عملية "فرم" الزند
السبت، 12 مارس 2016 04:29 م
بعد ثلاثة أسابيع لاغيرعلى تولى أحمد الزند حقيبة وزارة العدل ، استضافنى مقدم برنامج تليفزيونى رمضانى بقناة "سى . بى . سى" ، وسألنى أن أوجه عبارة للزند الوزير الجديد وقتها ، وما كان إلا أن قلت له عبارة من كلمتين لاغير ، قلت للزند ببساطة "وزارتك نهايتك" ، وقد كان ، وجرت عملية "فرم" الزند بعد عشرة شهور من تنصيبه حاكما بأمره .
وبالطبع ، لم أكن أضرب الودع ولا أقرأ الرمل ، بل كنا نخوض معركة حق وعدل ، وننطلق من إيمان عميق بقضية الثورة اليتيمة ، و"نخاوى" الحس الشعبى الذى لايكذب أبدا ، وكما توقعنا خلع مبارك قبل ذهابه بسنوات ، وتوقعنا عزل مرسى قبل 30 يونيو 2013 بتسعة شهور ، فقد توقعنا فرم الزند بسلطة الرأى العام ، ومع أول يوم لتنصيبه الصادم وزيرا للعدل ، وصفنا القرار الرئاسى وقتها بأنه "حكم إعدام للعدالة" بنص عنوان مقالنا الافتتاحى للحملة ، ثم توالت القذائف ، من مقالنا المعنون "دولة أحمد الزند" إلى مقال "موسم تكريم الفساد" ، وإلى كشف منتظم دءوب موثق عن فساد اختيار الزند ، وتضخم ظاهرته ، و"ألبوم" صوره الموحية بوضع شائه ، وتجاوزاته ومخالفاته المسكوت عنها ، والتى فضحها الزميل محمد سعد خطاب فى سلسلة تحقيقات مثيرة ، وإلى أن وضعناه على رأس "عصابة تشويه السيسى" قبل أسبوعين من قرار عزله و"فرمه" الأخير ، فلم يكن الزند مجرد عنوان ظاهر لسيطرة الفلول فى الحكم ، بل كان عنوانا للفظاظة والغلظة ، وللجبروت و"الجهلوت" المسيطر على المشهد اليومى فى الإعلام ، ولم تكن جريمته الكبرى فى ازدراء الأديان ، وفى الزراية بمقام النبى محمد (ص) خاتم المرسلين وسيد الأنبياء ، بل كانت فى ازدراء الإنسان والأوطان قبل الأديان ، وكان مجرد تعيينه إهانة لمصر قبل وبعد إهانة ثورتها ، كان الزند وجها "عكاشيا" للقضاء المصرى ، تماما كما كان توفيق "عكاشة" ـ أصل التشبيه ـ هو المادة الخام للجهالة النشيطة ، وللتبجح والادعاء الفضائحى المدمر لسمعة البلد ، كان مثالا لفضيحة انتهت بخيانة ، وبشكة دبوس فثأت الفقاعة ، ثم ضاع "العكش" تحت ركام الأحذية ، وذهب ضحية الهوى "الإسرائيلى" ولقاء الخيانة مع سفير العدو الأبدى ، وهى حالة مشابهة لما انتهى إليه الزند فى سيرة ازدراء العدالة وحقوق المصريين ، فكما دفعته العجرفة إلى إهانة النبى ، فقد دفعه الهوى "الإسرائيلى" الكامن قبلها إلى احتذاء سلوك عدو الأمة ، وجعله غاية ومثالا يقتدى ، فقد طالب الزند ـ فى نوبة عجرفة ـ بإعدام آباء وأمهات وأسر "الإرهابيين" ، ولم يكن ذلك فى "زلة لسان" عابرة كالتى مست النبى ، واستغفر واعتذر عنها فيما بعد ، بل فى مقام التصريح الرسمى ، وفى لقاء مع مسئول كويتى زائر ، قال الزند ما قال قاصدا متعمدا، ودون أن يرمش له جفن ، وهو الذى يدعى ثقافة دينية أزهرية ، وسبق أن ارتدى "الجبة والقفطان" فى رحلة عمل غامضة بدولة خليجية غنية يهرب إليها الآن ، وهو ما قد يوحى بثقة فى تدينه أكبر من الثقة فى قضائه ، ثم تكشف مع "شيخوخة" الزند هوان "مشيخته" ، وأن الرجل لا يفقه فى أمور الدين ولا فى اعتبارات القضاء معا ، وتصريحه الرسمى جعله فى وضع الذى ضبط "متلبسا" بجرم دينى وقضائى ، فأبسط أبجديات الدين أنه "لاتزر وازرة وزر أخرى" ، وأبسط بديهيات القضاء أن "العقوبة شخصية" ، وليست عشوائية ولا عائلية ولا بالكوم ، كما ذهب الزند فى التصريح الوحشى العبثى ، والذى لا يطبق مقتضاه أحد فى هذا العالم سوى قوات الاحتلال الإسرائيلى ، وهى تعاقب عائلات "الفدائيين" الفلسطينيين ، وتهدم بيوتهم وتشردهم ، ولا تكتفى بقتل الفدائى الذى تسميه "إرهابيا" ، وهكذا بدت "عكاشية" الزند بهواها الإسرائيلى فى العقل الباطن ، قبلها كان له تصريح "عكاشى" أفظع ، يزدرى الدين والقضاء بالجملة ، فقد كان يقدم نفسه كفتوة و"قبضايا" فى الحرب ضد إرهاب الإخوان ، ولا ينقصه سوى أن يضع شارات جنرالات الشرطة على كتفه ، تماما كما كان توفيق عكاشة يتصور نفسه ، فقد كان كلاهما يصف نفسه ، أو يصفه مشايعوه ، بأنه "مفجر الثورة" ، بينما لم يكن للزند ولا لعكاشة سوى وصف وحيد يليق ، وهو أن كلاهما "يفجر نفسه" ، ويدفعه الهوى ـ بالعجرفة و"الجهلوت" ـ إلى الصعود السريع نحو الهاوية المستحقة ، فقد أخذت الزند العزة بالإثم ، ودفعه انتفاخه المرضى لطلب قتل عشرة آلاف "إخوانى" مقابل كل شهيد يسقط من الشرطة ، وضرب ـ مثلا ـ بقتل أربعين شرطيا فى سيناء ، وهو ما يعنى كما قيل وقتها ، أن الزند طالب بقتل 400 ألف "إخوانى" ، وكما بدا التصريح متعجرفا مستهينا بالعدل وحياة الناس ، وبالمبدأ الدينى والقضائى البديهى "العين بالعين والسن بالسن" ، فقد كانت تلك طريقته العنصرية الفجة اللامبالية بالشعب المصرى وتقاليده المتحضرة ، ومن أول تصريحاته عن "توريث وظائف القضاء" ، وإلى تصريحه الأشهر "نحن السادة وغيرنا العبيد" ، كانت هذه الكلمات وأمثالها من أرشيفه الفظ ، وقيلت ونشرت قبل تولية الزند لوزارة العدل ، وكانت كافية جدا لحرمانه من اعتلاء منصة القضاء ، لا أن يتم اختياره وزيرا ، ولا أن يكلف بإعداد تشريعات معيبة نصا وفصا ، موصومة بعدم الدستورية كقانون مكافحة الإرهاب ، أو مشوبة بهوى "تقنين الفساد" على طريقة تعديلات قانون الكسب غير المشروع ، أو راغبة فى تحصين وتكريم الفساد والفاسدين ، وحمايتهم من التعقب والمطاردة ، كما فى تعديلات قواعد تعيين وإقالة رؤساء الأجهزة الرقابية الكبرى ، وبنية كان يعلنها الزند بغير مواربة ، هى تسهيل العصف بالرئيس المحترم لجهاز المحاسبات .
والمعنى بوضوح ، أن جريرة الزند ليست موقوفة على إهانة اسم النبى ، وعلى طريقة "لو كان النبى هاحبسه"، التى اعتذر واستغفر عنها ، ووصفها بأنها "زلة لسان" جرى استدراجه إليها ، وكانت القشة التى "قصمت ظهر البعير" كما يقول المثل العربى القديم ، فقد كان الزند فى طريقه إلى "المفرمة" بإساءته إلى النبى أو بغير الإساءة ، وكان قد تحول إلى عبء لا يطاق على سلطة الرئيس السيسى الذى عينه ، وكان لابد من "فرمه" والتخلص منه ، فقد تحول إلى مركز قوة وجيب نفوذ متضخم ، وإلى نقطة استقطاب لجماعات الفلول ، ولمصالح "رأسمالية المحاسيب" الغارقة بالفساد ، وللإعلام الملوث ، الذى يملك مليارديرات النهب غالب قنواته وصحفه ومواقعه الإلكترونية ، وكانت قصص المصالحات فى جرائم النهب العام هى كلمة السر فى غرف العفن ، فقد كان الزند لا يخفى هواه الفلولى ، ويتخفى وراء لافتة "العداء للإخوان" كما يفعل الإعلام الفلولى فى العادة ، ويهون من خطر الفساد قياسا إلى خطر الإرهاب ، ويصور نفسه كزعيم سياسى وقطب نظام ، استقطب بالامتيازات المفرطة فئات غالبة فى السلك القضائى ، وانتدب مئات القضاة فى وظائف كبرى برواتب ضخمة فى وزارة العدل ، ودفعه إحساسه بالتضخم إلى العناد فى لحظة "الفرم" ، ورفض التنفيذ الفورى لأمر الاستقالة الذى أبلغه به رئيس الوزراء ، والذى طلب منه أن "يلم الدور" على حد التعبير السوقى اللائق فى مخاطبة أمثال الزند ، وبعد ثلاث ساعات لاهثة ، صدر أمر الإقالة الفورية ، وفى ديباجة القرار المنسوب لرئيس الوزراء إشارة صريحة ، ونص على كونه أتى بناء على ما "وجه به رئيس الجمهورية" ، وكانت تلك العبارة هى نهاية محاولة انقلاب صغيرة لأنصار الزند ، والذين بلغت بهم الجرأة والوقاحة حد إصدار بيان يرفض عزل الزند باسم "نادى القضاة" ، وكأنهم يصنعون للرئاسة قراراتها (!)، كان الزند فى حالة ذهول ، لا يصدق ما يجرى له ، ولم يجد فى قصر الرئاسة من يرد على توسلاته ، ولا نفعت شفاعة شيخ الأزهر فيه ، وانتهى إلى مصير الذبح بالسكين البارد ، و"لم الدور" فورا ، وتركه أنصاره للمصير البائس ، والذى ينتظرونه بدورهم ، وعادوا للصمت كموظفين صغار يتخوفون من مصيرهم بعد الزند ، ويعرفون طريقة الدولة المصرية حين تأخذ قرارها بيدها ، فالملفات جاهزة ، وكواليس ما جرى فى المصالحات إياها تحت الفحص والتدقيق ، وهى لم ترد للدولة مليما ، بل أعطت جوائز الحصانة للفاسدين ، وجرت فيها مساومات وصفقات مذهلة ، شارك فى بعضها شخص من أرامل الزند ، موبوء ومشهور ببذاءاته "السكسكية"، وهو ما يفسر صيحات الغضب التى توالت فى إعلام مليارديرات النهب، وقول مذيع ـ بدرجة أمين شرطة ـ "أخطأت ياسيسى" منددا بقرار إقالة الزند ، بينما قرار الرئيس بإقالة الزند و"فرمه" فى محله تماما ، وهو مجرد تصحيح لخطأ قاتل شوه وجه السيسى قبل غيره ، واستنزف شعبيته ، فلم يحظ قرار للسيسى بارتياح شعبى كما جرى مع إقالة الزند ، ولم يفرح المصريون منذ خلع مبارك وعزل مرسى ، كما فرحوا بقرار "فرم" الزند ، والذى كان مقررا له أن يتم مع التعديل الوزارى المقبل ، لكن عجرفة الزند أوقعته فى الكمين ، وعجلت بساعته .