة بتعاون السعودية فى سيناء ، ثم لمشروع "الجسر البرى" وضمان حمايته ، فالجسر ينتهى عند الطرف المصرى فى المنطقة (ج) ، التى لم تعد منزوعة السلاح ، ويرتكز على الجزيرتين الصخريتين "تيران" و"صنافير" ، وفضلا عن عوائده الاقتصادية ، كأهم جسر من نوعه فى الدنيا كلها ، وقد يصل حجم المنافع منه إلى 200 مليار دولار سنويا ، وهو تقدير قد يتحقق سريعا أو بتباطؤ ، وبحسب التطورات الجارية فى حركة التجارة الدولية ، لكن مزاياه الكبرى ظاهرة بالنسبة للمصريين بالذات ، وبالنسبة لقناة السويس التى جرى توسيعها وتأهيلها لاحتمالات المستقبل ، وفوق حسابات الاقتصاد والتصنيع والبيزنس والسياحة ، فإن حساب السياسة والاستراتيجيا يبدو أكثر جلاء فى قضية "الجسر البرى" ، فهو أعظم انقلاب استراتيجى فى تاريخ المنطقة العربية منذ حرب نكبة 1948 ، فقد كان واحدا من أهم أهداف إنشاء كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، أن يكون بذاته حاجزا وفاصلا بريا ، يقطع اتصال مشرق العالم العربى بمغاربه بريا ، و"الجسر البرى" يحقق العكس بالضبط ، ويعيد الاتصال البرى المباشر بين أوصال العالم العربى الممزقة ، وهو ما يفسر رفض المخلوع مبارك للمشروع ، فقد كان المخلوع أعظم كنز استراتيجى لإسرائيل ، ورفض اتمام الجسر ـ عام 2006 ـ بدواعى التخوف من رد الفعل الإسرائيلى ، وهو ما يعنى أن قضية "الجسر البرى" صارت معركة وطنية وعربية بامتياز ، يتوقف كسبها على صلابة العلاقة المصرية السعودية ، وعلى "وطنية" الموقف المصرى بالذات ، والذى يواجه الآن حربا محتدمة فى الكواليس ، تضغط فيها واشنطن القلقة مع إسرائيل من ترميم القاهرة جزئيا لعلاقاتها مع حركة "حماس" ، وتريد فرض ترتيبات جديدة و"طائرات بدون طيارين" فى سيناء ، وبدعوى معاونة مصر فى الحرب ضد الإرهاب ، وهو ما ترفضه القاهرة برغم كثافة الضغوط ، وتصر على تعديل رسمى لما يسمى معاهدة السلام المعروفة إعلاميا باسم كامب ديفيد ، وهذه معركة مصر الوطنية الكبرى الآن ، ولا خيار فيها سوى أن تنتصر مصر لسيادتها ودورها العربى الآتى .
[email protected]