إخلاء سبيل مصر
الثلاثاء، 22 مارس 2016 04:09 م
فى لقائه بشباب برنامج التأهيل الرئاسى ، ثم فى اجتماعه الحوارى بوزير الثقافة وعدد من الأدباء والكتاب ، تطرق الحوار إلى أوضاع السجون السياسية المكتظة ، وتعهد الرئيس السيسى بإطلاق سراح مجموعات جديدة من المحبوسين ، وكما سبق أن فعل ـ على حد قوله ـ استجابة لشباب الإعلاميين والمجلس القومى لحقوق الإنسان .
ونتصور أن القصة صارت أكبر من وعود متفرقة ، ومن قرارات إخلاء سبيل "بالقطارة" ، وقد طالبنا مرارا وتكرارا ، تحريرا وشفاهة ، وبكل وسيلة إعلام متاحة ، أن يبادر الرئيس إلى تصور مكتمل ، وليس إلى إجراءات جزئية ، تصور ينضبط به توازن فعال بين أولوية الأمن واعتبارات الحرية ، ويتقدم إلى قرار جرئ بإخلاء سبيل عشرات الآلاف من المحتجزين بغير تهم العنف والإرهاب المباشر ، نعيدها ونزيدها "عشرات الآلاف" ، وليس العشرات ولا المئات فقط ، فقد اعترف الرئيس لمرات بوجود مظالم هائلة فى السجون ، ودوره الطبيعى ـ مادام يعرف ـ هو إنهاء المظالم ، وليس الشكوى ـ كما عبر مرة ـ من اعتراضات الأجهزة الأمنية ، والتى تصور للرئيس خطورة قرارات إخلاء السبيل ، وتحذره من تورط المفرج عنهم فى أعمال إرهابية لاحقة ، وكأن بقاء هؤلاء فى السجون ، هو الذى يمنع الإرهاب ، ويحول المحبوسين "المظلومين" إلى مواطنين صالحين مسالمين ، بينما الحقيقة هى العكس بالضبط ، فاجتماع غير المتهمين بالإرهاب مع الإرهابيين فى السجون ، هو الذى يفاقم المشكلة ، ويحول السجون المكتظة إلى مفارخ للإرهاب ، وإلى مدارس لإعداد كتائب للانتقام ، بينما أغلب المحتجزين بالسجون ، لم يدخلوها أصلا بتهمة الشروع فى عنف وإرهاب مباشر ، بل سيقوا إليها فى حملات اعتقال وقبض عشوائى ، فى مظاهرات أو فى مشاريع مظاهرات ، وحتى بدون فعل أى شئ من أصله ، كما هى أحوال غالب المحتجزين ، وفى تصرفات انتقامية من قبل أجهزة أمن بذاتها ، تريد التنكيل بشباب الثورة ، لمجرد أنهم كذلك ، وتلفق لهم التهم المجانية العبثية المتنطعة ، من نوع التخطيط لقلب نظام الحكم ، أو الجهر بالدفاع عن ثورة 25 يناير ، وكأن الثورة تهمة ، بينما الدستور نفسه يقوم على أساس من الاعتراف بها ، واعتبارها معيارا حاكما للشرعية ، وهو ما يجعل أجهزة الأمن ـ إياها ـ هى المتهمة بالانقلاب على الدستور ونظام الحكم ، فبدون ثورة يناير وما تلاها إلى هبة 30 يونيو ، لم يكن للرئيس السيسى أن يصبح رئيسا ، وقد يكون شيئا طيبا ، أن يعترف الرئيس بالظلم الواقع على شباب الثورة المحتجزين ، لكن الاعتراف وحده لايكفى ، فإن الله يزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن ، والمطلوب هو التحرك بسرعة ، وإصدار قرارات عاجلة ، يملك الرئيس صلاحياتها ، وتفضى إلى إخلاء سبيل عشرات الآلاف من المحتجزين ، شبابا وشيوخا ونساء ، وبغير تمييز سياسى ، وطبقا لقاعدة نتصورها صحيحة ، وهى التمييز القاطع ، ووضع الخطوط الفاصلة الحمراء بين الإرهاب والسياسة ، فلا يصح أن يبقى بالسجون ، ولا قيد المحاكمات ، سوى المتهمين فقط فى قضايا عنف وإرهاب مباشر ، ومع إلغاء قيود قانون التظاهر المناقضة لنصوص الدستور ، وبوسع الرئيس أن يفعلها لو أراد ، ودون احتياج لكثير من الاجتماعات والمشاورات والمناقشات والمناشدات ، فقد صارت الخطوة ضرورية جدا لتفكيك احتقان سياسى لا تحتمله ظروف البلد ، ولا تحتمل الضمائر الحية وزر بقاء مظالمه ، فكلنا مسئولون عن الظلم الذى حل بعشرات الآلاف من أسر المحتجزين ، مسئولون بالصمت ، أو بالغفلة ، أو بالخلط المعيب بين الإرهاب والسياسة ، أو بتكرار المطالب دون السعى لتحقيقها ، ونتصور أن أى مثقف ـ يستحق الصفة ـ مطالب بالتحرك الآن ، وإدارة حملة وطنية منظمة منسقة ، تهدف للإفراج الفورى عن كل غير المتهمين أو المحكوم عليهم فى غير قضايا العنف والإرهاب ، و"تبييض" السجون ، وإخلاء سبيل مصر المظلومة بسجن خيرة شبابها ، وصناع ثورتها اليتيمة .
وبالطبع ، فنحن لا نطلب إحسانا ولا صدقة ، ولا تفضلا من الرئيس والسلطات ، فلا قيمة لأى كلام عن حرية الرأى مع احتجاز المختلفين فى السجون ، واكتظاظ السجون علامة ضعف للنظام السياسى ، وليست عنوان قوة ، فقد تغرى القوة الباطشة أصحابها أحيانا ، لكنها لا تضمن لهم ـ بالضرورة ـ سلامة حكم ولا اتصالا فى البقاء ، خصوصا مع يقظة الرأى العام ، والوعى الجديد للمصريين بعد الثورة ، فقد يستطيع من يريد استعادة عدة التخويف ، أو السعى لاستعادة ما كان قبل الثورة ، وكل ذلك جرى ويجرى ، وفى سياق سلطة مضطربة منشقة على نفسها ، تتصور أن تغول القمع قد يفيد ، وأن نشر التخويف قد يجدى ، لكنها تنسى أو تتناسى عنصرا مهما فى الصورة العامة ، بل هو الأهم على الإطلاق ، وهو أن معادلة التخويف سقطت للأبد ، فقد يملك من يريد استعادة عدة التخويف أن يفعلها ، وقد فعلوها برغبة جارفة حارقة فى الانتقام من الثورة وأهلها وشبابها ، ولكن دون أن يتحقق الهدف ، ودون أن تكتمل معادلة التخويف ، ولسبب غاية فى البساطة ، هو أن الذى كان يخاف مشى ، والشعب المصرى حطم بالثورة حواجز الخوف ، والتاريخ لا يكرر نفسه ، حتى وإن تراكمت مظاهر وظواهر توحى بالاستعادة والتكرار ، فلم يعد بوسع أحد أن يكبل مصر ، حتى لو سجن شباب ثورتها ، وسامهم سوء العذاب والتنكيل ، وبدعوى أننا فى حرب ضد الإرهاب ، وهذه قولة حق يراد بها الباطل فى كثير من الأحيان ، فالحلال بين وكذلك الحرام ، وحريات الرأى والتعبير والتنظيم والسياسة مما لاتجوز مصادرته فى أى وقت ، فتلك حقوق جوهرية للمجتمع ، تؤكدها نصوص الدستور ، وقبله دماء الشهداء التى سالت فى الثورات ، وقد لاتكون الحرية ـ بالضرورة ـ ترياقا وعلاجا للإرهاب ، لكنها مطلوبة لذاتها ، ولضمان شروط تقدم المجتمع ، وتعزيز إنسانيته وحيويته ، وممارسة الحرية هى التى تصلح الأخطاء ، وليس الحجب والمصادرة والكبت والسجن بدعوى التحصين ، فهذه أفكار وصاية متخلفة ، فوق أنها لم تعد مجدية ، أما الإرهاب فقصة أخرى ، ومعركة تتطلب تعبئة شعبية طوعية واسعة ، تسند عمل أجهزة أمن مقتدرة ، وليس أجهزة اعتقال وقبض عشوائى ، تفتقد حس الخيال والمبادرة والتوقع المسبق لحركة جماعات الإرهاب ، وتفتقر إلى المعلومات الكافية ، وإلى التدريب على سرعة وكفاءة التصرف فى لحظات المواجهات المفاجئة ، وليس إلى الوقوع فى "حيص بيص" ، والتمادى فى التراخى والإهمال والغفلة ، وكثرة سقوط الضحايا والشهداء بغير مبرر معقول ولا مقبول ، فلا بد من محاسبة الأجهزة عن التقصير الفادح ، وبناء عقلية أمنية مختلفة ، تختصر زمن المواجهة مع الإرهاب ، لا أن توسع من نطاقه بعمليات القبض والاعتقال الأعمى ، والاعتماد على كاميرات الصفقات الفاسدة ، والتى يثبت فى كل مرة ، أنها عمياء لاترى ، فالفساد فى مصر أخطر من الإرهاب ، ولا مستقبل للإرهاب فى مصر حتى لو تأخرت ساعة النهاية الأكيدة .
والخلاصة ظاهرة ، فلا أحد يقلل من ضرورات الحرب ضد الإرهاب ، وأول شروط النجاح فيها ، معالجة الخيبة والثغرات الأمنية ، وهى حرب لا خيار فيها سوى أن تنتصر مصر ، وهى ستفعل بإذن الله تعالى ، فلديها جيشها الأفضل فى المنطقة ، ولديها طبيعتها الجغرافية التاريخية الثقافية الفريدة ، والتى تجعلها عصية على التفكيك إلى أن يرث الله الأرض ، لكن حرب الإرهاب لايصح أن تتحول إلى حرب على الشعب ، ولا أن تنتهك حريات السياسة السلمية ، ولا أن تبرر قيودا لا لزوم لها ، وقد آن للقيد أن ينكسر ، وأن يجرى إطلاق مسئول للحريات العامة ، وأن يجرى التطهير الشامل فى أجهزة الدولة ، وفى الأجهزة الأمنية بالذات ، والتى يتصارع بعضها فى حروب الاستيلاء على المجال العام ، واصطناع برلمان وأحزاب وصحف وإذاعات وتليفزيونات ومواقع إلكترونية ، وفى تزوير التقارير المتضاربة المعروضة على الرئيس ، والتى لاتتفق سوى فى تحذير الرئيس من شرور الحرية (!) ، وفى تخويفه من تلبية نداءات إطلاق سراح المحتجزين فى غير تهم العنف والإرهاب ، فهذه الأجهزة تريد الوصاية على البلد والشعب ، وتريد أن تفرض وصايتها على الرئيس أيضا ، وقد يكون مفيدا أن يكسر الرئيس طوق الأجهزة من حوله ، وأن يتحاور مع فئات من المثقفين والسياسيين والشباب ، وأن يقيم حوارا وطنيا جامعا ، يمهد لمبادرات تأخر أوانها ، فى مجالات السياسة والاقتصاد والأمن ، تستجيب لدواعى الغضب الاجتماعى الظاهر ، وتعطى الأولوية لتفكيك احتقانات خطرة ، على رأسها قضية عشرات الآلاف من المحتجزين فى غير تهم العنف والإرهاب ، والتى لم تعد تحتمل انتظارا ولا تأخيرا مضافا ، وليس فيها من رأى يعقل سوى إخلاء سبيل المظلومين فورا ، وكخطوة أولى على طريق إخلاء سبيل مصر، وإطلاق سراح طاقاتها الحبيسة .