المحرقة بين بيرم وأبو شمالة

السبت، 12 أبريل 2025 04:45 م
المحرقة بين بيرم وأبو شمالة

الشاعر العربي الفلسطيني فايز صلاح حسين أبو شمالة تجرع مرارة جوع أهل غزة ووقف أمام موقد بدائي يحرق ديوان شعر نازك الملائكة لإنضاج الطعام
 

تمضي حركة التاريخ إلى الأمام، ولكن في وطننا العربي يبدو التاريخ دائريًا أو حلزونيًا، أو كأنه يبدأ ثم يتشعب ثم ينتهي في متاهة بيت جحا الشهيرة، فلا تدري في أي غرفة أنت ولا كيف دخلت أصلًا ولا كيف ستغادر!

وقد نسبوا إلى كارل ماركس أنه قال: الأحداث الكبرى في التاريخ قد تتكرر مرتين، في المرة الاولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة.

وقد رأيت مأساة المعاصرة فذكرتني بمأساة قديمة.

أن تحرق كتابًا فتلك لعمري أعظم المآسي، وأن يتركك العالم كله تحرق كتابًا ولا يهب لنجدتك فتلك هي المهزلة، مهزلة تخلي العالم عما بقي له من ضمير!

المأساة القديمة مر عليها ما يقرب من قرن، فقد هجا الشاعر الأستاذ محمود بيرم التونسي الملك فؤاد الأول، فقرر جلالته نفي بيرم (لا فرق بين النفي والتهجير). غادر بيرم بلده مصر إلى بلد أجداه تونس، وضاقت به تونس فغادر إلى فرنسا، وفيها تجرع مرارة كل شيء من وحدة إلى جوع إلى غربة تأكل القلب والروح، سجل بيرم في مذكراته أحداث تلك الأيام فقال: "كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين، كنت في البداية أتصور الأشياء واستعرضها في ذاكرتي، هذا طبق فول مدمس، وهذه منجاية مستوية. وهذه يا ربي رائحة بفتيك تنبعث من عند الجيران، ثم أصل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى أمعائي، ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة فهي أفضل من هذا العذاب الأليم. وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني، وتحدثني نفسي أن أكل قطنه أو أبحث عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت".

في نوبة من نوبات الجوع خسر الأدب العربي كنزًا لا يعوض، جاع بيرم حتى وصل لمرحلة الهذيان، فتش غرفته للمرة الألف، فوجد بصلة، فراح يستحلب ريقه وهو يتخيلها مشوية، بحث عن كبريت ليشعل النار ويشوي البصلة فلم يجد الكبريت، بعد طول تردد طرق باب جاره الذي قدم له متأففًا عودًا واحدًا، حاول بيرم إشعال العود ففشل، طرق باب جاره ثانية ولكن الجار رفض إعطائه عودًا جديدًا!

ظل بيرم واقفًا أمام باب غرفته يرتجف من البرد والجوع، حتى صعد جار قدم لبيرم علبة كبريت كاملة!

بعد حل مشكلة الكبريت، تذكر بيرم أنه لا يمتلك أي نوع من المواد الصالحة لأن تكون وقودًا يشوى به البصلة!

بعد طول تفكير جاء بيرم بقواميس اللغة والخطابات التي أرسلها إليه عباس العقاد وسيد درويش، ومع الخطابات وضع ديوان أبي العتاهية، وأشعل النار منتظرًا الشواء الجميل، سرعان ما احترقت الخطابات الغالية وسقطت البصلة بين رمادها، فخسرنا كنزًا من الخطابات المتبادلة بين العمالقة ولم يربح بيرم بصلة مشوية.

عصر الجمعة الثالث من إبريل 2025 بثت الفضائيات المأساة ذاتها ولكن بعد مرور قرن على المأساة الأولى!

بطل المأساة المعاصرة هو الشاعر العربي الفلسطيني فايز صلاح حسين أبو شمالة (نعرفه باسم فايز أو شمالة). تحدث هو عن نفسه فقال: "أنا من مواليد مخيم خان يونس، عملت مدرساً حين ألقي القبض عليّ من قبل الجيش الإسرائيلي سنة 1984 بتهمة مقاومة الاحتلال، والاشتباك مع جنوده. اصدرت المحاكم الصهيونية حكمها عليّ بالسجن لمدة ثمانية عشر عاماً، درست خلالها اللغة العبرية.

خرجت من السجون الإسرائيلية يوم توقيع اتفاقية القاهرة في 1994، بعد أن أمضيت ما يقارب عشر سنوات، نشرت خلالها ديوان شعر بعنوان (حوافر الليل) وكتاب الانتفاضة في قواعد اللغة العربية، لقد فزت أثناء وجودي في السجن بجائزة مركز إحياء التراث العربي في مدينة الطيبة في (إسرائيل) عن بحثي (على صهوة الشعر) دراسة على شعر الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود سنة 1992.

نشرت في القاهرة، بعد الخروج من السجن ديوان شعر (سيضمنا أفق السناء).

اتممت دبلوم الدراسات العليا بعد الخروج من السجن سنة1997 وتقدمت للماجستير في دراسة نشرت في رام الله عن المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي سنة 2003 باسم (السجن في الشعر الفلسطيني)

حصلت على شهادة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى من معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة سنة 2004، عن دراسة بعنوان: الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين من سنة 1987لغاية سنة 2002 وفيها ترجمت إلى اللغة العربية شعراً لأكثر من سبعين شاعراً وشاعرة من اليهود.

أعمل حالياً مديراً عاماً في وزارة شئون الأسرى والمحررين في فلسطين، وكان قد تم اختياري عضواً للمجلس الوطني الفلسطيني سنة 1996.

‏كان لي بيت فاخر، وكانت لي سيارة جيب، وكان لدي سائق وحارس أحياناً، اليوم أنا أمتطى الحمار، في مواصي خان يونس، وتحت أشعة الشمس الحارقة، ولا عيب في ذلك، العيب في الانكسار الروحي، ورفع الراية البيضاء".

ولأن الدكتور فايز يقيم في غزة فقد تجرع مرارة جوع أهل مدينته، لقد رأيناه يقف أمام موقد بدائي، يحاول إنضاج طعام ما، كانت النار ضعيفة، فلا وقود سوى قطع من الكرتون، ظهر الرجل شاحبًا جائعًا، تكلم أمام الكاميرا فقال: ديوان شعر نازك الملائكة، من أشعارنا العربية الفاخرة والرائعة، نحن اليوم مجبرون في قطاع غزة بعد أن استخرجنا ديوان الشعر هذا من تحت الردم، أن نحرق أشعارنا وتاريخنا وحضارتنا وإنسانيتنا في النار، كي نطهو طعامنا وخبزنا.

أنا حزين وأنا أحرق ديوان شعر نازك الملائكة، وأعتذر للشعراء والكتاب والأدباء والقراء، وأعتذر للأمة العربية كلها التي خذلتنا وقصرت عن حمايتنا وتوفير شربة ماء أو رغيف خبز أو نار نطهو بها طعامنا، شكرا لأمتنا العربية سنحرق أشعارنا". متى سنتحرر من قيود المآسي والمهازل؟.. هل سننتظر إلى أن يحرق أحدهم ما هو أهم من الشعر والنثر؟

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق