من رحيق اللغة " ابن زيدون"

الإثنين، 11 أبريل 2016 07:10 م
 من رحيق اللغة " ابن زيدون"
كمال الهلباوي يكتب

بين حين وآخر يهل علينا صديقنا المنوفى الخبير اللغوى عاشق الشعر والأدب الأستاذ الأحمدى الشلبى ، يهل علينا بمقالات ورسائل ، تكون عبقا من رحيق اللغة ، وأحب أن أشارك القراء بها فلعلها ترفع الاحساس باللغة العظيمة . يقول الرجل: "لعلكم تتفقون معى، أن ابن زيدون ؛هو عاشق، الأندلس الأروع بلامنازع، وشاعرها الأبرع غير مدافع،رقة؛ وعذوبة وشاعرية فياضة؛ فواحة بواحة؛ بأدق وأرق الأحاسيس الإنسانية؛ بألفاظ رقراقة؛عذبة شجية مبهرة؛ تجعلك فى انبهار متواصل، تعيش معه فى أجواء من البهجة والحبور، تأنس لها؛وتتلذذ بها. وتتمنى ألا تفيق منها.

ولد شاعرنا ابن زيدون؛ بحى الرصافة، إحدى ضواحى قرطبة الفيحاء؛ التى بناها عبد الرحمن الداخل، الذى تأنق فى بنائها وجلب لها الأشجار والنباتات الفواحة، والأزاهير العبقة، واتخذها مقرا لحكمه الزاهر.


هو أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أحمد بن غالب بن زيد المخزومى، من أشرف بطون وقبائل قريش، والتى اشتهرت بالفروسية والشجاعة؛ ومنها سيدنا خالد بن الوليد؛ سيف الله المسلول وكفاها ذلك من شرف رفيع؛ وعز منيع. فى الجاهلية والإسلام، درج شاعرنا وتفتقت أزاهير موهبته السيالة الفياضة؛ حيث تشربت روحه العذبة؛ من رحيق الأجواء المضمخة بالمسك؛ والنسمات الرقيقة؛ وأنفاس الرياحين من يانع الزهور؛ وشجيرات جلبت خصيصا ؛ لرسم لوحات فنية تلائم طبائع أهل الأندلس الطلية؛ من ذوى الأذواق والفنون الراقية، وتليق بنفوس؛ تواقة لصنوف الفن بمذاهبه الفينانة؛ وألوانه المزدانة المرصعة بجواهر الإبداع ؛ وبدائع الإمتاع .


وفي هذا الجو الرائع والطبيعة البديعة الخلابة، نشأ ابن زيدون؛ فتفتحت عيناه اللماحتان؛ وموهبته المتأنقة؛ على تلك المناظر الساحرة والطبيعة الجميلة، وتشربت روحه العذبة؛ ونفسه الشاعرة؛ بذلك الجمال المجسد الباهر، وتفتقت مشاعره الرقيقة، ونمت ملكاته الشاعرية والأدبية؛ في هذا الجو الرائع البديع.


نهل ابن زيدون من العلوم المختلفة التى ازدهرت بين ربوع الأندلس آنذاك؛ على يد جده لأبيه حيث فقد أباه وهو فى الحادية عشرة من عمره ؛ فتعهد بتربيته ورعايته؛ جده لأبيه؛ فأحسن تربية حفيده حيث كان من فقهاء قرطبة وعلمائها النابهين المعروفين بالعلم والفضل والورع؛ مع الحزم والصرامة، فجنبه ذلك مزالق الانحراف والسقوط؛ التى قد يتعرض لها الأيتام من ذوى الثراء الواسع؛ فعلَّمه العربية والقرآن والنحو ؛ والشعر والأدب؛ والعروض وكافة العلوم؛ التى كان يتعلمها الناشئة والدارسون فى هذا العصر؛ فتهيأت له منذ نعومة أظافره ؛ كل دواعى النبوغ والتميز والتفوق.


وانتماؤه لأسرة واسعة الثراء بارعة فى ألوان الثقافات اللغوية والفقهية؛ واهتمام وحرص جده العالم الفقيه وأصدقاء الأسرة من أشراف قرطبة وعنايتهم بهذا الصبى المتوثب؛ ذى الموهبة بل المواهب الفياضة، وما حباه الوهاب من ذكاء ونبوغ، وما فطر عليه من عشق الشعر والآداب والعلوم، أكسبه ذلك رونق العلم وبهاء الموهبة الشعرية.


ومما لا شك فيه أن "ابن زيدون" تلقى ثقافته الواسعة وحصيلته اللغوية والأدبية على عدد كبير من علماء عصره وأعلام الفكر والأدب في الأندلس، في مقدمتهم أبوه وجده، ومنهم أيضا "أبو بكر مسلم بن أحمد بن أفلح" الفقيه النحوي المتوفى سنة 433هـ - 1042م وكان رجلاً متدينًا، وافر الحظ من العلم والصلاح والعقيدة،سالكًا فيها مسالك أهل السنة، له باع كبير في العربية وعلومها وفنونها؛ ورواية الشعر.


كما اتصل "ابن زيدون" بكثير من أعلام عصره وأدبائه المشهورين ، فتوطدت علاقته - في سن مبكرة - بأبي الوليد بن جَهْور، الذي كان قد ولي العهد ثم صار حاكمًا،وكان حافظًا للقرآن الكريم مجيدًا للتلاوة، يهتم بسماع العلم من الشيوخ والرواية عنهم، وقد امتدت هذه الصداقة بينهما حتى جاوز الخمسين، وتوثقت علاقته كذلك بأبي بكر بن ذَكْوان الذي ولي منصب الوزارة، وعرف بالعلم والعفة والفضل، ثم تولى القضاء فكان مثالا للحزم والعدل، فأظهر الحق ونصر المظلوم، وردع الظالم.


وسط أحداث جسام كان فيها اللاعب الأساسى؛ أمسك بتلابيب الأحداث فى أحيان كثيرة؛ وفى النهاية اكتوى بنارها؛ فالناقمون على الموهوبين والنابهين والطامحين والمبدعين؛ آفة كل عصر.يحاولون إلصاق ما بهم؛ من نقائص. وقد عاصر وشارك بقوة؛ فى زوال الحكم الأموى، وبداية عصر ملوك الطوائف.


فى مقتبل الشباب وميعة الصبا؛ التقى شاعرنا بفراشة البيت الأموى؛ البارعة الجمال؛ ولادة بنت المستكفى بالله؛ آخر ملوك الدول الأموية بالأندلس، وكان والدها سئ السمعة؛ عطل السيرة ؛ألا يعدو همه عن بطنه وفرجه، أسيرالشهوة عاهر الخلوة. مما دفع وأغرى أهل قرطبة بالثورة عليه، وكان ابن زيدون من أبرز المنقلبين عليه ؛ ليس بالسيف ولكن بتأليب أهل قرطبة، بالموقف والرأى ؛ فهو شاعرهم المحبوب المفوه، فكان ذلك إيذانا بقيام ما عرف بعصر ملوك الطوائف.


وبعد زوال ملكه؛ الذى قضاه فى الفتن والمؤامرات؛ كانت ابنته ولادة؛ على النقيض من سيرته؛ شاعرة أديبة، بهية الطلعة؛ فاتنة المظهر؛ رائقة المخبر؛ حولت قصر الخلافة؛ إلى منتدى للأدباء والشعراء، وكان يحضره الكثيرون من وجهاء القوم في قرطبة، بين مثقفين وشعراء وأدباء، ليتحدثوا في شئون الشعر والأدب، وصارت مطمح القلوب؛ من صفوة شعراء وأدباء قرطبة ووجهائها البارزين، لجمالها الفتان الأخاذ ؛ كما وصفها ابن زيدون فى نونيته:
ربيب ملك كأن الله أنشأه مسكا وقدر إنشاء الورى طينا.


وممن كانوا يحضرون ندوتها الأدبية، الشاعر ابن زيدون، الذي وقع في غرامها، وبادلته الحب والغرام والهيام فى صراحة؛ أوجدت البغضاء والشحناء، وأضرمت نيران الضغائن بين ابن زيدون والوزير ابن عبدوس القائد الذى نجح فى الوقيعة بين القلبين المتحابين،بل نجح فى الزج بابن زيدون؛فى غياهب السجن..


ولادة كانت - تقريبا - الشاعرة العاشقة العربية الوحيدة،التي كان لها موقف واضح وصريح من الرجل الذي أحبته،وأعلنت ذلك في أشعارها وقصائدها.فقد كانت هى البادئة بدعوته حيث أرسلت إليه قائلة:


ترقب إذا جن الظلام زيارتى فإنى رأيت الليل أكتم للسر.
فكان اللقاء الأول الذي جمع بين القلبين العاشقين، كان في رياض مدينة قرطبة الأندلسية، تحت ظلال الأشجار، فأنشب الحب سهامه في قلبيهما، وجعل كلا منهما ملاذا للآخر، لكن القصة كان لها فصول أخرى تثير الحزن والشجن فى النفوس.


ولكن، لم تكتمل قصة العاشقين،لأسباب مختلفة، قال بعض النقاد إن الوزيرُ ابنُ عبدوس نافس ابنَ زيدون على قلب ولادة، فهجاه ابن زيدون برسالة ساخرة عرفت في التاريخ الأدبى؛ باسم "الرسالة الهزلية"، فدبر ابن عبدوس وأعوانه للشاعر العاشق مكيدة، لإبعاده عن طريق ولادة، فحًُكم عليه بالسجن، وفيه راح يُدبج قصائد خالدة عن الوجد ولواعج الفراق؛ ممنيا القلب بلقاء إلفه ومحبوبته التى راحت تذيقه ألوانا شتى من تباريح العشق والهيام..
وثمت رواية أخرى ترجع انفصال العاشقين؛ للغيرة، حيث إن ابن زيدون شاب وشاعر ووزير، وكانت له بالضرورة غرامياته التي تغضب ولادة وتجرح كبرياءها، مثل مغازلته بعض جواريها لإثارة غيرتها.


ويًروى؛ أن ابن زيدون استمع يوما إلى جارية ولادة "عُتبة " وهي تغني، فطلب منها أن تعيد ما قالته،دون إذن الأميرة؛ فغضبت ولادة وعاتبته بأبيات قالت فيها ::


لَو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا لم تهَو جاريتي ولم تتخيّرِ
وَتركتَ غصنا مثمرا بجمــاله وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ
ولقد علمت بأننى بدر السما لكن دهيت لشقوتى بالمشترى
وهناك قول ثالث: إن القطيعة حدثت بسبب نقد ابن زيدون لبيت شعري، قالت فيه ولادة:
سقى الله أرضا قد غدت لك منزلاً بكل سكوب هاطل الوبل مغدق
حيث رأى ابن زيدون أن البيت أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له، فاصطدمت شاعرية ولادة الركيكة فى غالبيتها، بعين ابن زيدون الناقدة، وموهبته الفذة ؛ وشاعريته السيالة.


وهناك من يرى أن القطيعة سببها انضمام ابن زيدون لحركة "الجهاورة" المعادية لبني أمية،وولادة ابنة خليفة أموي، ومن وجهة نظرى؛أنه السبب الأوجه؛ والأقرب للواقع والحقيقة؛ حيث فًُجعت بموقف حبيبها ومطمح قلبها؛ المناهض لحكم بنى أمية.


وكي تنتقم لكبريائها، اتخذت الوزير ابن عبدوس؛ وسيلتها، فكلما جرحها ابن زيدون، مالت نحو غريمه؛ وكلما خانها ترفقت بغريمه. الذى عاير ابن زيدون بذلك، فقال ابن زيدون مًعرضا به:


عيرتمونا بأن قد صار يخلفنا فيمن نحـــب ومـا فـى ذاك من عار
أكل شهى أصبنا من أطايبه بعضا وبعضا صفحنا عنه للفار
وقد تأججت المشاعر والأحاسيس؛ وانصهرت نفسه الشاعرة العاشقة؛ ولهًا وحُرقة؛ فانفجرت ينابيع شعره العذب الرقراق المتدفق حرقة ولوعة وحسرة وعذوبة ورقة وارفة الظلال؛ جعلتنا نحمد تلك الجفوة والقطيعة؛ التى جعلتنا نستظل من الهجير الإبداعى؛ بنونيته الخالدة المتفردة؛ التى تعتبر معرضا للأحاسيس؛ من هجر وعتاب؛ وشكوى وأنين؛ ويأس ورجاء؛ وندم وحسرة؛ وذكريات وأمل. وكم حاول كثير من الشعراء أن يهتدى بنورها؛ فاكتووا بنارها ولم يلحقوا بغبارها.

وقد قيل عنها " من حفظها مات غريبا" ومع ذلك لا تستطيع الفكاك من أسر حفظها؛ والانتشاء من سكرها. مهما كانت العواقب". إنتهى مقال الرجل المنوفى .


هكذا استطاع صديقنا المنوفى ، أن ينقلنا من المنوفية بل من العالم العربى بأسره، ومن العصر الذى نحن فيه ، الى الأندلس وعصر عظيم من عصور الفكر والثقافة والأدب والشعر فى بيئة غربية، أنجبت فقها وثقافة وعلما ، تعتز به الأمة حتى اليوم، ودروسا يجب أن نستفيد منها حتى لا يلقى العالم العربى أو الاسلامى مصير ملوك الطوائف . والله الموفق

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق